×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

المكتبة المقروءة / دروس / دروس العقيدة / الأصول الثلاثة / الدرس الرابع من الأصول الثلاثة

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis
الدرس الرابع من الأصول الثلاثة
00:00:01

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله تعالى : الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة، وهو: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، وهو ثلاث مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان، وكل مرتبة لها أركان: فأركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام. فدليل الشهادة قوله تعالى: ] شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم[([1])ومعناها لا معبود بحق إلا الله. ] لا إله [ نافيا جميع ما يعبد من دون الله، ] إلا الله [ مثبتا العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته كما أنه لا شريك له في ملكه، وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى: ] وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون` إلا الذي فطرني فإنه سيهدين `وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون[([2])وقوله: ] قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [([3]). أما بعد: فهذا هو الأصل الثاني من الأصول التي تضمنتها هذه الرسالة المباركة، وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة، والأدلة الدالة على هذا الدين القويم أدلة متنوعة، أدلة خلقية وأدلة سمعية، يعني: أدلة مشاهدة وأدلة متلوة، فأما الأدلة المشاهدة فهي ما لفت الله عز وجل إليه الأنظار من الآيات السماوية والأرضية، العلوية والسفلية، الدالة على صدق ما جاءت به الرسل وصحة ما جاء به النبي rمن دين الإسلام، وأما الأدلة المتلوة السمعية: فهو هذا الكتاب المبين، القرآن الحكيم، الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على خاتم النبيين.  والإسلام يتوصل إلى صحته عن الطريقين جميعا، عن طريق النظر في الأدلة الخلقية، ولذلك أمر الله بالنظر إليها، وعن طريق النظر بالأدلة السمعية الأدلة المتلوة الدالة على صحة هذا الدين القويم، وأنه من لدن حكيم خبير، فقوله: ( بالأدلة )يشمل هذين النوعين، ثم بين المؤلف رحمه الله الدين بقوله: ( وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة) – وعندي -(والخلوص من الشرك ) وهذه الأمور الثلاثة بها يستقيم إسلام الإنسان، والمراد به: الاستسلام لله بالتوحيد، هذا هو الأصل الذي اتفقت عليه الرسل، ولتأكيد هذا قال: والخلوص من الشرك، فإنه لا يحصل تمام الاستسلام لله بالتوحيد إلا بالبراءة من الشرك، قال الله سبحانه وتعالى: ] فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى [([4])فجعل الاستمساك بالعروة الوثقى مرتبة على أمرين: على الكفر بالطاغوت، وعلى الإيمان بالله تعالى، فلا يحصل لأحد الاستمساك بالعروة الوثقى و الإقرار على الإسلام إلا بهذين الأمرين، وهما اللذان عرف بهما الشيخ رحمه الله الإسلام بقوله: ( وهو الاستسلام لله بالتوحيد والخلوص من الشرك )، أما الانقياد له بالطاعة فلا إشكال أنه من الإسلام، وأنه لا يكون المرء مسلما إلا بانقياده لله جل وعلا بالطاعة فيما أمر وبالطاعة في اجتناب ما نهى عنه وزجر، وهو من لوازم الاستسلام لله تعالى، وإنما أفرده بذكر مستقل لأنه أراد أن يحصل في هذا التعريف الإحاطة بالإسلام الظاهري والباطني، يعني بإسلام القلب والجوارح، وإلا لو قال: الإسلام هو الاستسلام لله وحده لكفى في بيان ماهية الإسلام، ولذلك عرف شيخ الإسلام ابن تيمية الإسلام بقوله: " الإسلام وهو الاستسلام لله وحده"، وأصله في القلب بالخضوع، والمحبة، والخوف، والرجاء، وإفراده سبحانه وتعالى بالعبادة، وبالجوارح، يعني في باب العمل بالانقياد له سبحانه وتعالى، فلا يقر الإسلام في قلب أحد إلا بهذين. ثم بعد أن ذكر البيان المجمل لهذا الدين أراد ذكره على وجه التفصيل، فقال رحمه الله: (وهو ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان)وبه نعرف أن التعريف السابق يشمل جميع هذه المراتب، فالإسلام الذي تقدم تعريفه هو الدين الذي جاء به النبي r، المتضمن لجميع ما أمر به ونهى عنه ودعا إليه، وهذا الذي أمر به أو نهى عنه أو دعا إليه يندرج تحت ثلاثة أمور، هي المراتب التي أشار إليها بقوله: ( وهو ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان)هذه هي مراتب الدين، والدليل على هذه المراتب الثلاث وأنها تشمل الدين ويندرج تحتها جميع ما جاء به الرسول rحديث جبريل: فإنه أتى النبي rوسأله عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان، فأجابه النبي rعن ذلك كله، ثم قال النبي rفي آخر الحديث: (( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم )) وفي رواية ((أمر دينكم ))([5])فجعل ما تقدم ذكره من بيان الإسلام والإيمان والإحسان تعليما لأمر الدين، ولذلك كان هذا الحديث الأصل الذي يجب على كل أحد، فمن أنكر شيئا مما تضمنه هذا الحديث في الإسلام والإيمان والإحسان فإنه لم يقر بالنبي r، ولم تثبت قدمه في دين الإسلام، وهذه المراتب الثلاث يدخل بعضها في بعض، فالإسلام أوسعها دائرة، فهو ينتظم الإيمان والإحسان، وأخص منه الإيمان، وأخص منه