الحلقة الثانية والعشرون: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الفرقان: 68]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله ومرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: "عباد الرحمن".
أحمدُ الله حقَّ حمده، لا أُحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُهُ ورسوله، صلى اللهُ عليه، وعلى آله، وصحبه، ومنِ اتبعَ سنته، واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
في هذه الحلقة سنتكلمُ عن خصلة، من خصالِ أهل الإيمان، من خصال عباد الرحمن، إنهم يُعظِّمون ما عظَّمهُ اللهُ من حُرمةِ الدماء، إنهم لا يقتلون نفسًا حرَّمها الله إلا بالحق، قال اللهُ ـ جلّ وعلا ـ في وصف عباد الرحمن: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] القتل أولُ جريمة قيَّدها اللهُ ـ جلَّ وعلا ـ في كتابه، في مسيرة البشريَّة، فأولُ جريمة ذُكرت، في مسيرة بني آدم بعد هبوطهم إلى الأرض، هذه الجريمة الشنعاء، القتل الذي هو أعظمُ الجنايات على النفس، وقد ذكرَ اللهُ ـ جلّ وعلا ـ خبرَها، مُفصَّلًا في كتابه في بيانِ ما كانَ بينَ ابني آدم من الاعتداء والقتل، قال ـ جلَّ وعلا ـ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة: 27] إذًا السبب هو ما كانَ من قبول قربان أحد الابنين، وعدم قبول الآخر: {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ثم بعدَ أن بيّنَ لهُ ذلك، أنَّ سبب القبول هو التقوى، وليسَ شيئًا غيرُ ذلك، قال ـ جلَّ في علاه ـ حاكٍ عمّا قالهُ ابنُ آدم لأخيه: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} [المائدة: 28 - 30] ما في منفعة، لم ينفعه الوعظ، ولا التنبيه، ولا التذكير: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} أي سهّلت لهُ، ومهّدت لهُ، ولانت لهُ الفعل حتى أقبل عليه، {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} مباشرة فقال: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} تبيّن لهُ الخسران، لكن بعد فوات الآوان، هكذا هيَ أولُ جريمة ذكرها اللهُ ـ تعالى ـ في سياقِ أفعالِ بني آدم، بعدَ أن أهبطهُمُ اللهُ ـ تعالى ـ إلى الأرض، وكانَ ما كانَ من هذه الجريمة التي بقيَ أثرُها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هذه الجريمة، جريمة عظيمة الشأن كبيرة القدر، فهيَ في سلسلة الكبائر والذنوب، هيَ من أعظمِ الآثام ومن كبائر الذنب، قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق؛ لذلك جاءَ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنهُ قال: «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ"ثم قال: "وَقَتْلُ النَّفْسِ" ثم قال: "وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ" ثم قال: «وَقَوْلُ الزُّورِ أَوْ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ" صحيح البخاري(6919) وإذا نظرت إلى هذه الموبقات وجدتَها مُتَّسِقة في حصول الفساد في الأرض، فالشرك يُفسِد ما بين العبد وربِّه، وقتلُ النفس يُفسِدُ ما بين الإنسان والخلق فيما يتعلَّق بعقوق الوالدين، يُفسد الصلة بين الإنسان ومن حولهُ، لأنَّ أقرب مَنْ حولَكَ إليك الوالد، فإذا عققتهُ، فكنتَ لغيرهِ أعق، وأبعدَ عن البر، ثم ذكر ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "شهادةُ الزور"، التي بها فساد الأموال، وفساد الحقوق، وتعطُّل المصالح، هذه أكبرُ الكبائر، لكن في السلسلة، جعلَ ثانيَ ما يكونُ من عظائم الإثم: قتلُ النفسِ بغيرِ حق.
