الحلقة السادسة عشر: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حيَّاكم الله وأهلًا وسهلًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: "عباد الرحمن".
أحمدُ الله حق حمده، {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70] حمدُه يفتحُ أبوابَ العطاء، ويوجب المزيد من الفضل، كما أنهُ يُدرِكُ بهِ العبد رضا ربِّه ـ جلَّ في علاه ـ فاحمدوه على كل إنعام، تنالوا منه المزيد من الفضل، وتُدرِكوا رضاه: «فَإِنَّ اللَّهَ يَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ يَأْكُلُ الْأَكْلَةَ، فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا» صحيح مسلم(2734) فلهُ الحمدُ ملء السماء والأرض، وملء ما شاء من شيءٍ بعد.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأنَّ مُحمدًا عبدُ اللهِ ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه، ومنِ اتبعَ سنته، واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فأسألُ اللهَ العظيم، رب العرش الكريم، أن يجعَلَني الله وإيَّاكم من عباد الرحمن، عبادُ الرحمن ذكر اللهُ تعالى من صفاتهم، ما يُبيِّنُ كريم خصالهم، وطِيبَ مَعْدَنِهم، وبهاءَ مظهرهم، وجمالَ بواطنهم، فقد جمعَ اللهُ لهم من الكمالِ في الظاهر والباطن، ما جعلهم أهلًا للاختصاص والفضل، أهلًا لأن يُضيفهم اللهُ تعالى إليه، فهم عباد الرحمن أضافهم إليه إضافة تفخيم، إضافة تشريف وتكريم، إضافة توقيرٍ وإجلال، إضافة إشادةٍ بما كانوا عليه من صالح الأعمال، فهنيئًا لمن انضم إلى سلكِهم، وهنيئًا لمن تخلَّقَ بأخلاقهم، ربُّنا ـ جلَّ في علاه ـ ذكرَ من خصال هؤلاء جملة من الخصال، وقد ذكرَ في غيرِ سورةِ الفرقان، من خصالهم شيئًا كثيرًا، لكنَّ اللافِتَ للنظر أنَّ الله عندما ذكرَ عباد الرحمن في سورةِ الفرقان، ذكرَ في أول خصالهم، فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] عجبًا أن تُذْكَر هذه الخصلة قبل سائر الخصال التي هيَ من أصولِ وخصالِ وصفاتِ عباد الرحمن.
إنَّ ذكر هذه الخصلة يُلْفِتُ الانتباه إلى تحقيق هؤلاء لمعنى ما آمنوا به وللإسلام الذي دانوا بهِ، هم كما قال النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» صحيح البخاري(10)، ومسلم(40) فهؤلاء قومٌ سَلِمَ الناسُ من أعمالهم فلم يُدركوا شرًّا من أعمالهم، كما أنهم لم يصل إلى الناسِ شرٌّ من أقوالهم، بل هم سلامٌ وسِلْمٌ لكل من عاشرهم وعاملَهم، هذا هو ما يتصفُ بهِ عباد الرحمن؛ لذلكَ قال: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] عندما تُذْكَر هذه الآية، قد يتبادر إلى الذهن أنَّ مِشْيةَ عباد الرحمن، مشيةَ تماوت، وضعف، وتأخر في السير، وهذا ليسَ بوصفِ أهل الإيمان، الذين قال اللهُ ـ جلّ وعلا ـ في شأنهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، إنما المقصود بالهَوْن هُنا ليسَ بطئ المسير، وليسَ أن يكونَ الإنسانُ في مِشْيَتِه مُتماوِتًا؛ فالنبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانَ حيًّا في مسيرة، حتى إنهُ يُتعِبُ من يُسايره من أصحابه، لنشاطه، وقوته في مسيره ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إنَّما الهون هُنا هوَ في حالهم ومظهرهم وتواضعهم لله عز وجل وخفضهم الجناح للناس، فليسوا أهلَ تبختُرٍ، ولا كِبر، بل هم سالمون مما ذكرَ اللهُ ـ تعالى ـ فيما نهى عنهُ أهل الإيمان: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37] فسلموا من هذا الوصف، وهو مِشيةُ الكبرِ، والخُيلاء، مشية العلو والزهو، مشية التبختر التي تعكِسُ ما في القلب من تعظيم الذات، تعكِسُ ما في القلبِ من رؤية النفس، حتى عَمِيَ عمَّا حولهُ ومن يُحيطُ به، فلم ير إلا نفسه؛ لذلكَ كان أهلُ الإيمان على نقيضِ ذلك، فهم أهل خضوعٍ وذُلٍّ؛ لأنَّ الله ـ تعالى ـ أمرَ أهل الإيمان بالتواضع، فقد جاءَ في الصحيح، من حديث عِياضِ بن حِمَار – رضي الله تعالى عنه – أنَّ النبيَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا» صحيح ابن ماجة(3415) هذا النص على هذه الخصلة، وإضافة الخبر بها إلى الوحي مما يدل على شريف مقامِها، وأنها سِمة وخصلة عالية يرتفع بها الإنسان، ويسمو بها عن الرذائل والقاذورات في السلوك والأخلاق، «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا»، وهذا التواضع لهُ حدٌّ، حتى لا يفخرَ أحدٌ عن أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد؛ لأنَّ خلاف التواضع هو الكِبر، والكِبرُ يحملُ على الخُيلاءِ، يحملُ على التفاخر، يحملُ على التنقُّص على الآخرين، يحمِلُ على البغي، فلذلكَ السلامة من هذا كُله أن يُحقق الإنسان، التواضع لله ـ عز وجل ـ في منطقه، التواضع لله ـ عز وجل ـ في منظره، التواضع لله ـ عز وجل ـ في معاملته، التواضع بخفض الجناح لأهل الإيمان، فقد أمرَ اللهُ تعالى المؤمنين، ومنَّ على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن جعلَهُ خافض الجناح؛ {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غاية التواضع لأصحابه، وكانَ يخفض الجناح لهم، كما أمرهُ اللهُ ـ تعالى ـ في قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215].