الإحسان، وسيأتي تفصيلها في كلام المؤلف رحمه الله. ودليل هذه المراتب من كتاب الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى: ] ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير[([6])فهذه المراتب الثلاث تقابل المراتب المذكورة في كلام الشيخ رحمه الله، وهي المضمنة في حديث جبريل، واعلم: أن هذه الأسماء الثلاثةإذا افترقت دل كل واحد منها على مضمون الآخر، وإذا اجتمعت كما هو الحال في حديث جبريل اختص كل اسم بمعنى مستقل، والجامع لهذه المعاني: أن الإسلام يتعلق بالعمل الظاهر, والإيمان يتعلق بعمل القلب، والإحسان هو الغاية في عمل القلب وعمل الظاهر، يعني: الإحسان هو المنتهى في أعمال القلوب والجوارح، فمن حقق الإحسان يكون حقق الإحسان والإيمان والإسلام، ومن حقق الإيمان فإنه قد حقق مع الإيمان الإسلام فقط، دون الإحسان، لأن الإحسان مرتبة فوقهما، ومن أتى بالإسلام لا يكون قد حصل مرتبة الإيمان ولا الإحسان من باب أولى. والدليل على ذلك قوله تعالى: ] قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم [([7]) فدل ذلك على أن المتصف بالإسلام قد لا يتحقق به وصف الإيمان.   نبدأ في بيان ما ذكره المؤلف رحمه الله في كل مرتبة، قال: ( وكل مرتبة لها أركان، فأركان الإسلام خمسة)، دليل ذلك حديث جبريل الذي فيه أن النبي rسئل عن الإسلام فأجاب بقوله: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت " فذكر الأركان الخمسة، ويدل عليه أيضا: حديث ابن عمر: " بني الإسلام على خمس. . . " الخ، هذا هو الدليل لهذه الأركان، قال المؤلف رحمه الله: ( فأركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام) ثم انتقل من الإجمال إلى التفصيل في دليل كل ركن من هذه الأركان، فقال رحمه الله: ( فدليل الشهادة قوله تعالى ] شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم [ ([8])، مراده الشهادة لله تعالى وحده بالألوهية، واستدل على وجوب الشهادة لله تعالى وحده بقوله تعالى: ] شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم [ ووجه الدلالة على وجوب الشهادة لله تعالى: أن الله سبحانه وتعالى شهد لنفسه على انفراده بالألوهية، وشهادة الله سبحانه وتعالى تتضمن الحكم والقضاء والإلزام، ولذلك فسر جماعة من السلف قوله تعالى: ] شهد الله[  بقضى الله، وهذا لا غرابة فيه، فإن شهادة الله قضاء، وحكم، وفصل، وإلزام، ودليل ذلك قوله تعالى: ] وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه[([9])فالشهادة قضاء كما أن الشهادة إعلان وإخبار وإظهار وبيان، وهي لا تكون إلا عن علم، فكذلك هي في حق الله تعالى تكون حكما وقضاء ] شهد الله أنه لا إله إلا هو[ وهذه شهادته سبحانه وتعالى لنفسه بالإلهية، وأنه لا إله غيره، وأشهد على هذا الأمر طائفتين من الخلق، هما أشرف الخلق فيما نعلم، الملائكة - وهم عالم غيبي، خلقوا من نور، وهم من أشرف خلق الله عز وجل – وأولو العلم، والمقصود بأولي العلم : النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون،كل هؤلاء يدخلون في قوله تعالى: ] وأولو العلم [ ووصفهم بالعلم لأن هذه الشهادة لا تكون إلا من عالم، ثم قال سبحانه وتعالى: ] قائما بالقسط [ هذه من حيث الإعراب حال من الضمير في قوله: ] إلا هو [ فيكون قد شهد الله سبحانه وتعالى لنفسه في هذه الآية بأمرين: شهد لنفسه بالألوهية، وشهد لنفسه بأنه سبحانه وتعالى قائم بالقسط، وقيامه بالقسط أي بالعدل، فهو سبحانه وتعالى القائم على كل نفس بما كسبت، القائم بنفسه المقيم لغيره جل وعلا، وهذا الإعراب أحسن من قولنا في قوله: ] قائما بالقسط [: إنه حال من لفظ الجلالة ( الله ) لأن هذا الإعراب الذي قدمناه أشمل في المعنى، فيكون شهد الله وشهد الملائكة وشهد أولو العلم بأمرين: شهدوا لله بأمرين: بالألوهية، وأنه سبحانه وتعالى قائم بالقسط، ثم كرر إفراده بالألوهية بقوله: ] لا إله إلا هو[  والتكرار لتأكيد الشهادة المتقدمة، وليتلفظ بها القارئ انفرادا، فيكون من الشاهدين، لأن مقدم الآية خبر عن شهادة الغير ولذلك قال سبحانه وتعالى : ] شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط [  وهل قراءة هذه الشهادة تحصل بها الشهادة من القارئ ؟ الجواب أنها لا تحصل، ولذلك كررت كلمة التوحيد ليتلفظ بها القارئ حتى يدخل في زمرة أولي العلم، فقال: ] لا إله إلا هو العزيز الحكيم [ سبحانه وتعالى  هو عزيز فيمتنع من أن يكون له شريك، وحكيم: فلا يمكن أن يسوى غيره به في شيء مما يختص به.   ثم قال رحمه الله: ( ومعناها ) أي معنى هذه الشهادة، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، ( لا معبود بحق إلا الله وحده )، وأتى ب ( معبود ) من الشهادة التي يفسرها في قوله تعالى: ]لا إله إلا هو العزيز الحكيم[ ففسر كلمة ( إله ) ( بمعبود ) وهذا تفسير مطابق، فالإله في كلام العرب هو المعبود، فالإله مأخوذ من: أله بمعنى (مألوه ) وهو الذي تألهه القلوب محبة وتعظيما، وخضوعا وذلا، وخوفا ورجاء، والأصل في تعريف الإله في كلام العرب: أنه اسم لمن قصد بشيء من العبادة، وهذا أصح ما قيل في معنى كلمة ( إله ) أما في هذا السياق فالمراد به: لا معبود حق إلا الله. من أين أتى المؤلف رحمه الله بكلمة ( حق ) هل هي موجودة في الشهادة ؟ ليست موجودة في لفظ الشهادة، ولا أحد يقول لا إله حق لفظا، ولكن هذه الجملة لابد فيها من خبر ( لا إله إلا الله ) وإعرابها ( لا ) نافية للجنس، و( إله ) اسمها، مبني على الفتح، ( إلا الله ) إلا أداة استثناء للفظ الجلالة، وليس الاستثناء خبرها ، لأنه لا يصلح أن يكون خبرا لها لا لفظا ولا معنى، أما كونه لا يصلح لفظا فلأن ( لا ) لا تعمل إلا في النكرات. كما قال ابن مالك رحمه الله تعالى: عمل إن اجعل ل(لا) في النكرة                مفردة جاءتك أو مكررة فهي تعمل فقط في النكرات، ولفظ الجلالة ( الله ) فهو معرفة بل لفظ الجلالة أعرف المعارف على الإطلاق، فلا يمكن أن تعمل فيه ( لا ) من حيث اللفظ واللغة.  وأما من حيث المعنى فكذلك، لأن جعلنا لفظ الجلالة خبرا يقتضي إقرارا لمعبودات من دون الله، لأن المعنى يكون: لا معبود إلا الله، وهذا ليس بصحيح، فهناك معبودات كثيرة غير الله عز وجل، ولهذا احتاج العلماء إلى تقدير خبر لهذه الجملة، واختلفوا في تقدير الخبر، فمنهم من قال: ( لا اله ) أي لا معبود في الوجود، ومنهم من قال: ( لا إله حق ) وهذا التقدير هو الأصوب، لأن تقدير في الوجود يلزم عليه أن يكون كل من قصد بعبادة حقا، وهذا ليس بصحيح، إنما الذي يراد من هذه العبارة ومن هذه الجملة: هو إثبات أن الله هو الإله الحق، ولذلك قال سبحانه وتعالى: ] فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون[ ([10])وهذا التقدير أصوب ما قيل في التقدير، وقد سبق ذكر الدليل على ذلك، فيكون المعنى: لا معبود حق إلا الله تعالى، يعني لا إله يقصد بشيء من العبادة وهو مستحق لها وأهل لتلك العبادة إلا الله، فإنه هو المستحق للعبادة دون غيره ]ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير[([11]).   قال المؤلف رحمه الله: ( لا إله نافيا جميع ما يعبد من دون الله إلا الله، مثبتا العبادة لله وحده ) وهذا يفيدنا أيها الإخوة أن التوحيد لا يحصل ولا يتم إلا بركنين: إثبات، ونفي، فالنفي هو : أن (لا إله) نفي لجميع ما يعبد من دون الله تعالى (إلا الله) وحده لا شريك له، وتأمل فيما ذكره الله عز وجل في كتابه من آيات التوحيد، تجد أنها سائرة على هذا النسق، فلا بد من ذكر نفي وإثبات، لأن بذلك يحصل كمال التوحيد.  قال المؤلف رحمه الله: ( لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه ) وهذا كالدليل لما تقدم ذكره من تقدير في قوله: لا معبود حق إلا الله، فالشيخ رحمه الله يقول: وجه هذا التقدير أنه لا يستحق العبادة إلا الله، كما أنه ليس له شريك في ملكه، وهذا استدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية. قال المؤلف رحمه الله: وتفسيرها الذي يوضحها ]وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون`إلا الذي فطرني فإنه سيهدين`وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون[([12])، فقوله: ( وتفسيرها ) الضمير يعود إلى شهادة أن لا إله إلا الله، (الذي يوضحها) ويبينها ويجليها قوله تعالى:]وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون`إلا الذي فطرني فإنه سيهدين[، ]إذ[  ظرف لما مضى من الزمان، ولابد له من متعلق، ومتعلقه في مثل هذا السياق ( اذكر ) يعني اذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: ]إنني براء[ براء مصدر يستوي فيه المفرد والجمع، والمراد من ذلك: إنني بريء، فهو تبرؤ من عبادة قومه للأصنام، وهو معنى قوله تعالى: ] واجنبني وبني أن نعبد الأصنام[([13])فالبراءة اجتناب لما كان عليه قومه، ولذلك قال: ] مما تعبدون [ يعني من الذي تعبدونه، فما موصولة بمعنى الذي، فتبرأ مما يعبدون ثم قال: ] إلا الذي فطرني [ وهذا استثناء، إما أن يكون استثناء متصلا، أو استثناء منقطعا، على قولين لأهل العلم، فالاستثناء المتصل يلزم عليه أن يكون قومه يعبدون الله وغيره، يعبدون الأصنام ويعبدون الله مع الأصنام، فهذا هو المعنى بناء على جعل الاستثناء متصلا، أما المعنى على كون الاستثناء منقطعا فإن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا لا يعبدون إلا الأصنام فقط، ولا يعبدون الله مع الأصنام، ويكون تقدير الكلام: إنني براء مما تعبدون، لكن الذي فطرني فهو الذي أعبده وأفرده بالعبادة وحده. ثم قال: ومعنى الذي فطرني أي: الذي خلقني، فإنه سيهدين، وهذا فيه التعليل لإفراده بالعبادة، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يملك الهداية، وأن هذه البراءة من هداية الله له، وأن كل من خالف هذه البراءة لفظا أو معنى فإنه بعيد عن هداية الله سبحانه وتعالى، فكما قال جل وعلا في نبأ إبراهيم: ]وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون[([14])، ]جعلها[ الضمير هنا يعود إلى الكلمة وهي البراءة من الشرك المتمثل بعبادة قومه للأصنام، وهي الشهادة والكلمة الباقية في عقبه، ] في عقبه[ يعني في ذريته وخلفه في أولاده وأولاد أولاده، وذلك بما تعاهد به إبراهيم أبناءه من الوصية كما ذكر الله عز وجل في سورة البقرة من وصيته لأولاده بأن يلزموا هذا الدين، ]لعلهم يرجعون[ أي لعلهم يرجعون إلى هذه الكلمة ويلتزمونها، وجه الدلالة: أن شهادة أن لا إله إلا الله تستلزم البراءة من كل ما يعبد من دون الله، وأنه لا يستقيم التوحيد إلا بإفراد الله عز وجل بالعبادة والخلوص من الشرك والبراءة من أهله، وهو معنى قوله تعالى: ]فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى[([15]) فجعل الاستمساك بالعروة الوثقى مرتبا على هذين الأمرين، وانظر إلى حسن تأليف المؤلف رحمه الله وقوة تصنيفه حيث لم يفسر هذه الكلمة أو لم يوضحها ويشرحها بكلام من عنده، وإنما وضحها بكلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبهذا يلقم خصومه حجرا، لأنه لا يمكن لأحد أن يعارض كلام الله عز وجل إلا من كان في قلبه زيغ. ثم قال رحمه الله في بيان هذه الشهادة ومعناها:  وقوله تعالى:] قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [([16])، قوله: ] قل يا أهل الكتاب[ وهم اليهود والنصارى ] تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم [  سواء أي مستو أمرها بيننا وبينكم، وقيل: كلمة سواء أي كلمة عدل، وهذه الكلمة : هي ]ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا[ هذه هي الكلمة العدل، وهي الكلمة التي استوى فيها أهل الإسلام مع أهل الكتاب، لأن دعوة المرسلين على اختلافهم واختلاف أزمانهم وأماكنهم وأقوامهم واحدة، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله ]ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله[ هذا تأكيد لإفراد الله عز وجل بالعبادة، ومن لوازم العبادة ألا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله، ] أربابا[ جمع رب، والرب هو الذي يملك ويرزق ويدبر ويخلق، والمقصود من اتخاذهم أربابا هنا كما بينته السنة: اتباعهم في تحريم الحلال أو تحليل الحرام، فمن اتبع أحدا وأطاعه في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فإنه قد اتخذه ربا من دون الله. قال: ]فإن تولوا[ أي لم يقبلوا هذه الدعوة ولم يستجيبوا إلى ما دعوتموهم إليه من الاجتماع على كلمة سواء - وهي إفراد الله بالعبادة - فموقف أهل الإسلام هو ما أجابنا به آمرا لنا بقوله تعالى : ]فإن تولوافقولوا اشهدوا بأنا مسلمون[ وهذا فيه أنه يجب على المؤمن الثبات على هذه الكلمة ولو خالفه من خالفه، وأنه لا يجوز له أن يتنازل عنها أو أن يعرض عنها أو أن يتخلى عنها بسبب كثرة المعرضين المتولين عنها، فإن تولوا فاثبتوا أنتم على أمركم، بل وأعلنوا ثباتكم بالتصريح في قوله: ] فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون[ وهذه الآية بينت الشهادة التي لا يستقيم لها ساق ولا يثبت لها عود ولا تقر في قلب إلا بهذين الركنين العظيمين، وهما إثبات العبادة لله عز وجل، ونفيها عن غيره كائنا من كان. ثم انتقل المؤلف رحمه الله إلى ذكر الدليل الثاني أو دليل الشهادة الثانية فقال: ودليل شهادة أن محمدا رسول الله قوله تعالى: ] لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم[ ([17])، ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. هذا هو الركن الثاني من أركان شهادة أن لا إله إلا الله، أو هذه أركان الشهادة التي يدخل بها الإنسان إلى الإسلام، الشهادة للنبي محمد rبالرسالة، وسيأتي تفصيل ذلك أو تفصيل من هو النبي في الأصل الثالث من الأصول التي ذكرها المؤلف رحمه الله، ودليل شهادة أن محمدا رسول الله: قوله تعالى ] لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [،فقوله: ]من أنفسكم [ أي: من جنسكم، وقيل: إن الخطاب لقريش، فيكون معناها يعني من العرب، ] عزيز عليه ما عنتم [ وعزيز إذا عديت بعلى كان معناها: الثقل والشدة، أي يثقل عليه و يشق عليه ويشتد عليه، ] ما عنتم [ يعني الذي يتعبكم ويلحقكم مشقة، فهذا وصفه r، عزيز عليه مشقة أمته وتعبهم ]حريص عليكم[ والحرص هو: شدة الرغبة في الشيء، وذلك أن النبي rكان حريصا غاية الحرص على هداية قومه، ودلالتهم على الحق والهدى، حتى إنه أدمي وجهه، وكسرت رباعيته، وشج رأسه، وكان يقول: (( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ))([18])وهذا من غاية حرصه وشفقته على الناس r، ]بالمؤمنين رؤوف رحيم [ وهذا خاص بأهل الإيمان تميزوا به عن غيرهم، فهو rبالمؤمنين رؤوف رحيم، والرأفة هي رقة تنشأ عن الخوف على المرؤوف به، والرحمة تقتضي الإحسان بالمرحوم، فالرأفة تقتضي دفع المكروهات، والرحمة تقتضي جلب المحمودات والمحاسن والمحبوبات، والشاهد من هذه الآية قوله تعالى: ] لقد جاءكم رسول من أنفسكم [ والذي جاءنا من أنفسنا : هو محمد rالذي أخبرنا بهذه الآية، فهذا دليل من القرآن على رسالة النبي r، ومن ذلك قوله تعالى: ] إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون [([19])فأثبت علمه سبحانه وتعالى برسالة الرسول r، بل لما طولب النبي rبدليل على رسالته قال: ] قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم [([20])فاكتفى بشهادة الله عز وجل على إثبات رسالته كما تقدم بيان ذلك في ما تقدم من دروس.       ([1])  آل عمران:18. ([2]) الزخرف: 26-28. ([3]) آل عمران:64. ([4]) البقرة: 256. ([5]) أخرجه مسلم في الإيمان، برقم: 9، والنسائي في الإيمان وشرائعه، برقم: 4904. ([6]) فاطر: 32. ([7]) الحجرات: 14. ([8]) آل عمران: 18. ([9]) الإسراء: 23. ([10]) يونس: 32. ([11]) الحج: 62. ([12]) الزخرف: 26-28. ([13]) إبراهيم: 35. ([14]) الزخرف: 28. ([15]) البقرة: 256. ([16]) آل عمران:64. ([17])التوبة:128. ([18]) أخرجه البخاري، أحاديث الأنبياء، برقم: 3218، وأحمد في سند المكثرين، برقم 4103. ([19]) سورة المنافقون: 1. ([20]) الإسراء: 96.

المشاهدات:4816

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

قال المؤلف رحمه الله تعالى :

الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة، وهو: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، وهو ثلاث مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان، وكل مرتبة لها أركان:

فأركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.

فدليل الشهادة قوله تعالى: ] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[([1])ومعناها لا معبود بحق إلا الله. ] لا إله [ نافياً جميع ما يعبد من دون الله، ] إلا الله [ مثبتاً العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته كما أنه لا شريك له في ملكه، وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى: ] وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ` إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ `وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[([2])وقوله: ] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [([3]).

أما بعد: فهذا هو الأصل الثاني من الأصول التي تضمنتها هذه الرسالة المباركة، وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة، والأدلة الدالة على هذا الدين القويم أدلةٌ متنوعة، أدلة خلقية وأدلة سمعية، يعني: أدلة مشاهدة وأدلة متلوّة، فأما الأدلة المشاهدة فهي ما لفت الله عز وجل إليه الأنظار من الآيات السماوية والأرضية، العلوية والسفلية، الدالة على صدق ما جاءت به الرسل وصحة ما جاء به النبي rمن دين الإسلام، وأما الأدلة المتلوّة السمعية: فهو هذا الكتاب المبين، القرآن الحكيم، الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على خاتم النبيين.

 والإسلام يتوصل إلى صحته عن الطريقين جميعاً، عن طريق النظر في الأدلة الخلقية، ولذلك أمر الله بالنظر إليها، وعن طريق النظر بالأدلة السمعية الأدلة المتلوة الدالة على صحة هذا الدين القويم، وأنه من لدن حكيم خبير، فقوله: ( بالأدلة )يشمل هذين النوعين، ثم بين المؤلف رحمه الله الدين بقوله: ( وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة) – وعندي -(والخلوص من الشرك )

وهذه الأمور الثلاثة بها يستقيم إسلام الإنسان، والمراد به: الاستسلام لله بالتوحيد، هذا هو الأصل الذي اتفقت عليه الرسل، ولتأكيد هذا قال: والخلوص من الشرك، فإنه لا يحصل تمام الاستسلام لله بالتوحيد إلا بالبراءة من الشرك، قال الله سبحانه وتعالى: ] فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [([4])فجعل الاستمساك بالعروة الوثقى مرتبةً على أمرين: على الكفر بالطاغوت، وعلى الإيمان بالله تعالى، فلا يحصل لأحد الاستمساك بالعروة الوثقى و الإقرار على الإسلام إلا بهذين الأمرين، وهما اللذان عرّف بهما الشيخ رحمه الله الإسلام بقوله: ( وهو الاستسلام لله بالتوحيد والخلوص من الشرك )، أما الانقياد له بالطاعة فلا إشكال أنه من الإسلام، وأنه لا يكون المرء مسلماً إلا بانقياده لله جل وعلا بالطاعة فيما أمر وبالطاعة في اجتناب ما نهى عنه وزجر، وهو من لوازم الاستسلام لله تعالى، وإنما أفرده بذكر مستقل لأنه أراد أن يحصل في هذا التعريف الإحاطة بالإسلام الظاهري والباطني، يعني بإسلام القلب والجوارح، وإلا لو قال: الإسلام هو الاستسلام لله وحده لكفى في بيان ماهية الإسلام، ولذلك عرّف شيخ الإسلام ابن تيمية الإسلام بقوله: " الإسلام وهو الاستسلام لله وحده"، وأصله في القلب بالخضوع، والمحبة، والخوف، والرجاء، وإفراده سبحانه وتعالى بالعبادة، وبالجوارح، يعني في باب العمل بالانقياد له سبحانه وتعالى، فلا يقر الإسلام في قلب أحد إلا بهذين.

ثم بعد أن ذكر البيان المجمل لهذا الدين أراد ذكره على وجه التفصيل، فقال رحمه الله: (وهو ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان)وبه نعرف أن التعريف السابق يشمل جميع هذه المراتب، فالإسلام الذي تقدم تعريفه هو الدين الذي جاء به النبي r، المتضمن لجميع ما أمر به ونهى عنه ودعا إليه، وهذا الذي أمر به أو نهى عنه أو دعا إليه يندرج تحت ثلاثة أمور، هي المراتب التي أشار إليها بقوله: ( وهو ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان)هذه هي مراتب الدين، والدليل على هذه المراتب الثلاث وأنها تشمل الدين ويندرج تحتها جميع ما جاء به الرسول rحديث جبريل: فإنه أتى النبي rوسأله عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان، فأجابه النبي rعن ذلك كله، ثم قال النبي rفي آخر الحديث: (( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم )) وفي رواية ((أمر دينكم ))([5])فجعل ما تقدم ذكره من بيان الإسلام والإيمان والإحسان تعليماً لأمر الدين، ولذلك كان هذا الحديث الأصل الذي يجب على كل أحد، فمن أنكر شيئاً مما تضمنه هذا الحديث في الإسلام والإيمان والإحسان فإنه لم يقر بالنبي r، ولم تثبت قدمه في دين الإسلام، وهذه المراتب الثلاث يدخل بعضها في بعض، فالإسلام أوسعها دائرة، فهو ينتظم الإيمان والإحسان، وأخص منه الإيمان، وأخص منه الإحسان، وسيأتي تفصيلها في كلام المؤلف رحمه الله. ودليل هذه المراتب من كتاب الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى: ] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ[([6])فهذه المراتب الثلاث تقابل المراتب المذكورة في كلام الشيخ رحمه الله، وهي المضمنة في حديث جبريل، واعلم: أن هذه الأسماء الثلاثةإذا افـترقت دل كل واحد منها على مضمون الآخر، وإذا اجتمعت كما هو الحال في حديث جبريل اختص كل اسمٍ بمعنى مستقل، والجامع لهذه المعاني: أن الإسلام يتعلق بالعمل الظاهر, والإيمان يتعلق بعمل القلب، والإحسان هو الغاية في عمل القلب وعمل الظاهر، يعني: الإحسان هو المنـتهى في أعمال القلوب والجوارح، فمن حقق الإحسان يكون حقق الإحسان والإيمان والإسلام، ومن حقق الإيمان فإنه قد حقق مع الإيمان الإسلام فقط، دون الإحسان، لأن الإحسان مرتبة فوقهما، ومن أتى بالإسلام لا يكون قد حصل مرتبة الإيمان ولا الإحسان من باب أولى.

والدليل على ذلك قوله تعالى: ] قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [([7]) فدل ذلك على أن المتصف بالإسلام قد لا يتحقق به وصف الإيمان.

 

نبدأ في بيان ما ذكره المؤلف رحمه الله في كل مرتبة، قال: ( وكل مرتبةٍ لها أركان، فأركان الإسلام خمسة)، دليل ذلك حديث جبريل الذي فيه أن النبي rسئل عن الإسلام فأجاب بقوله: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت " فذكر الأركان الخمسة، ويدل عليه أيضاً: حديث ابن عمر: " بني الإسلام على خمس. . . " الخ، هذا هو الدليل لهذه الأركان، قال المؤلف رحمه الله: ( فأركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام) ثم انتقل من الإجمال إلى التفصيل في دليل كل ركن من هذه الأركان، فقال رحمه الله: ( فدليل الشهادة قوله تعالى ] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ ([8])، مراده الشهادة لله تعالى وحده بالألوهية، واستدل على وجوب الشهادة لله تعالى وحده بقوله تعالى: ] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ ووجه الدلالة على وجوب الشهادة لله تعالى: أن الله سبحانه وتعالى شهد لنفسه على انفراده بالألوهية، وشهادة الله سبحانه وتعالى تتضمن الحكم والقضاء والإلزام، ولذلك فسّر جماعة من السلف قوله تعالى: ] شَهِدَ اللَّهُ[  بقضى الله، وهذا لا غرابة فيه، فإن شهادة الله قضاء، وحكم، وفصل، وإلزام، ودليل ذلك قوله تعالى: ] وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[([9])فالشهادة قضاء كما أن الشهادة إعلان وإخبار وإظهار وبيان، وهي لا تكون إلاّ عن علم، فكذلك هي في حق الله تعالى تكون حكماً وقضاءً ] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ[ وهذه شهادته سبحانه وتعالى لنفسه بالإلهية، وأنه لا إله غيره، وأشهد على هذا الأمر طائفتين من الخلق، هما أشرف الخلق فيما نعلم، الملائكة - وهم عالم غيبي، خلقوا من نور، وهم من أشرف خلق الله عز وجل – وأولو العلم، والمقصود بأولي العلم : النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون،كل هؤلاء يدخلون في قوله تعالى: ] وَأُولُو الْعِلْمِ [ ووصفهم بالعلم لأن هذه الشهادة لا تكون إلاّ من عالم، ثم قال سبحانه وتعالى: ] قَائِماً بِالْقِسْطِ [ هذه من حيث الإعراب حال من الضمير في قوله: ] إِلَّا هُوَ [ فيكون قد شهد الله سبحانه وتعالى لنفسه في هذه الآية بأمرين: شهد لنفسه بالألوهية، وشهد لنفسه بأنه سبحانه وتعالى قائمٌ بالقسط، وقيامه بالقسط أي بالعدل، فهو سبحانه وتعالى القائم على كل نفس بما كسبت، القائم بنفسه المقيم لغيره جل وعلا، وهذا الإعراب أحسن من قولنا في قوله: ] قَائِماً بِالْقِسْطِ [: إنه حال من لفظ الجلالة ( الله ) لأن هذا الإعراب الذي قدمناه أشمل في المعنى، فيكون شهد الله وشهد الملائكة وشهد أولو العلم بأمرين: شهدوا لله بأمرين:

بالألوهية، وأنه سبحانه وتعالى قائمٌ بالقسط، ثم كرر إفراده بالألوهية بقوله: ] لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ[  والتكرار لتأكيد الشهادة المتقدمة، وليتلفظ بها القارئ انفراداً، فيكون من الشاهدين، لأن مقدم الآية خبر عن شهادة الغير ولذلك قال سبحانه وتعالى : ] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ [  وهل قراءة هذه الشهادة تحصل بها الشهادة من القارئ ؟ الجواب أنها لا تحصل، ولذلك كررت كلمة التوحيد ليتلفظ بها القارئ حتى يدخل في زمرة أولي العلم، فقال: ] لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ سبحانه وتعالى  هو عزيز فيمتنع من أن يكون له شريك، وحكيم: فلا يمكن أن يسوى غيره به في شيء مما يختص به.

 

ثم قال رحمه الله: ( ومعناها ) أي معنى هذه الشهادة، وهي شهادة أن لا إله إلاّ الله، ( لا معبود بحقٍ إلاّ الله وحده )، وأتى بـ ( معبود ) من الشهادة التي يفسرها في قوله تعالى: ]لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ ففسّر كلمة ( إله ) ( بمعبود ) وهذا تفسير مطابق، فالإله في كلام العرب هو المعبود، فالإله مأخوذ من: أله بمعنى (مألوه ) وهو الذي تألهه القلوب محبةً وتعظيماً، وخضوعاً وذلاً، وخوفاً ورجاءً، والأصل في تعريف الإله في كلام العرب: أنه اسم لمن قُصِدَ بشيءٍ من العبادة، وهذا أصح ما قيل في معنى كلمة ( إله ) أما في هذا السياق فالمراد به: لا معبود حقٌ إلاّ الله. من أين أتى المؤلف رحمه الله بكلمة ( حق ) هل هي موجودة في الشهادة ؟ ليست موجودةً في لفظ الشهادة، ولا أحد يقول لا إله حق لفظاً، ولكنّ هذه الجملة لابد فيها من خبر ( لا إله إلاّ الله ) وإعرابها ( لا ) نافية للجنس، و( إله ) اسمها، مبني على الفتح، ( إلا الله ) إلا أداة استثناء للفظ الجلالة، وليس الاستثناء خبرها ، لأنه لا يصلح أن يكون خبراً لها لا لفظاً ولا معنى، أما كونه لا يصلح لفظاً فلأن ( لا ) لا تعمل إلا في النكرات.

كما قال ابن مالكٍ رحمه الله تعالى:

عمل إن اجعل ل(لا) في النكرة                مفردة جاءتك أو مكررة

فهي تعمل فقط في النكرات، ولفظ الجلالة ( الله ) فهو معرفة بل لفظ الجلالة أعرف المعارف على الإطلاق، فلا يمكن أن تعمل فيه ( لا ) من حيث اللفظ واللغة.

 وأما من حيث المعنى فكذلك، لأن جَعْلنَا لفظ الجلالة خبراً يقتضي إقراراً لمعبوداتٍ من دون الله، لأن المعنى يكون: لا معبود إلا الله، وهذا ليس بصحيح، فهناك معبودات كثيرة غير الله عز وجل، ولهذا احتاج العلماء إلى تقدير خبر لهذه الجملة، واختلفوا في تقدير الخبر، فمنهم من قال: ( لا اله ) أي لا معبود في الوجود، ومنهم من قال: ( لا إله حق ) وهذا التقدير هو الأصوب، لأن تقدير في الوجود يلزم عليه أن يكون كل من قصد بعبادة حقاً، وهذا ليس بصحيح، إنما الذي يراد من هذه العبارة ومن هذه الجملة: هو إثبات أن الله هو الإله الحق، ولذلك قال سبحانه وتعالى: ] فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ[ ([10])وهذا التقدير أصوب ما قيل في التقدير، وقد سبق ذكر الدليل على ذلك، فيكون المعنى: لا معبود حق إلاّ الله تعالى، يعني لا إله يقصد بشيء من العبادة وهو مستحق لها وأهل لتلك العبادة إلا الله، فإنه هو المستحق للعبادة دون غيره ]ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ[([11]).

 

قال المؤلف رحمه الله: ( لا إله نافياً جميع ما يعبد من دون الله إلا الله، مثبتاً العبادة لله وحده ) وهذا يفيدنا أيها الإخوة أن التوحيد لا يحصل ولا يتم إلا بركنين: إثبات، ونفي، فالنفي هو : أنّ (لا إله) نفي لجميع ما يعبد من دون الله تعالى (إلا الله) وحده لا شريك له، وتأمل فيما ذكره الله عز وجل في كتابه من آيات التوحيد، تجد أنها سائرة على هذا النسق، فلا بد من ذكر نفي وإثبات، لأن بذلك يحصل كمال التوحيد.

 قال المؤلف رحمه الله: ( لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه )

وهذا كالدليل لما تقدم ذكره من تقدير في قوله: لا معبود حق إلا الله، فالشيخ رحمه الله يقول: وجه هذا التقدير أنه لا يستحق العبادة إلاّ الله، كما أنه ليس له شريك في ملكه، وهذا استدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية.

قال المؤلف رحمه الله: وتفسيرها الذي يوضحها ]وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ`إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ`وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[([12])، فقوله: ( وتفسيرها ) الضمير يعود إلى شهادة أن لا إله إلا الله، (الذي يوضحها) ويبينها ويجليها قوله تعالى:]وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ`إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ[، ]إِذْ[  ظرف لما مضى من الزمان، ولابد له من متعلق، ومتعلقه في مثل هذا السياق ( اذكر ) يعني اذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: ]إِنَّنِي بَرَاءٌ[ براء مصدر يستوي فيه المفرد والجمع، والمراد من ذلك: إنني بريء، فهو تبرؤٌ من عبادة قومه للأصنام، وهو معنى قوله تعالى: ] وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ[([13])فالبراءة اجتناب لما كان عليه قومه، ولذلك قال: ] مِمَّا تَعْبُدُونَ [ يعني من الذي تعبدونه، فما موصولة بمعنى الذي، فتبرأ مما يعبدون ثم قال: ] إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [ وهذا استثناء، إما أن يكون استثناء متصلاً، أو استثناء منقطعاً، على قولين لأهل العلم، فالاستثناء المتصل يلزم عليه أن يكون قومه يعبدون الله وغيره، يعبدون الأصنام ويعبدون الله مع الأصنام، فهذا هو المعنى بناءً على جعل الاستثناء متصلاً، أما المعنى على كون الاستثناء منقطعاً فإن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا لا يعبدون إلاّ الأصنام فقط، ولا يعبدون الله مع الأصنام، ويكون تقدير الكلام: إنني براء مما تعبدون، لكن الذي فطرني فهو الذي أعبده وأفرده بالعبادة وحده.

ثم قال: ومعنى الذي فطرني أي: الذي خلقني، فإنه سيهدين، وهذا فيه التعليل لإفراده بالعبادة، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يملك الهداية، وأن هذه البراءة من هداية الله له، وأن كل من خالف هذه البراءة لفظاً أو معنىً فإنه بعيد عن هداية الله سبحانه وتعالى، فكما قال جل وعلا في نبأ إبراهيم: ]وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[([14]]جَعَلَهَا[ الضمير هنا يعود إلى الكلمة وهي البراءة من الشرك المتمثل بعبادة قومه للأصنام، وهي الشهادة والكلمة الباقية في عقبه، ] فِي عَقِبِهِ[ يعني في ذريته وخلَفِهِ في أولاده وأولاد أولاده، وذلك بما تعاهد به إبراهيم أبناءه من الوصية كما ذكر الله عز وجل في سورة البقرة من وصيته لأولاده بأن يلزموا هذا الدين، ]لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[ أي لعلهم يرجعون إلى هذه الكلمة ويلتزمونها، وجه الدلالة: أن شهادة أن لا إله إلا الله تستلزم البراءة من كل ما يعبد من دون الله، وأنه لا يستقيم التوحيد إلاّ بإفراد الله عز وجل بالعبادة والخلوص من الشرك والبراءة من أهله، وهو معنى قوله تعالى: ]فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى[([15]) فجعل الاستمساك بالعروة الوثقى مرتباً على هذين الأمرين، وانظر إلى حسن تأليف المؤلف رحمه الله وقوة تصنيفه حيث لم يفسر هذه الكلمة أو لم يوضحها ويشرحها بكلام من عنده، وإنما وضحها بكلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبهذا يلقم خصومه حجراً، لأنه لا يمكن لأحد أن يعارض كلام الله عز وجل إلا من كان في قلبه زيغ.

ثم قال رحمه الله في بيان هذه الشهادة ومعناها:  وقوله تعالى:] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [([16])، قوله: ] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ[ وهم اليهود والنصارى ] تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [  سواء أي مستوٍ أمرها بيننا وبينكم، وقيل: كلمة سواء أي كلمة عدل، وهذه الكلمة : هي ]أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً[ هذه هي الكلمة العدل، وهي الكلمة التي استوى فيها أهل الإسلام مع أهل الكتاب، لأن دعوة المرسلين على اختلافهم واختلاف أزمانهم وأماكنهم وأقوامهم واحدة، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله ]وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ[ هذا تأكيد لإفراد الله عز وجل بالعبادة، ومن لوازم العبادة ألاّ يتخذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، ] أَرْبَاباً[ جمع رب، والرب هو الذي يملك ويرزق ويدبر ويخلق، والمقصود من اتخاذهم أرباباً هنا كما بينته السنة: اتباعهم في تحريم الحلال أو تحليل الحرام، فمن اتبع أحداً وأطاعه في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فإنه قد اتخذه ربّاً من دون الله.

قال: ]فَإِنْ تَوَلَّوْا[ أي لم يقبلوا هذه الدعوة ولم يستجيبوا إلى ما دعوتموهم إليه من الاجتماع على كلمة سواء - وهي إفراد الله بالعبادة - فموقف أهل الإسلام هو ما أجابنا به آمراً لنا بقوله تعالى : ]فَإِنْ تَوَلَّوْافَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ[ وهذا فيه أنه يجب على المؤمن الثبات على هذه الكلمة ولو خالفه من خالفه، وأنه لا يجوز له أن يتنازل عنها أو أن يعرض عنها أو أن يتخلى عنها بسبب كثرة المعرضين المتولين عنها، فإن تولوا فاثبتوا أنتم على أمركم، بل وأعلنوا ثباتكم بالتصريح في قوله: ] فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ[ وهذه الآية بينت الشهادة التي لا يستقيم لها ساق ولا يثبت لها عود ولا تقرّ في قلب إلا بهذين الركنين العظيمين، وهما إثبات العبادة لله عز وجل، ونفيها عن غيره كائناً من كان.

ثم انتقل المؤلف رحمه الله إلى ذكر الدليل الثاني أو دليل الشهادة الثانية فقال:

ودليل شهادة أن محمداً رسول الله قوله تعالى: ] لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ[ ([17])، ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.

هذا هو الركن الثاني من أركان شهادة أن لا إله إلاّ الله، أو هذه أركان الشهادة التي يدخل بها الإنسان إلى الإسلام، الشهادة للنبي محمد rبالرسالة، وسيأتي تفصيل ذلك أو تفصيل من هو النبي في الأصل الثالث من الأصول التي ذكرها المؤلف رحمه الله، ودليل شهادة أن محمداً رسول الله: قوله تعالى ] لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [،فقوله: ]مِنْ أَنْفُسِكُمْ [ أي: من جنسكم، وقيل: إن الخطاب لقريش، فيكون معناها يعني من العرب، ] عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [ وعزيز إذا عدّيت بعلى كان معناها: الثقل والشدة، أي يثقل عليه و يشق عليه ويشتد عليه، ] مَا عَنِتُّمْ [ يعني الذي يتعبكم ويلحقكم مشقة، فهذا وصفه r، عزيز عليه مشقة أمته وتعبهم ]حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ[ والحرص هو: شدة الرغبة في الشيء، وذلك أن النبي rكان حريصاً غاية الحرص على هداية قومه، ودلالتهم على الحق والهدى، حتى إنه أدمي وجهه، وكسرت رباعيته، وشجّ رأسه، وكان يقول: (( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ))([18])وهذا من غاية حرصه وشفقته على الناس r، ]بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [ وهذا خاص بأهل الإيمان تميزوا به عن غيرهم، فهو rبالمؤمنين رؤوف رحيم، والرأفة هي رقة تنشأ عن الخوف على المرؤوف به، والرحمة تقتضي الإحسان بالمرحوم، فالرأفة تقتضي دفع المكروهات، والرحمة تقتضي جلب المحمودات والمحاسن والمحبوبات، والشاهد من هذه الآية قوله تعالى: ] لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [ والذي جاءنا من أنفسنا : هو محمد rالذي أخبرنا بهذه الآية، فهذا دليل من القرآن على رسالة النبي r، ومن ذلك قوله تعالى: ] إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [([19])فأثبت علمه سبحانه وتعالى برسالة الرسول r، بل لما طولب النبي rبدليل على رسالته قال: ] قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [([20])فاكتفى بشهادة الله عز وجل على إثبات رسالته كما تقدم بيان ذلك في ما تقدم من دروس.

 

 

 


([1])  آل عمران:18.

([2]) الزخرف: 26-28.

([3]) آل عمران:64.

([4]) البقرة: 256.

([5]) أخرجه مسلم في الإيمان، برقم: 9، والنسائي في الإيمان وشرائعه، برقم: 4904.

([6]) فاطر: 32.

([7]) الحجرات: 14.

([8]) آل عمران: 18.

([9]) الإسراء: 23.

([10]) يونس: 32.

([11]) الحج: 62.

([12]) الزخرف: 26-28.

([13]) إبراهيم: 35.

([14]) الزخرف: 28.

([15]) البقرة: 256.

([16]) آل عمران:64.

([17])التوبة:128.

([18]) أخرجه البخاري، أحاديث الأنبياء، برقم: 3218، وأحمد في سند المكثرين، برقم 4103.

([19]) سورة المنافقون: 1.

([20]) الإسراء: 96.

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : أهمية الدعاء ( عدد المشاهدات86260 )
3. خطبة: التقوى ( عدد المشاهدات80696 )
4. خطبة: حسن الخلق ( عدد المشاهدات74966 )
6. خطبة: بمناسبة تأخر نزول المطر ( عدد المشاهدات62206 )
7. خطبة: آفات اللسان - الغيبة ( عدد المشاهدات56499 )
9. خطبة: صلاح القلوب ( عدد المشاهدات53477 )
12. خطبة:بر الوالدين ( عدد المشاهدات51186 )
13. فما ظنكم برب العالمين ( عدد المشاهدات50935 )
14. خطبة: حق الجار ( عدد المشاهدات46186 )
15. خطبة : الإسراف والتبذير ( عدد المشاهدات45730 )

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف