الحلقة الرابعة والعشرون: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله، ومرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات.
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا، طيبًا، مباركًا فيه حمدًا يرضيه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه، ومنِ اتَّبَعَ سنته، واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمّا بعد:
فهذه الحلقة ضمنَ حلقات برنامجكم: "عباد الرحمن" نتكلمُ فيها عن وصفٍ من أوصاف عباد الرحمن، وهيَ أنهم أصحابُ توبة، إنهم توابون، وإلى الله راجعون، بكثرةِ الاستغفارِ والندمِ، وطلب العفوِ والصفحِ والتجاوز؛ ولذلك قال ـ جلَّ وعلا ـ في ذكرِ عباد الرحمن، قال ـ جلَّ وعلا ـ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 68 - 70] هذا الاستثناء يُبيِّن أنَّ أهل الإيمان أنَّ عباد الرحمن ليسوا معصومين، قد يقع منهم خطأ، قد يقع منهم تجاوز، قد يقع منهم ما يكونُ محلًّا للمؤاخذة، لكنَّ طريقَ السلامة من ذلك السبيل الذي يخرجُ بهِ الإنسان من إحاطة الذنبِ به وهلاكِهِ بسببه أن يرجع إلى ربِّه؛ «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ» سنن الترمذي (2499)، وابن ماجة(4251)، حسنه الألباني. هكذا قال سيِّد الورى – صلوات الله وسلامه عليه – فيما جاءَ من حديث أنس بن مالك – رضي اللهُ تعالى عنه – ثم بعد أن أخبر بها بالحقيقة التي تنتظم الجميع، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَخَيْرُ الْخَطَّائينَ التَّوَّابُونَ» سنن الترمذي(2499)، وابن ماجة (4251)، وحسنه الألباني. فكثرةُ الخطأ تُقابَل بكثرةِ التوبة، كثرة الزلل، علاجُها أن تُكثِرَ الرجوعَ إلى الله ـ عز وجل ـ ولذلك خطَّاء وتواب كلاهما صيغة مبالغة، تدلُّ على كثرة الخطايا وكثرة التوبة، وتدل على عِظَم الخطأ وعِظَم التوبة، فكُلَّما وقعت في ذنب، فقابَلَهُ بتوبة، وكُلَّما عَظُم الذنب فلتعظُم التوبةُ؛ لأن التوبةَ تمحو ما كانَ قبلها من فضل الله، أنَّ الله ـ عز وجل ـ لم يجعلْ للتوبةِ زمانًا لا يكونُ إلا فيه، بل فتَحَ الباب لعباده، ما داموا في زمن المهلة، فإذا جاءَ اليقين وأبصَرَ الإنسانُ العقوبة، عندَ ذلك ليس بيده التوبة؛ لأنهُ أصبحَ يرى ثمرةَ عمله، ففاتهُ الأوان؛ ولهذا جاءَ في الصحيح أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ، لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ، لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ - وهو على هذا ما - لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» صحيح مسلم(2759) فهو ـ جلَّ وعلا ـ يغفِرُ الذنوبَ، ويتجاوز عن السيئات، ويصفح عن الخطايا، ويقبلُ توبةَ التائبين، بل أخبرَ أنهُ قابلُ التوب ـ جلّ في علاه ـ عن نفسه، وغافر الذنب ـ سبحانهُ وبحمده ـ فكلُّ هذا تطميعٌ لعباده أن يُقْبِلُوا عليه بالتوبة والاستغفار، وألَّا يقفوا مرهونين بسيئاتهم، مأسورين لخطاياهم، فإنَّ ذلك لا يزيدهم إلا سوءًا، وشرًّا، إنما الطريق الذي ينبغي أن يسلُكَهُ المؤمن عندما يقع في الخطأ أن يُبادر إلى التوبة، أن يُكثر من الاستغفار، أن يؤوب ويعود إلى العزيز الغفار؛ فإنَّ هذا هو السبيل الذي يُدرِكُ بهِ المؤمن حط الخطايا وتجاوز السيئات، إنَّ المؤمن ليسَ معصومًا، بل هو مُعَرَّضٌ للخطأ والتقصير بتركِ واجب أو فعل مُحرَّمٍ، لكنَّ ذلك لا يعني أن يستسلم، بل ينبغي لهُ أن يتوب.
ومَنْ أصرَّ على السيئة والذنب فإنهُ يظلمُ نفسه؛ ولذلك قال اللهُ ـ جلّ وعلا ـ: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، وتوبتُك خيرٌ لك؛ فإنَّ توبة العبدِ إلى الله ـ عز وجل ـ تفتَحُ لهُ أبواب الإصلاح؛ ولهذا قال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم: 60] فالتوبة لا تتحقق بمجرد أن يشعر الإنسان أنهُ نادم على الذنب دونَ أن يُحدِث إصلاحًا، بل لا بد من الإصلاح، أوَّلُ الإصلاح أن يقلع عن الخطأ؛ فمن نَدِمَ وأصرَّ لم يُحقِّق التوبة.
