بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى :
وأنواع العبادة التي أمر الله بها مثل الإسلام والإيمان والإحسان ومنه الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله تعالى، والدليل قوله تعالى: ] وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [ ([1])، فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر، والدليل قوله تعالى: ] وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [ ([2]). وفي الحديث: ( الدعاء مخ العبادة ) والدليل قوله تعالى: ] وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [ ([3])، ودليل الخوف قوله تعالى: ] إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [([4])، ودليل الرجاء قوله تعالى: ] فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [([5])، ودليل التوكل قوله تعالى: ] وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [([6])، وقال: ] وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [([7])، ودليل الرغبة والرهبة والخشوع قوله تعالى: ] إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[([8])، ودليل الخشية قوله تعالى: ] فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي[([9])، ودليل الإنابة قوله تعالى: ] وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [([10])، ودليل الاستعانة قوله تعالى: ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[([11])، وفي الحديث: ( إذا استعنت فاستعن بالله )([12])، ودليل الاستعاذة قوله تعالى: ] قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [([13])، وقوله تعالى: ] قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ[([14])، ودليل الاستغاثة قوله تعالى: ] إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [([15])، ودليل الذبح قوله تعالى: ] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [([16])، ومن السنة: ( لعن الله من ذبح لغير الله )([17])،ودليل النذر قوله تعالى: ] يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً[ ([18]).
هذا بداية تفصيل لما يجب إفراد الله سبحانه وتعالى به من العبادات، قال المؤلف رحمه الله: مثل الإسلام والإيمان والإحسانوفهمنا من هذا أن المؤلف رحمه الله لن يستوعب ذكر العبادات، إنما مقصوده التمثيل لأهمها، وبدأ رحمه الله في ذكر العبادات بذكر أصولها، فأصول العبادات الإسلام والإيمان والإحسان، فكل العبادات ترجع إلى هذه الأنواع الثلاثة، الإسلام ترجع إليه عبادات الجوارح الظاهرة، والإيمان يرجع إليه عبادات القلب، والإحسان هو منتهى العبادة القلبية، فهذه الأمثلة الثلاثة هي مراتب الدين، ولذلك لما جاء جبريل وسأل عنها في حديث عمر tفي الحديث الطويل المشهور قال رسول الله r: (( هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ))فوصف ما تضمنه الحديث بأنه الدين أو أمر الدين، المهم أن هذه المراتب الثلاث هي مراتب الدين وهي أصوله، ثم بعد ذلك فرّع المؤلف رحمه الله أمثلةً فقال: ومنه الدعاء، واعلم: أن الدعاء في كتاب الله عز وجل يطلق ويراد به دعاء العبادة، ويطلق ويراد به دعاء المسألة، فحيث ما ذكر الله الدعاء فيصلح أن يكون دعاء العبادة ويصلح أن يكون دعاء المسألة، إلا في مواضع ينصرف عن دعاء المسألة في قوله تعالى: ]ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً[ ([19])فهنا المراد بالدعاء دعاء المسألة فالدعاء والدعوة في كتاب الله عز وجل يراد بها دعاء العبادة ودعاء المسألة وأظن أن التفريق بينهما واضح: دعاء العبادة هو كل عبادة يتقرب بها الإنسان لله عز وجل ودعاء المسألة هو ما ينزله العبد بربه من الحوائج.
قال رحمه الله: والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر،
هذه الأمثلة منها ما هو عبادات قلبية وهو الأكثر والغالب ومنها ما هو عبادات فعلية.
ومنها ما هو عبادات قولية. فمثل رحمه الله لجميع العبادات: العبادات القولية، العبادات الفعلية، العبادات القلبية.
قال رحمه الله: وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله تعالى.
المؤلف رحمه الله ذكر أمثلة للعبادة، والضابط الذي ينتظم جميع العبادات : هو " أن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة " وهناك تعريف آخر وهو أسهل وأوضح وهو أن يقال: " العبادة كل ما أمر الله به ورسوله سواء كان أمرَ وجوبٍ أو أمر استحباب فإنه عبادة " ولذلك من الأحسن أن يضاف للتعريف الأول للعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة الواجبة والمستحبة؛ حتى يتضح أن العبادات لا تقتصر فقط على الواجبات، بل حتى المستحبات داخلة في مسمى العبادة.
يقول رحمه الله في الاستدلال لهذه لأمثلة التي ذكرها من العبادات: والدليل على ذلك قوله تعالى: ]وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً[([20])هذا دليل لجملة ما تقدم من العبادات، فكل عبادة يصح الاستدلال على عدم جواز صرفها لغير الله تعالى بقوله سبحانه وتعالى: ]وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً[ وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وقلنا: إن المساجد هنا هي أماكن العبادة، جمع مسجد وهو اسم مكان العبادة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل أماكن العبادة مستحقةً له، وهذا يفهم منه أن ما يكون فيها يجب أن يكون له، ولذا أكد ذلك بقوله:]فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً[ وهذا يشمل النهي عن دعاء المسألة ودعاء العبادة، وقوله: ] أَحَداً[ نكرة في سياق النهي فتفيد العموم كائناً من كان.
قال رحمه الله: فمن صرف منه شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر.
لا إشكال في ذلك: من صرف أيَّ نوعٍ من أنواع العبادات لغير الله عز وجل ولو أفرد بقية العبادات لله سبحانه وأخلصها له فإنه لا ينفعه، بل هو مشرك.
قال: والدليل قوله تعالى: ]وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ[([21]) هذا دليل على عدم جواز صرف العبادة لغير الله عز وجل، وأن من صرف شيئاً منها فقد كفر ]وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ[ فالشرط في قوله: ]وَمَنْ يَدْعُ[ جوابه في قوله: ]فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ[ وهذا فيه التهديد والوعيد لكل من دعا غير الله عز وجل، فمن يدعو مع الله إلهاً آخر ملكاً مقرباً، أو نبياً مرسلاً، أو حجراً أو صنماً أو غير ذلك، كل ذلك يدخل في هذه الآية، وفائدة قوله تعالى: ]لا بُرْهَانَ لَهُ[: أنه وصف كاشف، وفائدة الوصف الكاشف: زيادة البيان والتوضيح والتسجيل على هؤلاء الذين صرفوا العبادة لغير الله بأنهم صرفوها بلا بينة ولا برهان. وفي هذه الآية قال: ]فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ[ ثم صرح بالحكم على هؤلاء فقال: ]إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ[ فحكم عليهم بالكفر لأن الخطاب فيمن دعا مع الله إلهاً آخر، فأخبر بأن حسابه عند ربه، وأنه لا يفلح الكافرون، فتبينت نتيجة الحساب، وهي عدم الفلاح، فنفى عنه تحصيل المطلوب والأمن من المرهوب. وهذه الآية دالة، ووجه دلالتها على أن من صرف شيئاً فقد أشرك]وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ[ قوله: ] إلهاً [ نكرة في سياق الشرط فتعم كل مدعو. وتعم أيضاً كل دعاء، فالعموم في المدعو والعموم في الفعل أيضاً، وهو الدعاء، واعلم أنه يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله قاعدة مفيدة، فقال: " حيثما رأيت الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه دعاء الكفار والمشركين فاعلم أن المقصود به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة"، وهذا يريحك إذا ضبطت هذا الضابط واستحضرته أراحك فيما ذكره الله عز وجل من الدعاء والدعوة عن المشركين في كتابه. فان المقصود به دعاء العبادة المتضمن لدعاء المسألة.
قال رحمه الله في الاستدلال على أفراد العبادات التي مثل بها:
وفي الحديث: "الدعاء مخ العبادة"([22])هذا الحديث رواه الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه، وهو حديث متكلم فيه، وأصح منه ويحصل به المقصود في الاستدلال: اللفظ الآخر، وهو قوله r: "الدعاء هو العبادة "([23])وأدلة كون الدعاء عبادةً كثيرة واضحة.
قال: والدليل قوله تعالى: ]وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[([24]).
هذا فيه أيضاً الاستدلال على الدعاء في قوله: ]ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[، والدعاء المأمور به في الآية: دعاء العبادة ودعاء المسألة.
فإذا كان دعاء عبادة فإن استجابته هي الإثابة من الله سبحانه وتعالى عليه.
وإذا كان دعاء مسألة فاستجابته حصول مقصود الداعي والإثابة عليه أيضاً؛ لأن كل من دعا ولو كان دعاؤه بأمر دنيوي فإنه يثاب على دعائه، يعني لو قال: اللهم ارزقني مركباً هنيئاً وزوجةً صالحة، وبيتاً واسعاً فهذه من أمور الدنيا مما يتمتع به في الدنيا، إذا سأل الله عز وجل فإن استجابة الله له تكون بإثابته عليه، وهذا محقق لكل داعٍ.
الأمر الثاني: وهو حصول مطلوبه فهذا قد يحصل وقد لا يحصل، بناءً على حكمة الله عز وجل في تحقيق مطلوب العبد أو ادخار ذلك له في الآخرة أو دفع شرٍ عنه نظير ما دعا أو مثل ما دعا.
و قوله تعالى: ]وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي[ فيه دلالتان:
الأولى: أن دعاء المسألة من العبادة، والثانية: أن المراد بالدعاء السابق في أول الآية ما هو أعمّ من دعاء المسألة وهو دعاء العبادة.
قال: ودليل الخوف قوله تعالى: ]فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[.
واعلم أن الخوف الذي يجب إفراد الله سبحانه وتعالى به هو خوف السر، فهذا نهى الله سبحانه وتعالى عن صرفه لغيره، وخوف السر: هو الخوف الذي يتقرب به الخائف للمخوف ويتعبد به الخائف للمخوف منه، وذلك بأن يستحضره في الغيب والشهادة وفي السر والعلن، ولذلك سماه العلماء بخوف السر يعني: الخوف العبادي الذي يحمل الإنسان على فعل الطاعات وترك المنكرات، فهذا لا يجوز صرفه لغير الله، ومن صرفه لغير الله فقد أشرك شركاً أكبر يحرِّم عليه الجنة ويوجب له النار، هذا النوع الأول من الخوف الذي نهي عن صرفه لغير الله عز وجل.
والنوع الثاني من أنواع الخوف التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها عباده المؤمنين هو الخوف المقعد عن الطاعة أو الخوف الحامل على المعصية، فهذا الخوف ليس من الشرك، ولكنه معصية يعاقب عليها الإنسان، فإذا حمل الخوف الإنسان على ترك الجهاد مثلاً أو حمله على ترك طلب العلم أو حمله على عدم فعل ما يجب عليه فإنه معصية يأثم عليها، ولكن هل يكون قد قارف شركاً بهذا النوع من الخوف ، لا ليس هذا من الشرك.
أما النوع الثالث من الخوف: فهو الخوف الطبيعي، والخوف الطبيعي منه ما هو مذموم ومنه ما ليس بمذموم، مثال الذي ليس بمذموم قوله تعالى: ]فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ[([25])في قصة موسى عليه السلام، فهذا الخوف ليس بمذموم، لأنه خوف مما يوجب الخوف، ويحصل منه الخوف عادة، أما الخوف الذي ينشأ عن الأوهام فإنه خوف مذموم، ومن الخوف ما يكون جبناً فإنه مذموم، لكنه ليس بشرك، ولكنه يكون من المعاصي.
قال: ودليل الرجاء قوله تعالى: ] فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [([26])ذكر المؤلف رحمه الله تعالى الرجاء بعد الخوف، لأنه قرينه، فالإنسان له جناحان يطير بهما، الخوف والرجاء، وبهما يبلغ المأمن، وسيأتي تفصيل ما يتعلق بالخوف والرجاء وأيهما يغلب في شرحٍ مفصل.
قال المؤلف رحمه الله: ودليل التوكل قوله تعالى: ]وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[([27])وقال تعالى: ] وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [([28])والتوكل هو صدق الاعتماد على الله عز وجل في جلب المحبوب ودفع المكروه , وهذا يجب إفراد الله سبحانه وتعالى به لفظاً وعقداً، أما لفظاً فلا يجوز أن تقول: توكلت على فلان، إنما تقول: وكلت فلاناً، وأما عقداً فلا يجوز أن تركن بقلبك وأن تعتمد على غير الله جل وعلا فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى، بل يجب تمحيض الاعتماد وتخليصه من كل نظرٍ إلى مخلوق أو سبب،
قال رحمه الله في الاستدلال على التوكل:]وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ[ أي: كافيه، وهذا فيه الأمر بالتوكل، وفيه أن المتوكل على الله يحصّل مطلوبه.
قال: ودليل الرغبة والرهبة والخشية قوله تعالى: ]إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[([29])فالرغبة هي الصدق في الرجاء، والرهبة هي الصدق في الخوف، فالرغبة إذاً: نوع من الرجاء وهي أعلاه، والرهبة نوع من الخوف وهو منتهاه، قال: والخشوع هو الذل لله عز وجل، واعلم أن الذل أمر لا تستقيم العبادة بغيره، وهو من أركان العبادة العظيمة التي ينشأ عنها الكثير من العبادات القلبية من الإخبات، والإنابة، والتواضع، وغير ذلك من عبادات القلب، ولذلك قال:]وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[ هذا في بيان مجمل حالهم أنهم خاشعون لله سبحانه وتعالى،
قال:ودليل الخشية قوله تعالى: ]فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي[([30])والخشية نوع من الخوف، لكنها تفارق الخوف بأنها خوف مع علم، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: ]إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[([31])فالخشية خوف مع علم، وذكرت فروق أخرى، ولكن هذا أبرزها.
قال: ودليل الإنابة قوله تعالى: ] وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ[([32])والإنابة هي الرجوع، وحقيقة الإنابة عكوف القلب على طاعة الله ومحبته والإقبال عليه.
قال رحمه الله: ودليل الاستعانة قوله تعالى: ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[ فالاستعانة طلب العون، وطلب العون من الله جل وعلا يكون على الأمور الدينية وعلى الأمور الدنيوية. فإن لم يحصل من الله عون للفتى وللمرء في تحصيل مطلوباته فإنه لا يحصل شيئاً، ولا يصيب غرضاً، وقد ذكره الله في كتابه بعد العبادة لأنها فرع الإقرار بعبودية الله سبحانه وتعالى، فإن من أقرّ بأن الله هو المعبود طلب العون منه وحده، لأن المعبود هو الكامل في أوصافه جل وعلا، ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ [ فيه إثبات ألوهيته سبحانه وتعالى، ] وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [ فيه إثبات ربوبيته، لأنه إنما يستعان بالمالك الرازق المدبر الخالق الذي بيده الأمر وله الأمر كله جلّ وعلا.
قال: وفي الحديث: (( إذا استعنت فاستعن بالله ))([33]). واعلم أن إفراد الله بالاستعانة وإخلاص الاستعانة به سبحانه دون غيره وإخلاص الاستعانة له كل هذا في استعانة العبادة، وأما الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه وهو حاضر أو وهو غائب ويتصل به إما مباشرة أو بكتاب فإن هذا ليس محذوراً، ولا يخل بالتوحيد، ولكن تركه من كمال العبد، ولذلك كان الأصل في سؤال الناس وطلبهم النهي.
قال: ودليل الاستعاذة قوله تعالى: ]قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس ِ[ ([34])الاستعاذة هي طلب العوذ.
ودليل الاستغاثة قوله تعالى: ]إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [ ([35])والاستغاثة طلب الغوث، والفرق بينهما: أن الاستعاذة دفع والاستغاثة رفع، فالاستعاذة طلب دفع الشر قبل وقوعه، هذا في الغالب، والاستغاثة طلب رفعه بعد نزوله، واعلم أن الاستعاذة والاستغاثة تارةً تكون عبادةً، فلا يجوز صرفها لغير الله عز وجل، وتارةً تكون عادةً، فيجوز طلبها من المخلوق، نظير الاستعاذة التي تجوز من المخلوق ما جاء في صحيح مسلم أن النبي rقال: (( من سمع به فلينأ عنه" وفيه قال: "من وجد معاذاً أو ملاذاً فليعذ به ))فدل ذلك على جواز الاستعاذة بالمخلوق فيما يقدر عليه إذا كان حاضراً، وكذلك تجوز الاستغاثة بالمخلوق في الأمر العادي الذي يقدر عليه وهو حاضر، ومثال هذا ما جرى من صاحب موسى ]فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ[ ([36])فدل ذلك على جواز طلب الاستغاثة من المخلوق الحاضر فيما يقدر عليه.
إذاً فهمنا أن الاستعاذة والاستغاثة والاستعانة تارةً تكون عبادة فلا يجوز صرفها لغير الله عز وجل، وتارةً تكون عادةً فهذا يجوز بالقيود التي تقدمت.
قال رحمه الله: ودليل الذبح قوله تعالى: ]قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ`لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[ ([37]). والذبح لغةً: هو شق حلق الحيوان، والمراد به هنا: ذبح ما يتقرب به لله، وقوله:]قُلْ إِنَّ صَلاتِي[ الصلاة قيل: المراد بها الدعاء، وقيل: المراد بها الصلاة المعروفة المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، فالصلاة لله جل وعلا، وقوله: ]وَنُسُكِي[ النسك قيل في تفسيره هو: ما يتقرب به إلى الله عز وجل من الذبائح والقرابين، وقيل: إن النسك هنا يشمل كل ما يتعبد به، والنسك لغةً يطلق على ما يتقرب به من العبادات غير الذبح، ومنه الحج والعمرة، فالمناسك هنا لا تقتصر على الذبح والتقرّب به فقط، بل النسك يشمل الذبح ويشمل غيره، ]وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي[ أي: عمل حياتي وعمل موتي، كل هذا لله رب العالمين، وهذا فيه بيان وجوب إفراده سبحانه وتعالى بذلك، لأنه أخبر وأمر النبي rبالقول في هذه الآية لتبليغ هذا بخصوصه على أنه هو المستحق لذلك دون غيره، ] لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[ قوله: ] لِلهِ[ استحقاقاً، وقوله: ]رَبِّ الْعَالَمِينَ [ هذا فيه بيان وجه استحقاقه، وقوله: ]لا شَرِيكَ لَهُ[ هذا فيه بيان انفراده بذلك وتأكيد ما تقدم في قوله: ] لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[، ثم قال: ]وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ[ يعني: أن هذا الإفراد وهذا الإخلاص ليس أمراً من قبل نفسي، بل هو أمر من الله سبحانه وتعالى، ]وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[ أي: أول المنقادين المبادرين لامتثال هذا الأمر، وهو في قوله: ]قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[ والإسلام هو الانقياد.
يقول: ومن السنة: (( لعن الله من ذبح لغير الله ))([38])واللعن يقتضي تحريم الفعل الملعون صاحبه. والذبح على أنواعٍ نبينها على وجه الإيجاز:
النوع الأول: الذبح لله عز وجل مع ذكر اسمه، هذا هو المأمور به فتذبح لله قصداً وتفرده لفظاً، فتقول: باسم الله عند الذبح، هذا الذي أمر الله سبحانه وتعالى به وأحله لأهل الإسلام.
الثاني من أنواع الذبح: الذبح لغير الله قصداً ولفظاً، فيقصد بذبيحته مثلاً ولياً من الأولياء أو ملكاً من الملائكة أو أحداً من الجن أو صنماً، ويسمي المقصود، فيذبح مثلاً لعلي بن أبي طالب، أو للحسين بن علي قصداً، يعني: يريد التقرب إليه بهذا الذبح باسم الحسين أو باسم عليٍ أو باسم النبي أو باسم جبريل، هذا كله شرك أكبر يخرج صاحبه من الملة. وهذا لا إشكال فيه، ولا خلاف بين أهل العلم: في أن من فعل هذا فقد خرج من دائرة الإسلام، وخلع ربقة الإيمان، وليس من أهل القبلة، لوقوعه في الشرك الذي جاءت الرسل بالتحذير منه والنهي عنه.
النوع الثالث: أن يذبح لله قصداً ويذكر اسم غيره لفظاً، ففي العقيقة مثلاً يتقرب إلى الله بالذبح وفي الهدايا التي تهدى إلى البيت الحرام، يقصد بها التقرب إلى الله عز وجل، لكن عند الذبح يذكر غير الله، يذكر ملكاً، أو إنساً أو جناً أو ما إلى ذلك مما يُشرك به وتصرف العبادة إليه، فهذا شرك وكفر كالنوع الثاني، وإن كان أخف منه درجة. لكنه شرك وكفر، لأنه مما أهلّ به لغير الله.
النوع الرابع: أن يقصد بالذبيحة غير الله ويذكر اسم الله عليها، فيقصد بالذبح ولياً أو نبياً أو ملكاً أو غير ذلك، وعند الذبح يقول: باسم الله ، وحكم هذه الذبيحة : أنها محرّمةٌ لا يحلّ أكلها، وفعل الذابح شرك أكبر، لأن النبي rقال: ((إنما الأعمال بالنيات))([39])ولأنه ذبح لغير الله، فلم يحقق قوله تعالى: ]قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[([40])هذه الأقسام على وجه الإيجاز في الذبح.
قال رحمه الله: ودليل النذر قوله تعالى: ]يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً[([41])والنذر هو أن يلزم المكلف المختار نفسه لله شيئاً ممكناً بأيِّ صيغة كانت أي: بأيِّ قولٍ كان، كأن يقول: لله عليّ صوم كذا إن فعلتُ، أو إن لم أفعل كذا، أوغير ذلك من الصيغ التي تفيد الالتزام، والأصل في النذر أنه منهي عنه، ولكن إذا نذر الإنسان وجب عليه الوفاء بنذره، لثناء الله عز وجل على الموفين بقوله: ]يُوفُونَ بِالنَّذْرِ[ ولقول النبي r: (( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصِه ))([42])، والنذر أيضاً لا يجوز صرفه لغير الله، لأنه عبادة من العبادات التي يجب أن يفرد بها الله سبحانه وتعالى، فمن نذر لغير الله ولو بعود كبريتٍ تقرباً فإنه قد وقع في الكفر والشرك وخرج من الإسلام، واعلم أن الشرك قليله وكثيره سواء، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحذر منه غاية الحذر، ومقصودي بقليله وكثيره: أنه يستوي فيه الحكم بخروج الإنسان عن الإسلام إذا كان شركاً أكبر، وفي حصول التهديد والعقوبة له إن كان شركاً أصغر.
وبهذا يكون قد انتهى ما ذكره المؤلف رحمه الله من أمثلة العبادة والأدلة عليها، وبهذا يكون قد انتهى الأصل الأول إن شاء الله تعالى.
([12]) أخرجه الترمذي في صفة يوم القيامة برقم 2440 وأخرجه أحمد في مسند بني هاشم برقم 2537، 2627، 2666.
([17]) أخرجه مسلم في الأضاحي برقم : 3657 و 3658 والنسائي في الضحايا برقم :4346 وأحمد في مسند العشرة برقم : 813.
([23]) أخرجه الترمذي في التفسير برقم: 3170، وفي الدعوات برقم: 3294، وأبو داود في الصلاة، برقم: 1264، وابن ماجه في الدعاء، برقم: 3818، وأحمد في مسند الكوفيين، برقم: 17629، و 17660.
([33]) أخرجه الترمذي في صفة يوم القيامة، برقم:2440، وأحمد في مسند بني هاشم برقم: 2537، و 2627، و 2666.
([38]) أخرجه مسلم في الأضاحي برقم: 3658، و3659، والنسائي في الضحايا برقم: 4346، وأحمد في مسند العشرة، برقم: 813، و908، و1238.