إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله وخيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، فبلَّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصـح الأمة، وجاهد في الله حقّ الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع بإحسان سُنّته إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الناظر في أحوال أكثر الناس يرى أمراً عجباً، يرى اعتناءً فائقاً بتحسين الظواهر وتجميلها وتزيينها بأنواع المحسنات والمجملات، وفي الوقت نفسه يرى غفلةً مطبِقة، وذُهولاً تاماً عن تزيين البواطن وإصلاحها، فكم هي الأوقات والجهود والطاقات التي تُصرف لتحسين المظاهر مع الغفلة التامة عن إصلاح القلوب والبواطن، حتى غدا كثير من الناس ليس له همّة إلا في جمال مظهره وحسن مطلعه، فصدق فيهم ما ذكره الله جلّ وعلا في وصف المنافقين حيث قال: { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } المنافقون: 4.
فهذه حال قوم كانت مناظرهم بهيَّة، وأقوالهم خلابة، ولم يخرجهم ذلك عن كونهم خُشباً مسنَّدة، لا نفع فيها، فتلك مناظر لا مخبر لها، وأجرام لا أفهام لها، وهذه حال دنية لا يرضاها مؤمن لنفسه. بل لا يتم إيمان المؤمن ولا يصحُّ إلا بإصلاح باطنه وتزكية قلبه وتطييبه، فجمال الظاهر وحسنه لا يغني عن العبد شيئاً إذا كان باطنه وقلبه فاسداً قبيحاً، قال الله جلّ وعلا في الردِّ على قوم غرّهم حسن أحوالهم وجمال مظاهرهم، فجعلوا ذلك دليلاً على جمال عاقبتهم: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} مريم: 74 فأخبر سبحانه وتعالى بأنه أهلك أقواماً من قبل كانوا هم أحسن صوراً، وأكثر أموالاً، وأجمل أشكالاً فما أغنى عنهم ما كانوا يُمتعون {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (غافر: 82) فجمال الباطن وسلامة القلب هو الأصل والأساس الذي يُبنى عليه الفلاح في هذه الدنيا وفي الآخرة يوم المعاد، قال الله سبحانه وتعالى: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} الأعراف: 26.