الحَمدُ لِلَّهِ حَمدًا كَثيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فيهِ كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضَى، أحمَدُهُ حَقَّ حَمدِهِ، لَهُ الحَمدُ في الأُولَى والآخِرَةِ ولَهُ الحُكمُ وإلَيْهِ تُرجَعونُ، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ إلَهُ الأوَّلينَ والآخِرينَ، لا إلهَ إلَّا هُوَ الرَّحمَنُ الرحيمُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورَسُولُهُ صَفيُّهُ وخَليلُهُ، خَيرتُهُ مِنْ خَلقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلهِ وصَحبِهِ ومَنِ اتَّبعَ سُنَّتَهُ واقتَفَى أثرَهُ بإحسانٍ إلى يَومِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ.
فإنَّ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ ذَكرَ في كِتابِهِ آياتٍ عَديدَةٍ مِنْها ما يَتعلَّقُ بالعَقائدِ والتعريفِ بِهِ ـ جَلَّ وعَلا ـ والتعريفِ بِما يَجِبُ عَلَى المُؤمنِ أنْ يُؤمِنَ بِهِ ممَّا يَتعلَّقُ بالمَلائكَةِ والكُتُبِ والرُّسُلِ واليَومِ الآخِرِ والقَدرِ خَيرِهِ وشَرِّهِ، ومِنْها آياتٌ لفَتَ اللهُ ـ تَعالَى ـ فيها الأنظارَ إلى بَديعِ صُنعِهِ وعَظيمِ قَدرِهِ وأسمائِهِ وصِفاتِهِ، ومِنْها آياتٌ ذَكرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ فيها أخبارَ الخالِينَ مِنَ الأُمَمِ السابِقَةِ، وتِلكَ الآياتُ فيها مِنَ العِبَرِ والعِظاتِ ما يَنتَفِعُ بِهِ أُولِي البَصائرِ والألبابِ، ومِنْها آياتٌ تَتعلَّقُ بالأحكامِ فيما يَتعلَّقُ بحَقِّ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ وصِلَةِ العَبدِ برَبِّهِ مِنَ الصلاةِ والزكاةِ والصومِ والحَجِّ، وممَّا يَتعلَّقُ بمُعامَلَةِ الإنسانِ مَعَ الخَلقِ فيما يَتَّصِلُ بأنواعِ المُعامَلاتِ الَّتي تَجري بَيْنَ الناسِ سَواءٌ كانَ ذَلِكَ في الأموالِ، أو كانَ ذَلِكَ في الأبضاعِ، أو كانَ ذَلِكَ في الدِّماءِ أو كانَ ذَلِكَ في العُقودِ والحُقوقِ وما أشبَهَ ذَلِكَ ممَّا يَجري بَيْنَ الناسِ، فانتَظمَ هَذا الكِتابُ بَيانَ كلِّ شَيءٍ كما قالَ ـ تَعالَى ـ:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[النَّحلِ:89] {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}[الأنعامِ:38] .
فما مِنْ شَيءٍ يَحتاجُ الناسُ إلى بَيانِهِ وتَصلُحُ بِهِ أحوالُهُم في مَعاشِهِم ومَعادِهِم إلَّا وجاءَ القُرآنُ ببَيانِهِ وإيضاحِهِ، والتَّالِي لآياتِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ يَرَى مِنْ بَديعِ نَظْمِ القُرآنِ وتَرتيبِهِ ما يُبهِرُ العُقولَ والألبابَ، وتِلكَ أسرارٌ يُجلِيها اللهُ ـ عَزَّ وجلَّ ـ لأهلِ البَصائرِ الَّذينَ يَقرَأونَ مُتَدبِّرينَ آياتِهِ مُعتَبِرينَ بِما فيها، وكُلَّما أدامَ الإنسانُ التِّلاوةَ، وأطالَ النَّظرَ والفِكرَ في آياتِ اللهِ فَتحَ اللهُ لَهُ مِنْ فَهْمِ كَلامِهِ ومَعرفَةِ أسرارِ كِتابِهِ ما يَستَنيرُ بِهِ فُؤادُهُ ويَطيبُ بِهِ قَلبُهُ، وتَطمَئِنُّ بِهِ نَفسُهُ، ويَعلَمُ حَقًّا أنَّهُ قَولُ الحَقِّ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[فُصِّلتْ:53] ، فيَتبيَّنُ للتَّالِي لكِتابِ اللهِ مِنَ الدَّلائِلِ والبَراهينِ عَلَى أنَّ هَذا الكَلامَ كَلامُ ربِّ العالَمينَ ما يَقَرُّ بِهِ قَلبُهُ ويَطمئِنُّ بِهِ فُؤادُهُ، وتَسكَنُ بِهِ نَفسُهُ، لذَلِكَ هَنيئًا لمَنْ فَتحَ اللهُ ـ تَعالَى ـ عَلَيْهِ في تِلاوَةِ القُرآنِ وتَدبُّرِهِ؛ لأنَّهُ سَيرَى مِنْ بَديعِ وعَظيمِ ما في هَذا الكِتابِ مِنَ المَعانِي والعِبَرِ والعِظاتِ والهِداياتِ والأسرارِ ما لا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيرُهُ ولا يُدرِكُهُ سِواهُ، وفي ذَلِكَ مِنَ السعادَةِ والهِدايَةِ والتوفيقِ والانشِراحِ ما لا يَعدِلُهُ شَيءٌ مِنْ نَعيمِ الدُّنيا ولذَّاتِها.
اللهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ ذَكَرَ في سُورَةِ البَقرَةِ مُجمَلَ أحكامِ الشريعَةِ مِمَّا يَتَّصِلُ بالعَقائدِ أو ذَكرَ مُجمَلَ ما يَحتاجُهُ الناسُ في دِينِهِم مِمَّا يَتَّصِلُ بالعَقائدِ وممَّا يَتَّصِلُ بالشرائعِ، فتَضمَّنَتْ سُورَةُ البَقرَةِ بَيانَ العَقائدِ عَلَى وَجْهٍ مُستَوْفٍ مُستَوْعِبٍ لكُلِّ ما يَحتاجُهُ الناسُ ممَّا يَتَّصِلُ بالعَقائدِ، وكَذلِكَ فِيما يَتَّصِلُ بالشرائعِ، جاءَ الكِتابُ في سُورةِ البَقرَةِ بالبَيانِ والإيضاحِ، فتَحدَّثَ اللهُ ـ تَعالَى ـ في سُورَةِ البَقرةِ عَنِ الصلاةِ وعَنِ الزكاةِ وعَنِ الصيامِ وعَنِ الحجِّ، وهذهِ أركانُ الإسلامِ، وتَحدَّثَتِ الآياتُ في سُورةِ البَقرةِ عَنِ الجِهادِ، كما أنَّها تَحدَّثتْ فيما يَتَّصِلُ بالمُعامَلاتِ بأنواعِها ثُمَّ إنَّها بَيَّنَتْ ما يَحِلُّ مِنْها وما يَحرُمُ عَلَى وَجهِ الإجمالِ.
كَذلِكَ تَحدَّثَتِ الآياتُ في سُورةِ البَقرةِ عَنِ الطَّلاقِ، وبَيَّنَتْ مِنْ أحكامِ النِّساءِ بَيانًا واسِعًا حتَّى سُمِّيَتْ هذهِ السورَةُ بسورَةِ النساءِ الكُبرَى؛ لأنَّها تَضمَّنَتْ مِنَ الأحكامِ المُتعلِّقَةِ بالنساءِ شَيئًا كَثيرًا، فإذا أُطلِقَتْ هذهِ الكَلِمَةُ أو هَذا الاسمُ، فالمُرادُ بِهِ سورَةُ البَقرَةِ، سورَةُ النساءِ الكُبرَى هِيَ سورَةُ البَقرةِ لِما تَضمَّنَتْهُ مِنَ الأحكامِ المُتعلِّقَةِ بالنساءِ، وفي ثَنايا آياتِ الطلاقِ ذَكرَ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ الأمرَ بالمُحافظَةِ عَلَى لصلاةِ، وهُنا عَجَبٌ مِنَ العَجبِ، ففي سِياقِ الآياتِ الَّتي يَذكُرُ اللهُ ـ تَعالَى ـ فيها أحكامَ الطلاقِ وما يَجِبُ أنْ يُراعَى فيهِ، يَأتِي ذِكْرُ الصلاةِ فيَقولُ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البَقرةِ:238].
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَعودُ السِّياقُ إلى الحَديثِ عَنِ الطلاقِ وبَعْضِ أحكامِهِ وأحكامِ الحَضانَةِ والرَّضاعِ، فما السرُّ في الإتيانِ بثَلاثِ آياتٍ بَيْنَ آياتِ الطلاقِ تَتعلَّقُ بأحكامِ الصلاةِ، هَذا مِنْ أسرارِ القُرآنِ، وهُوَ مَحلُّ النظَرِ والاجتِهادِ والفِكْرِ في الوصولِ للحِكمَةِ والغايَةِ مِنْ ذِكْرِ هذهِ الآياتِ في ثَنايا آياتٍ تَتعلَّقُ بالعِلاقاتِ الزوجيَّةِ وما يَتصِلُ بما يَجِبُ مُراعاتُهُ في أحكام ِالأُسرَةِ في شَأنِ الطلاقِ وليسَ في شأنِ الارتِباطِ، إنَّما في شأنِ الانفِكاكِ وحَلِّ عَقْدِ النِّكاحِ.
