الحلقة العشرون: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا وأهلًا وسهلًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: "عباد الرحمن".
أحمدُ اللهَ إليكم، فهو المحمودُ بكُلِّ لسان، وهو المحمودُ على كُلِّ حال، لهُ الحمدُ في السماوات والأرض، لا أُحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله شهادةً تُنجي قائلها من النار، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُ اللهِ ورسوله، صفيُّهُ وخليله، صلى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه، ومنِ اتبعَ سنته، واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ أعظمَ كتابٍ جاءَ في بيانِ وصف الله ـ عز وجل ـ وما لهُ من الكمالات، وما لهُ من الأسماءِ الحسنى والصفاتِ العلا والأفعال الجميلة، أعظم كتابٍ جاءَ بذلك هو القرآنُ العظيم، فلم يأت في كتابٍ من الكتب السابقة ولا من الهدايات التي أرسلَ اللهُ ـ تعالى ـ بها الرسل، كمال في وصف الله وإيضاح ما لهُ من جلالٍ وكمال، كما جاءَ في القرآن العظيم، فإنَّ القرآنَ عظيمُ القدرِ في بيانِ ما للهِ من كمالات، فقد أخبرَ اللهُ ـ تعالى ـ في القرآنِ العظيم عن نفسه خبرًا يأسرُ القلوب، خبرًا يُجِل عظمة الرب ـ جلَّ في علاه ـ خبرًا يُبيِّنُ الكمالات التي لهُ سبحانهُ وبحمده، على نحوٍ يقطعُ الشكَ عن القلوبِ أنَّ لهُ نظيرًا أو مثيلًا أو شبيهًا أو كُفوًا أو سميًّا ـ سبحانهُ وبحمده ـ لم يقدروا الخلقُ قدرهُ ـ جلَّ في علاه ـ هذا الخبر في القرآن جاءَ ليؤكدَ كمال العبودية للرحمن، فإنَّ كمال العبوديةِ لله ـ عز وجل ـ لا يمكن أن يتحققَ لعبدٍ إلا بكمالِ خضوعه وذُّلّه، والخضوع والذُل ثمرةُ التعظيم؛ فتعظيم الله ـ جلّ في علاه ـ يُثمرُ في قلبِ العبدِ ذُلًا وانكِسارًا وخضوعًا وانقيادًا لله ـ عز وجل ـ فيتحقق لهُ بذلكَ الكمال في العبودية، فإنَّ العبادةَ قائمة على ركنين لا تصلحُ ولا تستقيم إلا بهما:
الركن الأول: هو كمالُ الحُبِّ لهُ جلَّ في علاه.
والركن الثاني: هو كمالُ التعظيمِ له، ولا يمكن أن يتحققَ حبٌ وتعظيمٌ لله ـ عز وجل ـ دونَ أن يتحققَ في قلب العبدِ ما يكونُ من العلمِ بالرب الذي إذا عَلِمهُ العبد، وعرفه كان ذلكَ موجبًا لانجذابه، محبةً لله ووجله تعظيمًا له؛ لهذا كانَ من صفاتِ المؤمنين أنهم إذا ذُكِر الله وجلت قلوبهم، إذا ذُكِر الله بعظمته وجلاله، إذا ذُكِر الله بأسمائهِ الحسنى، إذا ذُكر الله بصفاته العلا، إذا ذُكرَ الله بأفعاله ـ جلَّ في علاه ـ وجلت القلوب، لأنَّ ذكرَهُ في هذه الأحوال يُجلّه ويكشف للبصائرِ عظيمَ قدر الرب ـ جلَّ في علاه ـ ومهما كانَ الوصفُ بالغًا في كتاب الله، فإنَّ عقول الخلقِ تعجزُ عن إدراك كمال الرب؛ ولهذا الخلقُ قاصرون عن أن يُعظَّمُ اللهَ ـ تعالى ـ حقَّ تعظيمه، نحنُ قاصرونَ عن تعظيمه، حقَّ تعظيمه ـ جلَّ في علاه ـ ولذلك قال ـ جلًّ وعلا ـ في كتابه الحكيم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] في موضعين من كتابه سبحانه وبحمده، قال ـ جلَّ في علاه ـ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، وفي موضعٍ آخر قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67]، وكلاهما يُبيِّن عظيمَ النقص في علم الخلق بالله ـ عز وجل ـ الذي أفضى بهم إلى ألَّا يقومَ بحقه من الإجلالِ والتعظيم، لكنَّهُ مع هذا أَمَرَنا بأن نُعظِّمَهُ التعظيم الذي نُطيقه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقد قال ـ جلَّ وعلا ـ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، لن نبلغ الغاية في تحقيق العبودية، لأنَّ ذلكَ مما تقصر عنهُ قوانا وقدُراتُنا، لكن نستطيع أن نبذل الوسع في إظهار العبودية لله ـ عز وجل ـ بما نستطيع من امتثال الأمر وترك