الحلقة الحادية والعشرون: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله وأهلًا وسهلًا بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: "عباد الرحمن".
الحمد لله حمد الشاكرين، وأثني عليه ثناء عبادة الموحدين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، شهادةً تُنجي قائلها من السعير، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا سيّد ولد آدمَ أجمعين، عبدُاللهِ ورسوله، بعثهُ اللهُ بالهدى، ودين الحق بين يدي الساعة: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة: 119] ، {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، حتى أتاهُ اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه، اللهم صلي على محمد، اللهم صلي على محمد، وعلى آلِ محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آلِ إبراهيم إنك حميد مجيد، أمّا بعد:
في هذه الحلقة نتناولُ صفة من صفات عباد الرحمن أشاد اللهُ ـ تعالى ـ بها، وهي مفتاحُ خيرٍ عظيم للمؤمن، إذا تخلّقَ بها، كما أنها ثمرةُ كمال العلم بالله ـ عز وجل ـ إنها الصفة التي ذكرها اللهُ ـ تعالى ـ لقومٍ وصَفَهم بأنهم خاشعون، قال ـ جلّ وعلا ـ في محكم كتابه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45، 46] حُسن الظن بالله ـ عز وجل ـ يفتح للعبد حُسن العمل، كما أنَّ حُسن العمل يقودُهُ إلى حُسن الظن، وكلُّ ذلكَ راجعٌ إلى تمام العلم بالله، وصحة المعرفة بهِ ـ سبحانه وبحمده ـ فمن عرف الله حقَّ معرفته أحسن الظن بهِ، وكانَ قائمًا بما يرضى الله ـ جلَّ وعلا ـ في سرِّه وإعلانه، الظن بالله عز وجل مفتاحُ تعاسةٍ، أو شقاء، تعاسةٍ، وشقاء، أو سعادةٍ، وفلاح، مفتاحُ الظن مفتاحٌ عظيم لمن استعمله ووضعهُ في موضعه، فمن ظنَّ بالله ظنًا حسنًا نال منهُ الحسنى، ومن ظن بهِ ظنًا سيئًا: {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} [الطلاق: 9] إنَّ قومًا أساءُوا الظن بالله، فظنوا أنهم لا يرجعون إليه، فكان عاقبةُ أمرهم خُسرًا، أولئك الذين ذكرَ اللهُ ـ تعالى ـ في محكم كتابه، في قومٍ أوتوا كتابهم وراء ظهورهم، وبشمائلهم، وكان من أسبابِ ذلك ما ذكرهُ اللهُ ـ تعالى ـ: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 13] ، فكان مشتغلًا بالدنيا عن الآخرة: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ } [الانشقاق: 14] ، قف عند هذه الآية: {إِنَّهُ ظَنَّ} [الانشقاق: 14] أي اعتقد، وامتلأَ قلبه يقينًا، بأنه لن يرجعَ إلى الله؛ {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق: 14، 15] كذّبَ اللهُ ظنه، وردهُ إليه، وأخبر أنهُ ليسَ فقط رجوعًا لا حساب فيهِ ولا جزاء، بل هو رجوعٌ يكون فيهِ الإنسان مرهونًا بعمله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] ، وهذا الرهن ليسَ ناشئ عن ظن، ولا عن تسجيل، لا إحاطة لله به: {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق: 15] مُطلعٌ جلّ في علاه على الدقيق، والجليلِ، لا تخفى عليه خافية، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] ، فالسرُّ عندهُ علانية، إنَّ قومًا أساءُوا العمل لسوء ظنهم بالله ـ عز وجل ـ يقول الله ـ تعالى ـ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} [فصلت: 22] ما كنتم تختفون عندما تواقِعون مغاضب الله، ومعاصيه، ما كنتم تختفون عن أسماعكم، ولا عن أبصاركم، ولا عن جلودكم، بل كنتم تستعملونَ هذه الآلات في معصية العزيز الغفار، في معصية رب العالمين، يقولُ اللهُ ـ جلّ وعلا ـ: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 22] انظر كيفَ كانَ الظنُ السيئ حاملًا على العمل القديم، فالظن السيئ يحمل الإنسان على كُلِّ سوءٍ وشر بخلافِ ظن أولياء الله الصالحين، فإنهُ يحملُهم على إتقان العمل وإصلاحه، إنهم أحسنوا الظن بالله، فنالوا حُسنَ عطائه، وفازوا بكريمِ مَنِّهِ ـ جلَّ في علاه ـ كما قال ـ جلَّ وعلا ـ في المقابل لقومٍ أخذوا كُتُبهم بإيمانهم، قال في وصفِ حالهم: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] ، نعم أحسن الظن بالله، فظنَ أنَّ ما يكون من عمل، لن يذهب هباء منثورًا، بل هو في قيدٍ، وسجلٍ، وعلم الله ـ عز وجل ـ الذي لا تخفى عليه خافية، وبالتالي كان مُحسن الظن بالله ـ عز وجل ـ إنَّ حُسن الظن بالله ـ عز وجل ـ أن تعتقدَ كمالَهُ، وأن تظن بهِ ـ سبحانهُ وبحمده ـ أكمل الظن في أسمائه، في صفاته، في أفعاله، في أحكامه الشرعيّة، وفي أحكامه القدريّة، وفي أحكامه الجزائية، فحكمُ اللهِ لا يخرج عن واحد من هذه الثلاثة، حكمٌ شرعي، وهو دينه الذي شرع من الأوامر والنواهي، فأحسن الظن بالله، فليسَ أحدٌ أحسن حُكمًا منه، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] اشرح صدرك بحكم الله، ورسوله، فإنَّ ذلكَ من حُسن الظن بالله، فهو ـ جلَّ وعلا ـ أحكمُ الحاكمين، لا أحسنَ من حُكمه، ولا أكملَ من شرعه، قال ـ جلَّ وعلا ـ: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، أيضًا أحسن الظن بربّك في قدره، فإنَّ الله عز وجل لا يقضي للمؤمنِ قضاء، إلا كان لهُ خيرًا، أحسن الظن بالله فيما يُصيبُك مما تُحبه، وفيما ينزلُ بكَ مما تكرهه، فإنَّ ذلكَ يوجبُ الرضا، يوجبُ الانشراح، يوجبُ عظيم الأجر والثواب من الله، يا إخوة ويا أخوات، كُلُّنا مُبتلى بنوعٍ من البلاء، ليسَ منَّا أحدٌ سالمًا من بلاءٍ، واختبار في السراء، والضراء، والعُسرِ، واليسر، والمنشط، والمكره، والصحة، والمرض، والغنى، والفقر، وما يُحب، وما يكره، لكنَّ اللهَ ـ تعالى ـ يُخرِجُ من ذلكَ كُلِّه حقيقة العبد، قال ـ جلّ وعلا ـ: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، أحسن الظن بالله، فإنَّ حُسنَ الظن بالله يفتحُ لكَ العطاء، ويوجبُ المزيد، قال الله ـ جلّ وعلا ـ فيما رواه البخاري، ومسلم، من حديث أبي هريرة، أنَّ النبيَ صلى الله عليه وسلم يقول: «يَقُولُ اللَّهُ ـ تَعَالَى ـ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» صحيح البخاري(7405)، ومسلم(2675) فضلُ اللهِ عظيم، واحرص على حُسنِ الظنِ عندَ مفارقة الحياة، فإنَّ حُسنَ الظن عندَ مفارقة الحياة توجبُ العطاءَ الكريم؛ ولذلكَ قال النبيُ صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم، من حديث جابر، قال: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ» صحيح مسلم(2877) لكن ثق تمامًا إنهُ لا يمكن أن يتحقق هذا، إلا بحُسن العمل، وحُسن العلم بالله عز وجل.
أخي أختي، هذه صورة، ونموذج من عبدالله بن الزبير، قصَّهُ عن والده الزبير، فإنَّ الزبير لمّا شعرَ بقربِ موته، قال لابنه: "يا بُني، لا أدري أيبقي ديننا من مالنا شيئًا" يعني كان عليه دين كبير، خشي أن لا يبقى من هذا، بسبب هذا الدين، شيءٌ من المال لورثته، ثم إنهُ قالَ فيما أوصى بهِ ابنهُ في قضاءِ دينه، قال: "يا بُني أوصيك بقضائك دَيْني، فإن عجزتَ شيئًا منهُ" أي من دَيْني: "فاستعن عليه مولاي" تنبَّه الزبير حواري رسول الله ـ صلى الله وعليه وسلم ـ يقول لابنه إن عجزت عن تسديد شيء من ديني: "استعن عليه مولاي، يقول عبد الله: فواللهِ ما دريت، ما أرادَ بمولاه" يعني من يريد؟: "قلتُ: يا أبتي من مولاك؟ قال: الله" الله أكبر ما أعظم الثقة، وما أعظم حُسن الظن، يقول الزبير: "استعن عليهِ مولاي" كم عليك من دين؟ كم لديك من حاجة؟ كم عندكَ من مُعضلة؟ أتريدُ أن يُقضى ذلك؟ ويَكشِف ما نزلَ بك؟ استعن بالله عليه مولاك، استعن بالله، يقول عبد الله: "فو اللهِ ما وقعتُ في كربة من دينه، إلا قلتُ يا مولى الزبير، اقض عنهُ دينه، فيقضيه" اللهُ أكبر، ما أجمل حُسن الظن بالله: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» صحيح البخاري(7405) ومسلم (2675) أسأل الله أن يملأ قلبي وقلبكم علمًا بِه، وبصيرةً بكمالاته، وحُسنَ ظنٍّ بِه، فإنَّ حُسنِ الظنِ بهِ ثمرةُ صحة العلمِ بهِ، وكمالِ معرفته.
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: "عباد الرحمن" أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.