إنَّ إزهاق النفس من عظائم الإثم، وأول ما نَهى عنهُ الله ـ عز وجل ـ في قتل النفس، أن يقتل الإنسان نفسه، قال ـ جلّ وعلا ـ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } [النساء: 29] ثم قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}، وهذا النهي عن قتلِ النفس لعظيمِ هذا الجرم والجناية على النفس التي منحكَ اللهُ ـ تعالى ـ فرصة الوجود، وبها تُحقق العبودية لله ـ عز وجل ـ فإذا قتلت النفس التي منحكَ اللهُ ـ تعالى ـ إياه، كانَ ذلك من أسباب الهلاك، ثم ذكر مِنْ قتل النفس قتل الولد، ونَهَى عنه، وقتل النفس التي حرَّم الله بغيرِ حق، كُلُّ ذلك مما نَهَى اللهُ ـ تعالى ـ عنه، وإنَّ الله ـ جلَّ وعلا ـ بيَّن عظيم الإثم، الحاصل بتعمُّد القتل، فقال ـ جلَّ وعلا ـ في مُحكمِ كتابه، ابتداءً: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] هذا البيان الذي بيّنَ فيهِ ـ جلَّ وعلا ـ أنهُ لا يكونُ قتلُ المؤمن للمؤمن، إلا على وجه الخطأ، لكن لو وقع، وتعمَّد، فقد قال ـ جلَّ وعلا ـ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ} [النساء: 93] استمع واستمعي: {جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] كُلُّ هذا يُبيِّن عظيم الإثم، وكبير الخطر، الذي يحصلُ بالاعتداء على النفس المعصومة، إنهُ عذابُ جهنم، وطول المُكثِ فيه، مع غضبِ الله ـ عز وجل ـ مع لعنه مع العذاب العظيم، الذي أعدَّهُ لمَن قتلَ نفسًا بغيرِ حق، وقد قال اللهُ في أوائل ما جاءت بهِ الوصايا العشر التي اجتمعت عليه الرسالات: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151] ثم قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] كُلُّ هذا تحذير لهذه النفوس المؤمنة، أن تقعَ في شيءٍ من قتلِ، من لا يستحقُ القتل، ولذلكَ يجبُ على المؤمن، أن يصونَ نفسهُ عن أن يتورط في قتلِ من لا يستحقُ القتل، وذلكَ أنَّ الدخول في هذا الباب يوقع الإنسانَ في ذنبٍ عظيم وجُرمٍ كبير؛ جاءَ في السنن، من حديث أبي الدرداء أنَّ النبيَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إِلَّا الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِرًا أَوِ الرَّجُلُ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا» المستدرك للحاكم(8243)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وسنن أبي داود(4270)، وابن حبان(5980) كلُّ ذنبٍ عسى الله أن يَغفِره، إلا من ماتَ مُشركًا، أو مؤمنٌ يقتل مؤمنًا مُتعمِّدًا" فهذا شيءٌ كبير، وقد جاءَ في حديث عبد الله بن عمر – رضي اللهُ تعالى عنه – أنهُ قال: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ». سنن الترمذي(1395)، والنسائي(3987)، حكم الألباني: صحيح وإنَّ من العجب، أن تجد أقوامًا يُبررون لأنفسهم القتل، بتسهيله، والتورطِ فيه دونَ وعيٍ، ولا نظرٍ في عواقبِ القتل بغيرِ حق، وقد قال ابنُ عمر: "إنَّ من ورَطَاتِ الأمور التي لا مخرجَ للإنسانِ منها: قتل النفس التي حرَّمَ الله إلا بالحق" فإنَّ من الورطات التي يصعبُ على الإنسان، أن يتخلّص منها، أن يقتُلَ نفسًا بغيرِ حق، وقد جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنهُ قال: «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا» صحيح البخاري(6862) ولِعِظَمِ القتل، وصفهُ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنهُ كُفر، فقال: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» البخاري(48)، ومسلم(64) وهؤلاءِ الذين يستهترون بالنفوس المعصومة فيقتلونها بغيرِ حق هم موعودون بالعذابِ الأليم، وهذا لا يفعلُهُ إلا من تجرَّدَ قلبه عن الإيمان الصادق، أو عَمَتْ بصيرَتهُ الآراء الضالة، كالخوارج، ومن شبَهَهُم، وسلكَ مسلَكهم، ومنهم خوارج العصر الذين يستبيحون الدماء بغيرِ حق، فيقتلونَ الناس بالشُّبهةِ، ويقتلون الناسَ بغيرِ حق، بل يجعلون قتلَ أهلِ الإسلامِ وسيلة لتحقيق مآربهم، وطريقًا لنصرة الإسلام كما زعموا، وهم للإسلامِ يهدمون، ولشرائعهِ يُدمِّرون، وعن الدخولِ فيه يصِدِّون؛ لذلكَ من المهم أن يَعِيَ المؤمن خطورة هذه المناهج المنحرفة التي تُزيِّن القتل بغيرِ حق، وليعلمَ المؤمن أنهُ: «لَا يَزَالُ فِي فُسْحَةٍ، حَتَّى يَتَوَّرَطَ فِي الْقَتْلِ الْحَرامِ» صحيح البخاري(6862) عندَ ذلك تضيق عليهِ الوسيعة.
أسألُ الله أن يجعلنا من أهلِ الإيمان الذين يصونونَ الدماء، ويحفظون الحُرُمات، ويُعظِّمونَ الشرائع، ويقون أنفسهم التورطَ فيما لا مخرجَ منه.
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: "عباد الرحمن" أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.