والَّذي يَظهَرُ ـ واللهُ تَعالَى أعلَمُ ـ أنَّ ذِكْرَ آياتِ الصلاةِ والأمرِ بالمُحافظَةِ عَلَيْها في ثَنايا آياتِ الطلاقِ هُوَ لبَيانِ المَخرَجِ الَّذي يَخرُجُ بِهِ الإنسانُ مِنَ المَآزقِ والمَضايقِ، فإنَّ الطلاقَ مِنْ أبغَضِ ما يَكونُ مِمَّا أحَلَّ اللهُ ـ تَعالَى ـ لعِبادِهِ، وإنَّما أحلَّهُ لِما فيهِ مِنَ المَصالِحِ، ويَترَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ المَتاعبِ لبَعضِ الناسِ ما يَترَتَّبُ، فلذَلِكَ ذُكِرَتِ الصلاةُ لِما في الصلاةِ مِنَ الإعانَةِ عَلَى تَحمُّلِ ما يَترَتَّبُ عَلَى الطلاقِ مِنَ النتائجِ، ولأنَّ الصلاةَ أيضًا تُحمِّلُ كُلَّ طَرَفٍ مِنْ أطرافِ عَقْدِ النكاحِ عَلَى أداءِ ما يَجِبُ عَلَيْهِ، وإذا أدَّى كُلُّ طَرفٍ مِنْ أطرافِ النكاحِ ما يَجِبُ عَلَيْهِ كانَ الطلاقُ مُتَباعِدًا، فذِكرُ الصلاةِ لوِقايَةِ الناسِ مِنَ الطلاقِ؛ لأنَّ في الصلاةِ ما يَنهَى الإنسانَ عَنِ الفَحشاءِ والمُنكَرِ ويَحمِلُهُ عَلَى أداءِ الحُقوقِ والقيامِ بها، وإصلاحِ الحالِ وطِيبِ المُعامَلةِ والمُعاشَرَةِ.
فإذا كانَ ولا بُدَّ مِنْ وقوعِ الطلاقِ لعَدمِ استِقامةِ الحالِ أو لكَوْنِ الطلاقِ هُوَ مُقتَضَى المَصلحَةِ جاءَتْ آياتُ الصلاةِ لإعانَةِ المُتضرِّرِ مِنْ حَلِّ عَقْدِ النكاحِ بالصلاةِ، فإنَّ في الصلاةِ عَوْنًا، والصلاةُ مِمَّا يُفرِغُ عَلَى الإنسانِ صَبرًا ومِنْ خَيرِ ما تُستقبَلُ بِهِ النوازِلُ والمَكروهاتُ، ولذَلِكَ قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ:﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾[البَقرَةِ:45]، وجاءَ في المُسنَدِ بإسنادٍ لا يَخلُو مِنْ مَقالٍ مِنْ حَديثِ حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ ـ:«أن النبيَّ ﷺكانَ إذا حَزَبَهُ أمْرٌ فَزِعَ إلى الصَّلاةِ» مُسنَدُ أحمدَ (23299)، وسُنَنُ أبي داودَ (1319)، وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صَحيحِ أبي داودَ أي قامَ إلَيْها وأقبَلَ عَلَى رَبِّهِ يَبثُّهُ شَكواهُ ويُنزِلُ بِهِ حاجَتَهُ، ففي الصلاةِ ما يُعينُ الإنسانَ عَلَى استِقبالِ النوازِلِ والمَصائبِ فيُصبِّرُهُ ويُثبِّتُهُ ويُريحُ قَلبَهُ، ولذَلِكَ كانَ النَّبِيُّ ﷺيَقولُ لبِلالٍ: «أرِحْنا بِها يا بِلالُ»سُنَنُ أبي داودَ (4985)، وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صَحيحِ أبي داودَ أي أرِحْنا بالصلاةِ لِما فيها مِنَ السكَنِ ومُناجاةِ العَزيزِ الغَفَّارِ.
هَذا بَعضُ ما في ذِكْرِ آياتِ الأمرِ بالمُحافظَةِ عَلَى الصلاةِ في سياقِ آياتِ الطلاقِ ـ واللهُ أعلَمُ ـ بأسرارِ كِتابِهِ وحُكمِهِ في نَظْمِ آياتِ الكِتابِ المُبينِ، وإنَّما نَتلَمَّسُ شَيئًا مِنْ ذَلِكَ بما فَتحَ اللهُ ـ تَعالَى ـ فإنْ كانَ صَوابًا فمِنَ اللهِ، وإنْ كانَ خَطأً فمِنْ نَفسِنا ومِنَ الشيطانِ نَعوذُ باللهِ مِنَ الخِذلانِ.