إذا أردتَ أن تكونَ صادقًا في توبتك فأضِفْ إلى الندم الذي هو قاعدةُ التوبة الأساس؛ فالندمُ توبة، أضف إليهِ إقلاعًا عن المعصية؛ فلا تستمر على الخطأ، استمرارُك على الخطأ إصرار، والإصرار مُوجِبٌ لغضبِ الملكِ الديان ـ جلَّ في علاه ـ فتُبْ إلى الله ـ عزّ وجل ـ بالإقلاع عن السيئة، توقَّفْ ولا تؤخر؛ فإنَّ التأخير قد يمتد بك إلى أن يفوت الأوان بأن تطلع الشمسُ من مغربها، أو يقع الأمر الثاني الذي أخبرَ فيهِ النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ:«أَنَّ بَابَ التَّوبةِ مفتوحٌ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» سنن الترمذي (3537)، وأحمد(6160)، قال صاحب كشف الخفاء: إسناده حسن وهو أن تصل الروح الحلقوم، ولا ندري متى يكون هذا؟ ليسَ عندنا علم متى نغادر، متى تبلغ الروح الحلقوم؛ فلذلك يجب على المؤمن، أن يُبادر إلى التوبة والاستغفار، وأن يُكثر من ذلك، فإنَّ هذا مما ينظمُهُ في سِلْكِ عباد الرحمن؛ لأنَّ عباد الرحمن يذكرون الله ـ عز وجل ـ ويتعرضون لرحمته، ويحقِّقُون العبوديةَ له، ويعلمونَ أنهم بتقصيرهم يفوتوهم من هذا الوصف بقدر ما يحصل من تقصير، قصورنا علاجه بالاستغفار والتوبة، قصورنا علاجه بأن نُقِرَّ بأننا لن نفي الله حقّه، وتقصيرُنا يكون بإقلاعنا عن الذنب، بعزمنا على ألَّا نعودَ إليه برد المظالم إلى أهلها إن كانت السيئة والخطأ يتعلَّقان بحقوق الخلق، هذه كُلُّها من الأمور التي لا بدَّ أن يستحضرها المؤمن عندَ توبته.
فاندم على الخطأ، اقلع عنه، اعزم على عدم العودة إليه، ليكون ذلكَ كُلُّهُ لله عز وجل؛ رغبة فيما عنده، ثم إذا كانت السيئة والخطيئة مما يتعلَّقان بحقوق الخلق، سواء كانَ ذلكَ في مال، أو في عِرْضٍ، أو في دمٍ ونفس، فبادر إلى أن تتحلَّل قبلَ أن لا يكون درهم أو دينار يوم القيامة، ما فيه حسنات، ما فيه أموال يَفتدِي بها الإنسان، ليسَ ثمةَ إلا الحسنات والسيئات، يؤخذ من حسناتك، ويُوفَى بها حقُّ المظلوم، وإذا فَنِيَتْ الحسناتُ أُخِذَ من سيئاتهم ووُضِعَت عليك؛ فالمعاوضة يوم القيامة، إنما هيَ بالحسنات والسيئات، فبادر إلى التخفُّف في هذه الدنيا، فد إلى الله عز وجل وأنتَ خفيف الظهرِ من حقوق الخلق، ليس لديكَ مظالم في أموال الناس، في أعراضهم، في أنفسهم، فإنَّ ذلكَ مما يوجبُ الهلاك والخطر، يا أخي تذكر، ويا أختي تذكري أن التوبة هي علاج ما في القلوب، هيَ إصلاحُ الأعمال، هيَ الأَوْبَةُ والعودة إلى الله ـ عز وجل ـ ولحاجتنا إليها كانَ من أعظم الأعمال التي تتكرر في فعلهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعشره كثرة التوبة والاستغفار، فنحنُ نصبح ونقول ونمسي ونقول في دعاء الاستغفار: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» صحيح البخاري(6323) في دعاء الاستغفار المشهور الذي فيه الإقرار بالخطأ والاعتراف بالذنب وطلب المغفرة، وطلب العفوِ من الله ـ عز وجل ـ أن يتجاوز عنك وأن يصفح عن سيئاتك، كما أنهُ كان يحسبُ لهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المجلس الواحد أكثر من سبعين استغفارًا، ويستغفر في صباحهِ، ومسائه عددًا كثيرًا من الاستغفار ـ صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم ـ وكلُّ ذلكَ مما يُندَبُ إليه، ويُشرَعُ للمؤمن أن يتخفف من حمل السيئات، والخطايا، الزم الاستغفار والتوبة، فإنَّ اللهَ تعالى ذكرَ في صفات المتقين أنهم لا يُصِرُّون على المعصية، بل إذا {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135]، {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18]، فهم يملؤون أوقاتهم في مواطن العطاءِ، والهبات، بما يوجبُ حَطَّ السيئات من الاستغفار، واللُّجْء إلى الله، العزيز الغفار أن يحطَ عنهم ما كانَ من خطأ.
لازموا التوبة صباحَ مساءَ، واحرِصوا على كثرة إحداث الصالحات والعمل بها، فقد قال اللهُ ـ تعالى ـ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] أي: أدامَ عملهُ على الصالح، ولزِمَ التوبة، وعملَ بمقتضاها.
أسأل الله ـ عز وجل ـ أن يغفر لي ولكم، ولا يمنعنَّكم كثرةُ الخطأ من كثرة التوبة، بل: «إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ، فَغَفَرَ لَهُ، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ فَقَالَ رَبُّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ، فَغَفَرَ لَهُ ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ، فَقَالَ رَبُّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا فَعَلَ» البخاري(7507)، ومسلم (2758) يعني ما دام على هذه الحال، كلما أذنبَ استغفر، ورَجِعَ وآب وندم وأحدثَ صالحا، فإنهُ فائز بمغفرة الله، وعفوه، أسأل الله لي ولكم العفو والعافية.
اللهم أنتَ ربُّنا لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوبُ إليك، أكثروا من التوبة، والاستغفار، والزموا خصال عباد الرحمن الذين أثنى الله عليهم وبيّنَ فضلهم.
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: "عباد الرحمن" أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.