في هذا المجلس - إن شاء الله تعالى - سنقرأ كتاب الصيام من الجامع الصحيح لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، وستكون قراءتنا - بإذن الله - مرورًا على الأبواب والأحاديث والآثار التي ذكرها المصنف رحمه الله في هذا الكتاب الجليل الجامع، الذي جمع دراية ورواية؛ فإن الإمام البخاري رحمه الله حباه الله تعالى فقهًا مميزًا، ويُستظهَر فقهُه، ويُعرف عمقُ نظره، ودقة استنباطاته من تراجمه رحمه الله، ما كان منها صريحًا في الأحكام والنتائج، وما كان منها مشيرًا إلى خلاف وعدم ترجيح.
في كل الأحوال خير ما يُتلقى به العلم لعامة الناس على اختلاف شرائحهم قول الله، وقول رسوله.
وهذا يعطي فائدتين:
الفائدة الأولى:أنه يربط الناس بالنصوص الشرعية، ويجعلهم يردون المورد الذي منه تُستقى الأحكام؛ خلافًا للمؤلَّفات المختصة ببيان الأحكام من المختصرات الفقهية؛ فإنها تصلح وتفيد في الدراسات المتخصصة، للمتفرغين لطلب العلم، والمقبلين على البناء الفقهي، أما في التدريس العام، الذي يُخاطَب به عمومُ الناس في مسائل الأحكام والمسائل العملية، فخير ما يَنطلِق منه المعلم والمتعلم كلام الله، وكلام رسوله؛ ذاك أنه كما ذكرتُ يجعل الناس يَرِدون إلى المعين الذي منه تُستقى الأحكام، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» البخاري (3461)، فقراءة آيات الله عز وجل، ونقل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، مما يندرج في هذا الأمر والتوجيه النبوي الكريم.
الفائدة الثانية: أنه يقدم لك الدليل مع الحكم، وهذا هو الأصل؛ فإنَّ الأصل أن تقرأ النص وتستدل منه، لا أن تقرر الحكم ثم تبحث عن دليله، فهذا هو الترتيب الطبيعي المنطقي للوصول إلى الحكم؛ أن تنطلق من الدليل: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ الحشر: 7.
القراءة في المتون الفقهية المختصرة في الدروس العامة تعكس المسألة، فتبدأ بالنتيجة وتبحث عن الدليل، فتأتي وتقول: قال المصنف رحمه الله كذا، ثم تبحث عن دليله، وهذا عكْس للقضية؛ لأنك قد تعتقد قبل أن تستدل، والصواب في الترتيب أن تستدل لِما تعتقد، وأن يكون انطلاقك من الوحيين.
هذا ما يتعلق بسبب اختيار هذا الكتاب من صحيح البخاري في هذا الدرس، وإنْ كان التعليم كله في كل أوجهه خير، فإنه لا يخرج عن قول الله وقول رسوله؛ إما ابتداءً وإما رجوعًا، برد المسائل إلى قول الله وقول رسوله.
وغاية العلم وذروته وأعلاه ما كان مُستقًى من الكتاب والسنة، وهذه مسألة تغيب عن كثير من طلاب العلم، فيذهبون إلى طلب العلم من أقوال الأشياخ، وبالتأكيد أن أقوال العلماء مفاتيح العلم، ويستفاد منها، لكن هي مهما كانت قوةً تحتاج إلى دليل، بخلاف النصوص؛ فهي الدليل ذاته، وإنما يتفاوت الناس في فهمه والاستنباط منه، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقني وإياكم الفقه في الدين، والعمل بالتنزيل، وأن يجعلنا من أوليائه وحزبه، وأن يعيننا على العلم النافع والعمل الصالح.