من الضروري أيها الإخوة والأخوات، أن نعلم أنَّ التواضع لا يتعلَّق في صورة الإنسان في زيِّه وملبسه، إنما التواضع في حقيقته أن لا يرى لنفسه على غيره فضلًا، هذا هو العنوان الذي إذا تحقق في قلبك فإنكَ من المتواضعين، ولو ركبتَ أفضل المراكب، ولو لبستَ أفضل الملابس، ولو ظهرتَ بأبهى المناظر فإنهُ لا يكون التواضع إلا بِخُلقٍ يتحلَّى به القلب وشعورٍ يسكنُ في النفس، أنهُ لا فضلَ لكَ على أحد، وإنَّ ما أنتَ فيه من الفضل في ملبسك أو منطقك أو رأيك أو نسبك أو بلَدك أو حالك إنما هوَ فضلُ الله ـ عز وجل ـ الذي تفضَّل بهِ عليك، فلا يستدعي هذا أن ترتفع على الخلق، بل المطلوب هو أن تتواضعَ عن الخلقِ، فكُلَّما زادكَ اللهُ فضلًا فزِدْ تواضُعًا، فإنَّ التواضعَ يجلِبُ خيرًا كثيرًا؛ ولذلك قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَمَا تَوَاضَعَ عَبْدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ» صحيح مسلم(2588) هذه معادلة عكسيَّة.
زد في التواضع تزدد في العلو والارتفاع، والعكسُ كذلك كُلما علا الإنسان وتكبّر، كان في انخفاضٍ ونزول، ولذلك احرص على أن تتواضع، لا ترى لنفسكَ عليكَ فضلًا ، ما منَّ اللهُ بهِ عليك اشكر الله عليه، لكن لا تتكبَّرْ بهِ على الخلق، ولا تسمو بهِ على الناس، لا في قولك ولا في مشيتك ولا في عملك ولا في حالك ولا في نظراتك، بل كما قال اللهُ ـ تعالى ـ: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18]، إنَّ المؤمن يتخلَّق بهذا؛ طلبًا لما عندَ الله وتكميلًا لنفسه.
والمتكبِّرونَ هم أشقى الناس في الدنيا والآخرة؛ لأنهم في عناءٍ نفسيٍّ وضيقٍ لا ينتهي بموتهم، بل في الآخرة ينعكس عُلُوُّهم، وكِبرُهم إلى صَغار، فقد قال النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالذَّرِّ، يَطَؤُهُمُ النَّاسُ بِأَقْدَامِهِمْ» سنن الترمذي(2492) وتأمَّلْ هذه الصورة، هم عَلَوْا، وارتفَعُوا على الناس في الدنيا، فكانت حالهم في الآخرة أنِ انخفضوا فحُشروا على هذه الصفة التي يطؤها الناس بأقدامهم، فلا يُؤبَه لهم، ولا يُنتبه لهم؛ ولذلكَ احرص أن تكون من المتواضعين، فكُلما ازدَدْتَ تواضعًا لله ـ عز وجل ـ وتواضعًا لعباد الله ازددتَ عُلوًّا، ورفعة، وقد قال ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: «وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ» صحيح مسلم(2588) ، وأنتَ عندما تُعامِل الناسَ معاملةً ترجو فيها عطاء الله وثوَابَه، سَهُلَ عليكَ أن تُقدِّمَ الإحسان، والبر؛ لأنكَ ترجو العطاءَ من ذي الفضلِ والإحسان الذي يُعطي على القليل الكثيرَ.
تواضعوا لإخوانكم ولِينوا في أخلاقكم، واحتسبوا الأجرَ عند الله، فتلكَ خصلة من خصال عباد الرحمن، جعلني الله وإياكم منهم.
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: "عباد الرحمن" أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.