إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفُسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِل له، ومَن يُضلل فلن تجد له وليًّا مُرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن مُحمدًا عبد الله ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عِباد الله، اتقوا الله واحفظوا ألسنتكم، واقصروا كلامكم على الحسن والجميل من القول، واعمروها بما يُحب ويرضى من القول السديد؛ كما أمركم الملك الحميد، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾الأحزاب:70-71 ، والقول السديد هو القول البعيد عن كل سوءٍ وشرٍّ وفسادٍ وفحشاء.
أيها المؤمنون؛ مَن عدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه، فليكُن لسانك يا عبد الله منك على بال، فليكُن لسانك منك على بال، فما من أحدٍ من الناس يحفظ لسانه ويُحصي كلامه ويرقُب بيانه إلا رأيت صلاح ذلك في عمله وحاله، لقد أمركم الله - عز وجل - بالقول الجميل والحسن والقول السديد، ووعدكم على ذلك العمل الرشيد، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾الأحزاب:70-71 ، فإن صلاح العمل ثمرة القول السديد، فقولوا قولًا سديدًا، وقولوا كما أمركم الله تعالى كل قولٍ حسنٍ حيث قال: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾الإسراء:53 ، وقال - جل وعلا -: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾البقرة:83 .
وقد حذركم الله تعالى من استعمال بيانكم وألسنتكم في كل ما يسوءكم من القول السيئ والجهر به، فاتقوا الله عباد الله؛ فإن كلامكم في كتاب لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً، وما يصدر منكم في قيدٍ من رقيبٍ عتيد كما قال تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ق:17-18 ، وقد أخبركم الله في كتابه في مواضع عديدة عن إحصائه لكلامكم، وعن سماعه لسركم ونجواكم فيقول - جلَّ وعلا -: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾الزخرف:80 ، وقد قال تعالى: ﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾الزخرف:19 ، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾آل عمران:181 .
وإن أول ما يشهد عليكم من أعضائكم يوم القيامة ألسنتكم كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾النور:24 ، فأول ما يشهد عليك لسانك فيما جرى من بيانه وقوله، فاتقوا الله أيها المؤمنون؛ فإن اللسان من أعظم ما يُورِد الناس النار، جاء ذلك في خبر مَن لا ينطق عن الهوى - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: «هل يكُب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم»، وقد جاء في البُخاري من حديث أبي هُريرة أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «إن العبد ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالًا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلَم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالًا (أي لا يُفكر فيها وفي آثارها وعواقبها) يهوي بها في جهنَّم»، وقد جاء في رواية مُسلِم: «إن العبد ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب».
وإياك أن تستصغر كلامًا قبيحًا؛ فإن القبيح وإن صغُر في عينك عند الله عظيم، فاتقِ الله يا عبد الله وذَرِ الكلام القبيح فإنه مُنتنٌ خبيث، فقد قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لقومٍ استنصر بعضهم ببعضٍ فقال: «دعوها فإنها مُنتنة»، لأنها كانت من دعوى الجاهلية، وقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُعلقًا على كلمةٍ لعائشة حيث قال: قُلت للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حسبُك من صفية - وهي إحدى زوجاته - أنها وأشارت بيدها تعني قصيرة، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُعقبًا على هذا الوصف الذي سيق في مساق التنقص، قال لعائشة: «لقد قُلتِ كلمةً لو مُزِجت بماء البحر لمزجته».
فاتقوا الله عباد الله، واحفظوا ألسنتكم، فإنه من كثُر كلامه كثُر سقَطُه، ومَن كثُر سَقَطُه كثُرت ذنوبه، ومن كثُرت ذنوبه فالنار أولى به، اللهم احفظ ألسنتنا إلا فيما يُرضيك، وأعِنَّا على ما يُقربُنا إليك من القول والعمل، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
***
الحمد لله خلق الإنسان، علَّمه البيان، أحمده حق حمده، فهو المُتفضل على الإنسان بكل إنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، الملك الديَّان، وأشهد أن مُحمدًا عبد الله ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله واحفظوا ألسنتكم، فإن حفظ اللسان مبدأ كل خيرٍ، ومنشأ كل بِرٍّ، ويقود الإنسان إلى رُشدٍ في قوله وعمله، وصلاحٍ في حاله وشأنه، فاتقوا الله واحفظوا ألسنتكم، فهذا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسأله مُعاذٌ - رضي الله تعالى عنه - عن عملٍ يُقربه ويُدخله الجنة، ويُباعده من النار، فقال له - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما شاء الله من البيان، ثُمَّ قال: «ألا أُخبِرُك بمِلاك ذلك» أي: ما تملك به هذه الأبواب من أبواب الخير، قُلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه، أي أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمسك لسانه، فقال: «كُفَّ عليك هذا»، إن نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوصى رجلًا بقوله: «أمسِك عليك لسانك»، وكل ذلك لأن حفظ اللسان من أسباب الاستقامة، وقد قال رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فيما رواه أحمد بإسنادٍ جيدٍ: «لا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».
