الحلقة السابعة عشر: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: "عباد الرحمن".
أحمدُ الله حق حمده، له الحمدُ في الأولى والآخرة وله الحكمُ وإليه ترجعون، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأنَّ مُحمدًا عبدُهُ ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه ومنِ اتبعَ سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ عباد الرحمن جمعوا كمالَ الخصال، جمعوا طيب الفِعال، جمعوا مكارم الأخلاق، إنهم أصحابُ برٍّ وخيرٍ وفضلٍ في معاملة الله ـ عز وجل ـ وفي معاملة الخلق؛ لذلك ذكرَ الله ـ جلَّ وعلا ـ في صفاتهم ما يُبيِّنُ كمالَ خصالهم في علاقتهم بالله ـ عز وجل ـ وفي صلتهم بالخلق فليسَ ثمةَ انفصالٍ، ولا انفصام بينَ الخُلُق الذي يتعاملُ بهِ المؤمن مع الخلق والخُلُق الذي يتعامل بهِ مع الخالق، فإنَّ ثمةَ ارتباطًا وثيقًا بينَ طيب الخصالِ في صلة العبد بربّه، وطيب الخصالِ في صلة العبد بالخلق؛ ولهذا يقولُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما جاءَ في مسند الإمام أحمد بإسنادٍ جيد: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَصَالِحَ الْأَخْلَاقِ» مسند أحمد(8925)، والحاكم(4221) حكم الألباني: صحيح ، والأخلاق هُنا بمفهومها العام الشامل الذي ينتظم كُلَّ خصلةٍ كريمة، وكُلَّ خُلُقٍ فاضل، وكُلَّ سجيَّة صالحة، سواءً كانت في معاملة العبد لربِّه، أو في معاملة العبد للخلق؛ ولذا لا تعجب أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أوائل دعوته، كان يأمرُ بصلة الأرحام، وبإغاثة الملهوف والعفاف، وغيرِ ذلكَ من الخصال الكريمة التي تنتظِمُ صلاح ما بينَ الإنسانِ وغيره، وإنَّ صلة الإنسان بالناس لا بدَّ وأن يعتريها ما يُكدِّرُها، فالناس مجبولون على أنواع من الخصال التي تحملُهم على الاعتداء، تحملُهم على التقصير، تحملُهم على الظلم، ومقابلة هذه الخصال بأمثالها، قد يفضي إلى ما يكونُ سببًا للشرِّ بينَ الناس، فلهذا نُدِبَ المؤمنون وعبادُ الرحمن إلى الكمال في معاملة الخلق، بفعلِ ما تقتضيهِ المصلحة من العفو والصفحِ، والإعراضِ عن أهل الجهل والخطأ؛ قال اللهُ ـ جلّ وعلا ـ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وهذا يُبيِّن أنَّ العفو المأمور به، إنما هو مقيَّدٌ بالإصلاح، فإذا كانَ العفو يُفضي إلى الاستطالة، يُفضي إلى الفساد، يُفضي إلى تضييعِ الخير، وتكثير الشر، فعندَ ذلكَ لا يكونُ العفو مأمورًا به، إنما يأمرُ بالعفو إذا كان صلاحًا.
من خصال أهل الإيمان وعباد الرحمن التي ذكرها اللهُ ـ تعالى ـ في مُحكَم الكتاب ما ذكرهُ في آيات سورة الفرقان، في قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، قال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] أي: إذا تكلَّم معهم أهل الجهل، والجهل يحملُ على عدمِ الإحسان في القول، وعدم الإحسانِ في العمل، وإنما ذكرَ ـ جلَّ في علاه ـ الخطاب في هذه الآية، لأنَّ الخطاب أهون ما يصل للإنسان من الإساءة، وإلا فقد يصل إليه إساءة فعليَّة، فيكون الإنسان إذا قابلَ القولَ بالسلام، فإنَّ ذلك يحمِلُه على الكف عن مقابلة الإساءة بمثلها، بل الله ـ عز وجل ـ أمرَ العبدَ، أن يدفع بالتي هي أحسن، وأن يدرأ بالتي هيَ أحسن، كما قال اللهُ ـ تعالى ـ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] وهذا يدل على أنَّ الدفع بالتي هي أحسن، سواء كانَ قولًا، أو كانَ عملًا، أو كانَ فعلًا، هو مما يحصلُ بهِ الخير للإنسان، ويندفعُ بهِ عنهُ إساءةٌ، ويندفعُ بهِ عنهُ شرٌّ لا يَرد على خاطره في كثير من الأحيان، اللهُ ـ جلّ وعلا ـ يقول: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] فمن الجاهلون؟
الجاهلون هم صنفان من الناس: الصنف الأول: هم الذين لا يعلمون، فتصدرُ عنهم أفعالُ جهل عن غير علمٍ ولا وعي ولا إدراكٍ ولا بصيرة، وهذا حال كثير من الناس، في معاملتهم للخلق يجهلون، ويقعون في الخطأ، لكن ثَمَّةَ نوعٌ من الجهل، وهو الخطأ المتعمَّد، وهو فعلُ ما يريدُ بهِ الفاعل الإساءة، مع علمهِ بأنَّ ذلك إساءة، وخطأ، وهُنا يكونُ هذا أعلى ظُلمًا وأكبرُ خطأً وجُرمًا من ذاكَ الذي وقع في الخطأ عن غيرِ علم، أو وقع في الجهل عن غيرِ معرفة، فإنَّ ذاكَ أدنى منهُ منزلة في كلا الحالين، نَدب اللهُ ـ تعالى ـ أهل الإيمان، وذكر من خصال عباد الرحمن، أنهم يُقابلون الإساءة بالإحسان، ولذلكَ قال ـ جلّ في علاه ـ: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، قوله ـ جلّ وعلا ـ: {قَالُوا سَلَامًا} ليسَ المقصود بهِ هذهِ الكلمة بعينِها، بل المقصود أنهُ لا يكونُ منهم قولٌ يحصلُ بهِ إلا السلامة لمن يسمعه، والسلامة تتضمن كف الأذى، عدم مقابلة الإساءة بمثلها، بل تقتضي أن يحلُم الإنسان عمّن جَهِلَ عليه، ويكُفُّ غضَبَهُ، ولا يستجيب لتلك الاستفزازات، التي صدرت من الجاهل في معاملته، فحملتهُ على أن يتكلَّم بالكلام السيئ، فلا يُقابل المؤمن تلكَ الإساءة بمثلها، هذه مرتبة علو وفضل، ومنزلة سمو وارتفاع، لكن أذِنَ الله ـ جلَّ وعلا ـ لأهل الإيمان أن يُعاقبوا مَن أساء إليهم بمثلِ ما صدرَ منهم، ولذلك قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ما لم تكن محرمةً في ذاتها، فإذا سبَّ الإنسان سبّةً تتعلّق بوصفٍ لهُ بالقبيح، وليسَ فيها تحريم كلعن الوالدين مثلًا، أو القذف، وما أشبه ذلكَ من الألفاظ والأمور المحرّمة لذاتها، فإنهُ لا بأس أن يُقابل الإساءة بالإساءة، وهذا نوعٌ من السلام؛ لأنهُ لم يتجاوز، لكن كمالُ السلام هو أن يحلم؛ ولهذا قال الحسنُ البصري – رحمه الله – في قولهِ ـ تعالى ـ: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، قال: "حُلماءُ إذا جُهِلَ عليهم، لم يجهلوا" حُلماء؛ أي: أصحابُ حلمٍ، فإذا جُهِلَ عليهم لم يجهلوا، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يُفعِّل هذه الخصلة في سلوكه.
فالحلمُ: هو أن تكُفَّ نفسكَ عن الإساءة وعن الخطأ، وألَّا تُكافئ المخطئَ بخطئه وأنت قادر على مكافئته ومقابلته؛ احتسابًا للأجر وصبرًا على الخطأ، وأملًا في أن يرتدع الظالم عن ظُلمه بما تُعاملُه بهِ من إحسانٍ وفضل، وقد أثنى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الحلم الذي يحملُ الإنسانَ على أن يُقابل الإساءة بالإحسان؛ فقد جاءَ رجلٌ من بني عبد قيس، فقال لهُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ» صحيح البخاري(87).
الحلم هو أنْ تَكُفَّ إساءتك عمَّن أساء إليك مع قُدْرَتِك على مقابلة الإساءة بمثلها، ولا تعجل في المعاقبة، لا تعجل في المؤاخذة، هذا من الخصال الحميدة التي يُحبُّها اللهُ تعالى، وهيَ إمَّا أن تكون جِبلَّة، وإمّا أن تكون كسبًا، ومن كانَ مَجْبُولًا على ذاك فقد يسرَّ اللهُ تعالى لهُ الفضل الذي يبلُغُ بهِ منزلةً سامية، بأن يكون من عباد الرحمن، وإن كانَ من الصنف الآخر وهو الصنف الذي ليسَ عندهُ حلم، فعليه أن يتخلَّقَ بالتحلُّم، التحلُّم يُكسِب الحلم، ويعكس على النفس هذه الخصلة الجميلة؛ لذلكَ ينبغي للمؤمن أن يتحلَّم، ونحنُ في حياتنا نواجه استفزازات كثيرة، سواء كانَ ذلكَ من الأزواج، أو من الأولاد، أو من الأقارب، أو من الأصحاب، أو من عامة الناس، أو في الطُرقات، فإذا استجاب الإنسان لكُلِّ استفزازٍ بالانفعال، كان ذلكَ مهلكة لنفسه، ومتعبةً لهُ، وكانَ ذلك مُفضيًا إلى أنواع من الشر في صلة الناس وعلاقاتهم.
وقد وجَّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلًا، جاء يشكو قرابتَه بأنهم يَصِلُهُم، ويقطعونه ويحسنُ إليهم، ويُسيئونَ إليه ويحلُمُ عليهم ويجهلون عنه، فقال لهُ النبي ﷺ: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ، مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ» صحيح مسلم(2558) ، فمن تخلَّق بهذه الخصال واتصف بمقابلة الإساءة بالإحسان، وبالحلم عن الجاهلين، والحلم على أصحاب الخطأ، كان ذلكَ مما يجعل العاقبة الحميدة له، بعلوِّه على خصمه.
أسأل الله ـ عز وجل ـ أن يرزُقَني وإياكم طيب الخصال في الظاهر والباطن، وأن يجعلنا من عباد الرحمن، وعباد الله الذين هم أولياؤهُ {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62].
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: "عباد الرحمن" أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعُه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.