النهي، والعلم بالرب ـ جلَّ في علاه ـ والتعظيمِ لهُ والمحبة، كُلُّ ذلكَ نبذل منهُ شيئًا يسيرًا، حقُّ اللهِ أعلى وأعظم، لكنَّ الإشكال أنَّ أكثرَ الخلق عن تعظيمه معرضون، فلا يقومونَ بحقه، ولا يقدرونه حقَّ قدره، عظمته ـ جلّ في علاه ـ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90]، كما قال ـ سبحانهُ وبحمده ـ وفي قولٍ من أقوال المفسرين: {يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90] أي: تكاد السموات من عظمته ـ جلَّ في علاه ـ أن تتشقق خشيةً وهيبةً لهُ ـ سبحانهُ وبحمده ـ وتعظيمًا لهُ ـ جلَّ في علاه ـ القلوب إذا علمت قدرَ الربِّ خشعت وذلّت، إذا علمت قدرَ الله ـ عز وجل ـ وما لهُ من كمالات، وما لهُ من جميل الصفات ذلَّت، والذي يُكسبُ العبدَ تعظيم الربِّ العلمُ بالله عز وجل؛ ولذلك قال اللهُ ـ تعالى ـ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، والعلمُ بالله هو علمٌ بأسمائه، علمٌ بصفاته علمٌ بأفعاله، وقد بثَّ هذا في كتابه الحكيم، بل بثَّ هذا في كونه الفسيح، {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} [الروم: 50]، انظر إلى ما خلق اللهُ ـ تعالى ـ في السماءِ، والأرض: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] ولستَ بحاجة إلى أن تُبعد في النظر، بل {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] ثمةَ آيات بيِّنات وبراهين ساطعات تدلُّ على عظمة الصانع ـ جلَّ في علاه ـ على عظمة الخالق ـ سبحانه وبحمده ـ فينبغي للمؤمن أن يفتح عينَ قلبه، ليرى عظيمَ صُنعِ ربه، فإنَّ ذلك مما يوجبُ تعظيمه، الآن يا إخواني ويا أخواتي، إذا رأينا بناءً مُحكمًا وبرجًا مُشيَّدًا وصناعة مُتقنة، نعجب ويقع في أنفوسنا شيءٌ من التعظيم لهذا الإنجاز، وتشوَّف إلى معرفةِ مَنْ بناه ومن قامَ به، وإذا عرفناه ورأيناه وجدنا في أنفسنا شيئًا من التقديرِ لهُ لعظيمِ إنجازه، في هذا البناء أو هذا المنتج أو هذا المصنوع مع كونهِ شيءٌ يسير قليل، هذا في حقِّ المخلوق.
سَلْ نفسك، وسلي نفسكِ، هذا الخلق العظيم بسمائهِ وأرضه ألا يستحقُّ مُبدِعُهُ، وخالقه أن يُعظَّم، بلى والله إنهُ جديرٌ بذلك، وهو أهلٌ أن يُعظَّم، أهلٌ أن يُجَلَّ، أهلٌ أن توجَلَ منهُ القلوب خشيةً وخوفًا، أهلٌ أن تخضع لهُ قلوب الخلقِ إجلالًا، وتعظيمًا، هذا شيءٌ مما يوجبُ تعظيم الله ـ عز وجل ـ فيما يتعلَّق بخبره عن نفسه، وفيما بثَّهُ في سماواته وأرضه من الآيات الدالة عليه، كما أنَّ من موجبات حمده، ما يسوقه إليكَ من النعم، فهذا يوجبُ تعظيمه، فإنَّ الذي غذَّاك في بطن أمك، والذي ساق إليكَ الرزق لَمَّا خرجتَ لا تعلمُ شيئا هو الله، {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، ثم بعدَ ذلك ساقَ لكَ الأرزاق، ويسر لك الأسباب، ولا تظن أنَّ الرزق بمجرد كَدِّكَ وكسبك يحصل لكَ المطلوب، ألستَ تُدْخِل الطعام إلى جوفك، هذا غاية ما تصنعه، من الذي يهضم هذا الطعام؟ ومن الذي يوصله إلى أعضائك؟ أنهُ أمرُ الله الذي: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، فذاكَ كُلُّهُ يقدح في قلبك تعظيم اللهِ جلّ وعلا، أنتَ إليه فقير، مهما كنتَ غنيًّا، فلا تخرج عن فقركَ إليه، {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان: 26]، عظِّمهُ ـ جلَّ في علاه ـ فإنَّ تعظيمه يوصلك إلى مرضاته، تعظيم اللهِ ـ جلَّ وعلا ـ بابُ إجلاله والباب الذي تتحقق من خلالهِ العبودية لهُ جلَّ في علاه.
أسأل اللهُ العظيم، ربَّ العرشِ الكريم أن يرزقنا تعظيمه والذلَّ لهُ والخضوع وأن يملأَ قلوبنا بمحبته وأن يجعلنا من أوليائه وحزبه.
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: "عباد الرحمن" أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.