إن اللسان من أعظم الأعضاء خطرًا على الإنسان؛ ولذلك جاء أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – أخبر أنه «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تُكفِّر اللسان، فتقول: اتقِ الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا».
وقد قال مُحمد بن واسع فيما يُوصي به مالك بن دينار، وكلاهما من الأئمة الكِبار: «يا أبا يحيى، حفظ اللسان أشد على الإنسان من حفظ الدنانير والدراهم».
فاتقوا الله عباد الله، واحفظوا ألسنتكم، فإنه عندما تكثُر خلطة الإنسان بالناس يُطلق لسانه في القول فيما يعود عليه بالخُسران والخَبال، فاتقوا الله واعملوا بوصية النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - التي أوصاكم بها، فإنها عنوان حفظ اللسان: «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت».
فإذا سأل أحدٌ: كيف أحفظ لساني؟
فهذا هو الجواب النبوي، «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت» فعندما تتكلَّم أو تُريد الكلام انظُر فيما تتكلَّم به، هل هو خيرٌ؟ فإن كان خيرًا فأطلِق لسانك به، وأبشِر؛ فإن عواقبه جميلة، وإن كان غير ذلك فاحفظ لسانك منه، وغير الخير شيئان:
إما أن يكون شرًّا محضًا ظاهرًا، فهذا تجنَّبْه واحذره.
وإما أن يكون مما هو من الكلام المباح، فاحفظ لسانك منه؛ فإن كثرة القول تُورِد كثرة السقط، والإنسان قد يتكلَّم بكلمةٍ لا يُلقي لها بالًا يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب.
فاحفظوا ألسنتكم لا سيَّما فيما يتعلق بأمر دين الله - عز وجل -، فلا تَقْفُوا في دين الله ما ليس لكم به علم، ولا سيَّما في أعراض الناس؛ فإن أعراض الناس خطيرة، ولا يُمكن التوبة بمجرد الاستغفار والإنابة إلى الله، بل لابُدَّ من استباحة واستحلال الناس مما وقعت في أعراضهم، ومما نلت منهم، وذاك أمرٌ عسيرٌ على كثيرٍ من النفوس.
فاتقوا الله عباد الله واحفظوا ألسنتكم، واعلموا أن من حفظ اللسان، أو مما يدخل في حفظ اللسان حفظ البَنان؛ فإن حفظ البنان فيما يكتبه ويتراسل به الناس عبر وسائل التواصل لا يقل خطورةً عن اللسان؛ فإن البنان بيانٌ عمَّا في القلب، كما أن اللسان بيانٌ عمَّا في القلب، فاحفظ بنانك، واحفظ لسانك، واتقِ ربَّك، واعلم أنك ستُسأل عن كل قولٍ يصدر منك في كتابٍ لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرة، وثمَّة مَن يرقُبُك ويرصد عليك، ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ق:17-18 ، ولا يغُرنَّك قومٌ استهانوا بألسنتهم واستطالوا في أعراض الناس وأصبحت كلماتهم تفري في الغائبين، وتنال من الناس بحقٍّ أو باطل؛ فإن ذلك من موارد الهلاك، وهؤلاء لا يسلمون من شرٍّ في دُنياهم، ومن أذًى وعقابٍ عظيمٍ في أخراهم.
اللهم احفظ ألسنتنا، واستعملها فيما تُحب وترضى، اعمرها بذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، اللهم ارزُقنا قولًا سديدًا، وعملًا رشيدًا، وفِّقنا إلى ما تُحب وترضى يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم إنَّا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والرشاد والغِنى، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا ووُلاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم وفِّق وُلاة أمرنا إلى ما تُحب وترضى، سدِّده في القول والعمل، وكُن له ظهيرًا ونصيرًا، ومُعينًا يا رب العالمين، واجمع به كلمة المسلمين، وانصر به الإسلام وأهله، واجعله سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنَّا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم احفظ بلاد المسلمين من كل سوءٍ وشر، اللهم ألِّف بين قلوبهم وأصلِح ذات بينهم، اللهم مَن أراد بالمسلمين وبلادهم شرًّا أو ضُرًّا فاجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين، اللهم أنقذ المسجد الأقصى من اليهود الغاصبين، اللهم أنقذ المسجد الأقصى من اليهود الغاصبين، اللهم أنقذ المسجد الأقصى من اليهود الغاصبين، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم صلِّ على مُحمد وعلى آل مُحمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيد.