المقدم: حديثنا بإذن الله سبحانه وتعالى في هذه الحلقة - مستمعينا الكرام - عن موضوع الاعتكاف، سنتحدث بإذن الله تعالى في هذه الحلقة عن هذا الموضوع المهم، فأهلًا وسهلًا بكم مستمعينا الكرام.
مستمعينا الكرام.. إن من الجميل والحسن أن تحيا السنن، وأن تظهر شعائر الدين، ومن ذلك سنة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، تأسِّيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبأصحابه، وبسلف هذه الأمة.
تُشاهَد هذه السُّنة الجليلة في الحرمين الشريفين، وكذلك في الجوامع والمساجد في مختلف المناطق والدول، ولعل مما يجدر التنبيه إليه في هذا الحديث معنى الاعتكاف؛ إذ إن كثيرًا من الناس لا يدركون حكمة هذه السنة العظيمة؛ الحكمة من مشروعيتها، إضافة إلى وقوعهم في أخطاء ينبغي التنبيه عليها لتفاديها.
شيخ خالد عندما نتحدث عن موضوع الاعتكاف في البداية ربما نريد توضيحًا لهذه العبادة، معناها، ومعنى الاعتكاف، ثم بعد ذلك ننطلق إلى الحكمة من مشروعيتها، وبعض أحكامها.
الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الشيخ: مرحبًا أخي عبد الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المستمعين والمستمعات، وأسأل الله عز وجل أن يكون هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
بخصوص الاعتكاف، الاعتكاف عبادة جليلة، شرعها الله تعالى لعباده المؤمنين تقربًا إليه، وطلبًا للزلفى عنده جل في علاه، والمؤمن يحتاج أن يعرف ما مقصود العبادات، حتى يحقق ذلك في عمله، وفي قوله، وفي قلبه وقالبه.
الاعتكاف حقيقته: لزوم مسجد لطاعة الله تعالى، هكذا عرَّفه العلماء فيما ذكروا من تعريف هذه العبادة.
التعبد لله عز وجل بلزوم مسجد لطاعة الله عز وجل.. ولزوم مسجد يُفهم منه أن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد، فلا يكون في البيوت، ولا يكون في المحلات الأخرى إلا ما كان من المساجد التي ذكرها الله تعالى في قوله: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ النور: 36-37.
فالاعتكاف هو عمل عبادي يقوم به المؤمن طاعةً لله عز وجل، بلزوم بيت من بيوت الله عز وجل لطاعته، وهو عبادة قديمة، وليست جديدة، وقد ذكرها الله تعالى في غاية بناء البيت وعمارته؛ فقال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ ثم قال: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ البقرة: 125.
وقال جل وعلا في سورة الحج: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا﴾ ثم قال: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ الحج: 26.
والقائمون هم العاكفون فيما ذكر الله تعالى في الآية السابقة في آية البقرة.
وقد قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ الحج: 25.
فالاعتكاف عبادة ثابتة في القرآن، وأخبر الله تعالى بها عن الأمم السابقة، وجعل تطهير البيت الحرام لأجل الطائفين والعاكفين والركع السجود.
وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالاعتكاف ثابت في هدي النبي صلى الله عليه وسلم وعمله بالاتفاق، لا خلاف بين العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع الاعتكاف، وأن الاعتكاف عمل يُتقرب به إلى الله عز وجل، وأنه من المستحبات، وأصله في فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما أخبرت به عائشة في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف أنه اعتكف شهرًا في شهر رمضان في سنة من السنوات، فقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم قال لأصحابه وقد هموا بالخروج: «مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي، فَلْيَعْتَكِفِ العَشْرَ الأَوَاخِرَ، وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا».
فاكتمل للنبي صلى الله عليه وسلم اعتكاف شهر كامل طلبًا لليلة القدر.
وقد ذكر الله تعالى الاعتكاف في آيات الصيام، فقال جل وعلا: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ البقرة: 187.
فالاعتكاف لا إشكال في ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومشروعيته، وهو عبادة من العبادات، ويُسن في هذا الشهر على وجه الخصوص في العشر الأخير منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدام اعتكاف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ودام على هذه السنة أزواجه من بعده، وكذلك الأمة.
ومن المهم، ونحن قد فرغنا من تقرير مشروعية الاعتكاف، وأنه عبادة جليلة يُتقرب بها إلى الله عز وجل، ليس فقط في هذه الأمة، بل حتى في الأمم السابقة، كما دلت الآيات، أن نعرف لماذا شُرع الاعتكاف.. وإدراكُ مقاصد العبادات مما يوضح للعبد الغاية من هذه العبادة، ثم ذلك يفيد في قياس مدى تحقيقه لأهداف العبادة؛ لأنه ما شرع الله تعالى من عبادة قلبية أو قولية أو عملية، بدنية أو مالية، إلا ولها حكمة، ولها ثمار تُجنى، ومقاصد تُحَصَّل، فمن المهم أن يعيَ المؤمن تلك المقاصد، وأن يتلمَّس تلك الغايات والحِكم والأسرار التي من أجلها شُرعت هذه العبادات، ليتمكن من تحقيقها، ويسعى في الوصول إليها.
وكذلك ليفتش عنها في قلبه وقوله وعمله؛ ليقيس مدى ما أدرك من مقاصد العبادة.
وهذا المعنى –يا أخي عبد الله، ويا أيها الإخوة والأخوات- يُغفل عنه كثيرًا، وهو الانتباه إلى مقاصد العبادة، فليست العبادات أعمالًا أو حركاتٍ بدنيةً، لا غاية منها ولا مقصود، بل هي عبادات لها مقاصد وغايات وثمار جليلة، وعواقب حميدة ينبغي للمؤمن أن يحرص على أن يمتثلها، وأن يبلغها، وأن يدركها من خلال عباداته.
فمثلًا الصلاة؛ الله عز وجل يقول: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ العنكبوت: 45، يعني: ما فيها من ذكر الله، وحضور القلب، وطيبه في ذكره جل في علاه، تسبيحًا، وتمجيدًا، وتقديسًا؛ أعظم مما يدرك من الفوائد الأخرى، وإن كانت الصلاة يتحقق منها النهي عن الفحشاء والمنكر.
كذلك في الصوم، فهو عبادة يشتغل بها المؤمنون، ليس غرضه ولا قصده أن يتعِب الإنسان بدنه بمنع ما يُشتهى ويُلتذ به من المطاعم والمشارب، ونحو ذلك، إنما المقصود من الصوم أن يحقق العبد التقوى، ولهذا في أول آيات الصيام يقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة: 183.
وكذلك في آخر آيات الصيام أشار الله جل وعلا إلى هذا المعنى؛ فقد قال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ البقرة: 187، فالتقوى هي المقصود مبدأً ومُنتهًى في الصوم.
ولهذا جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
وهذا يؤكد ضرورة العناية بمقصود هذه العبادات، وأن المقصود من الصوم هو أن يكف الإنسان نفسه عن المعاصي، والسيئات، والرذائل، والموبقات، ومَن صدق الله صدقه الله، ووفقه إلى إدراك تلك الغايات والمقاصد.
المقدم: الاعتكاف عبادة جليلة، فما مقصودها، وما غاياتها، ولماذا شرعت؟
الشيخ: الاعتكاف مشروع في الأصل لعكوف القلب على طاعة الله وذكره وعبادته، ولذلك يقول العلماء في تعريف الاعتكاف: لزوم مسجد لطاعة الله عز وجل.
(لزوم مسجد) معنى هذا أنه حبس للنفس عن الانتقال والذهاب والمجيء إلى خارج هذا المكان، فإذا اعتكف الإنسان فإنه يلزم نفسه البقاء في المسجد.
وهذا الاعتكاف غايته هو جمع القلب، وخلوة النفس، وانقطاع الإنسان عن الاشتغال بالخلق، والإقبال على الخالق، والاشتغال به ذكرًا، وتفريغ القلب عن كل الشواغل من أمور الدنيا، وتحصينه، وكذلك يقصد به تحصينه بحصن يمنعه من الالتفات إلى غيره جل وعلا.
قال عطاء رحمه الله: مثل المعتكف كمثل رجل له حاجة إلى عظيم فيجلس على بابه، فيقول: لا أبرح حتى تقضى حاجتي.
وأنت تعرف يا أخي أن الذي يقف عند باب صاحب الغنى، أو صاحب قضاء الحاجات، لا تجده مشغولًا بشيء غير تحقيق حاجته، وبلوغ غايته، فهكذا المعتكف.
فهذا الرجل جلس في بيت من بيوت الله، على باب من أبواب الرحمة، يقول: لا أبرح حتى تقضى حاجتي، فهو مشتغِل بذكر الله تعالى، بعبادته، بطاعته، بتسبيحه، بتحميده، بتمجيده، بسائر ألوان القربات والطاعات التي تصلح بها نفسه، ويستقيم بها قلبه، وعمله.
ومن مقاصده أيضًا: تحري ليلة القدر، وهذا مقصد واضح في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، حيث أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم قال صلى الله عليه وسلم للناس: «إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ» يعني أطلب ليلة القدر «ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ». فمن مقاصد الاعتكاف تحري ليلة القدر، والتفرغ لطاعة الله تعالى وعبادته فيها.