المطلبُ الأولُ: حكمُ تحديدِ جنسِ الجنينِ:
المقصودُ بتحديدِ جنسِ الجنينِ هو ما يقومُ بهِ الإنسانُ مِنَ الأعمالِ والإجراءاتِ التي يهدفُ مِن خلالِها اختيارُ ذكورةِ الجنينِ أو أنوثتِهِ.
وبهذا التعريفُ لعمليةِ تحديدِ جنسِ الجنينِ يتبينُ أنها ليستْ قضيةً حادثةً، بل هي مسألةٌ تَضربُ بجذورِها في القِدمِ. وقد أشغلتِ الناسَ منذُ سالفِ الزمنِ فطلبوا لإدراكِها السُّبُلَ. ففي سنةِ خمسمائةٍ قبلَ الميلادِ توصلَتْ مدارسُ الطبِّ الهنديةُ إلى أنهُ يمكنُ التأثيرُ على جنسِ الجنينِ في بعضِ الحالاتِ بفعلِ الطعامِ أوِ العقاقيرِ كما ذكرَ بعضُ المؤرخينَ قصة الحضارة 2/447.. كما ذكروا أيضًا أنَّ علماءَ الطبيعةِ كأرسطو قد تناولوا قضيةَ تحديدِ جنسِ الجنينِ بالمناقشةِ في القرنِ الثاني الميلاديِّ، حيثُ ناقشَ أرسطو النظريةَ التي تقولُ: إنَّ جنسَ الجنينِ تُعَيِّنُهُ حرارةُ الرحمِ أو تغلُّبُ أحدِ عُنصُرَيِ التكاثرِ على العنصرِ الآخرِ. وقدَّمَ نظريةً أخرى في تفسيرِ ذلكَ قصة الحضارة 8/295، كيف تختار جنس مولودك للدكتور لاندروم والدكتور دافيد ص57-73..
ومِن هذا يتبينُ أنَّ الجديدَ في قضيةِ تحديدِ جنسِ الجنينِ إنما هو فيما طرأَ مِن تقدُّمٍ في الوسائلِ والطرقِ التي مِن خلالِها يمكنُ تحديدُ جنسِ الجنينِ سواءٌ أكانَ ذكرًا أم أنثى.
وقبلَ النظرِ في الوسائلِ والطرقِ التي تُستعمَلُ في تحديدِ جنسِ الجنينِ وأحكامِها نحتاجُ إلى بيانِ الأصلِ في تحديدِ جنسِ الجنينِ.
ويمكنُ القولُ: إنَّ لأهلِ العلمِ في تحديدِ جنسِ الجنينِ قولينِ في الجملةِ وقد ذكرَ بعضُ الباحثينَ قولًا ثالثًا في المسألةِ، وهوَ التوقفُ، ولم أذكرْهُ في الأقوالِ؛ لكونِهِ لا يتضمنُ إضافةً؛ بل غايتُهُ عدمُ اتضاحِ الحكمِ للمتوقفِ لسببٍ مِنَ الأسبابِ. وقد نُسبَ التوقفُ في هذهِ المسألةِ للدكتورِ توفيق الواعي، والدكتورِ عمرَ الأشقر. ينظرُ: المسائل الطبية المستجدة 1/232.:
القولُ الأولُ: أنَّ الأصلَ في العملِ على تحديدِ جنسِ الجنينِ الجوازُ. وأنه لا مانعَ منهُ شرعًا ينظر: المسائل الطبية المستجدة 1/228، اختيار جنس الجنين دراسة فقهية طبية ص 68-72، ثبت أعمال الندوة الأولى للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية سنة 1983م، ص 37-44، 94، 349. www.emro.who.int/ahsn/Presentations/Day3/DrHelali.ppt. ومِن أبرزِ الفقهاءِ القائلينَ بهذا شيخُنا عبدُ اللهِ البسَّامُ، والشيخُ مصطفى الزرقا، والدكتورُ يوسفُ القرضاويُّ، والشيخُ عبدُ اللهِ بنُ بيِّةَ، والشيخُ نصرٌ فريدٌ ينظر: اختيار جنس الجنين دراسة فقهية طبية ص 69-72، المسائل الطبية المستجدة 1/228، ثبت أعمال الندوة الأولى للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويب سنة 1983م، ص (37-44، 94، 349).www.emro.who.int/ahsn/Presentations/Day3/DrHelali.ppt ، والدكتورُ عليٌّ جمعةُ البيان لما يشغل الأذهان ص 763. ، وغيرُهُم جريدة الغد الأردنية، اختيار جنس المولود: الإمكان الطبي والحكم الشرع، عماد الراعوش. http://alghad.dot.jo/index.php?news=172897.
وقد قالَ بهذا مجلسُ الإفتاءِ بالأردنِhttp://www.hewaraat.com/forum/archive/index.php/t-1632.html ، ولجنةُ الفتوى بوزارةِ الأوقافِ الكويتيةِ اختيار جنس الجنين دراسة فقهية طبية ص 72..
القولُ الثاني: أنَّ العملَ على تحديدِ جنسِ الجنينِ لا يجوزُ. ومِن أبرزِ مَن قالَ بذلكَ الدكتورُ محمدٌ النتشةُ المسائل الطبية المستجدة 1/232،234. ، والدكتورُ عبدُ الناصرِ أبو البصلِ، والشيخُ فيصلٌ مولويُّ اختيار جنس الجنين دراسة فقهية طبية ص 72-73..
وهو ما يُفهَمُ مِن فتوى اللجنةِ الدائمةِ للإفتاءِ بالسعوديةِ. حيثُ جاءَ في فتوى للَّجنةِ ((شأنُ الأجنةِ مِن حيثُ إيجادُهم في الأرحامِ وذكوريتُهم وأنوثتُهُم هو مِن علمِ الغيبِ الذي لا يعلمُهُ إلا اللهُ سبحانَهُ وتعالى)) اختيار جنس الجنين دراسة فقهية طبية ص 74..
أدلةُ القولِ الأولِ
يمكنُ أنْ يستدلَّ للقولِ بأنَّ الأصلَ جوازُ تحديدِ جنسِ الجنينِ بعدةِ أدلةٍ منها:
الدليلُ الأولُ: أنَّ الأصلَ في الأشياءِ الإباحةُ والحلُّ حتى يقومَ دليلُ المنعِ والحظرِ؛ في قول جمهورِ أهلِ العلمِ ينظر: الفصول في الأصول للجصاص 3/252، نشر البنود شرح مراقي السعود ص 20، المحصول في علم الأصول 6/97، شرح الكوكب المنير 1/325. بل قال ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم 2/166: ((وقد حكى بعضُهم الإجماعَ عليه)). ؛ وليسَ لدى مَن قالَ بمنعِ العملِ على تحديدِ جنسِ الجنينِ دليلٌ يَستَنِدُ إليهِ. فيبقَى الأصلُ محفوظًا مستصحبًا.
الدليلُ الثاني: أنَّ طلبَ جنسٍ معينٍ في الولدِ لا محظورَ فيهِ شرعًا. فاللهُ تعالى قد أقرَّ بعضَ أنبيائِهِ الذين سألوهُ في دعائِهِم أنْ يهبَ لهم ذكورًا مِنَ الولدِ. فهذا نبيُّ اللهِ إبراهيمُ عليه السلام سألَ اللهَ تعالى أنْ يرزقَه ولدًا ذكرًا صالحًا ينظر: التفسير الكبير للرازي 13/137. ، فأجابَهُ اللهُ تعالى. قالَ تعالى فيما قصَّه عن إبراهيمَ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ الصافات:100-101.. وكذلكَ نبيُّ اللهِ زكريَّا عليه السلام دعا ربَّهُ أنْ يهبَهُ غلامًا زكيًّا، فقالَ اللهُ تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ آل عمران:38.. ولو كانَ هذا الدعاءُ سؤالًا لمحرَّمٍ لكانَ محرَّمًا ولمنعَهُ اللهُ تعالى ولَمَا أقرَّهُ؛ فإنَّ الدعاءَ بالمحرَّمِ محرَّمٌ تهذيب الفروق 4/294.. فلما جازَ الدعاءُ بطلبِ جنسٍ معينٍ في الولدِ، وهو سببٌ مِنَ الأسبابِ الآداب الشرعية 2/274. التي تُدرَكُ بها المطالبُ -دلَّ ذلكَ على أنَّ الأصلَ جوازُ العملِ على تحديدِ جنسِ الجنينِ بالأسبابِ المباحةِ؛ لأنَّ ما جازَ سؤالُهُ وطلبُهُ جازَ بذلُ السببِ لتحصيلِهِ.
الدليلُ الثالثُ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّنَ السببَ الطبيعيَّ الذي يُوجِبُ الإذكارَ أوِ الإيناثَ بإذنِ اللهِ ينظر: شرح مشكل الآثار 7/89، فتح الباري 11/270 .. ففي صحيحِ الإمامِ مسلمٍ مِن حديثِ ثوبانَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أجابَ اليهوديَّ الذي سألَهُ عنِ الولدِ. فقالَ صلى الله عليه وسلم: «مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا، فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ المرأةِ أذْكرَا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ اللهِ» كتب الحيض، باب صفة مني الرجل ومني المرأة، رقم (315).. وهذا يفيدُ أنَّ الإذكارَ والإيناثَ في الجنينِ أمرٌ يَستنَدُ إلى سببٍ طبيعيٍّ معلومٍ. وليسَ في الحديثِ ما يُشعرُ بأنَّهُ ممَّا استأثرَ اللهُ بهِ. بل هو كسائرِ الأسبابِ الطبيعيةِ التي متى قدَرَ الخلقُ على إيجادِهَا فقد أدركُوا المقدمةَ التي يمكنُ أنْ يصلوا بها إلى النتيجةِ.
وقد نُوقِشَ هذا الدليلُ مِن جهتينِ:
الأولى: عدمُ صحةِ لفظِ حديثِ ثوبانَ؛ قالَ ابنُ القيمِ عن شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ: ((وسمعتُ شيخَنا رحمَهُ اللهُ يقولُ في صحةِ هذا اللفظِ نظرٌ. قلتُ: لأنَّ المعروفَ المحفوظَ في ذلكَ إنما هو تأثيرُ سبقِ الماءِ في الشَّبَهِ)) الطرق الحكمية ص: (185). وقال في إعلام الموقعين (4/207): ((فكانَ شيخُنا يتوقفُ في كونِ هذا اللفظِ محفوظًا)).. وقالَ: ((هذا الحديثُ تفرَّدَ بهِ مسلمٌ في صحيحِهِ. وقد تكلمَ فيهِ بعضُهم. وقالَ: الظاهرُ أنَّ الحديثَ وَهِمَ فيهِ بعضُ الرواةِ، وإنما كانَ السؤالُ عنِ الشبهِ، وهو الذي سألَهُ عنهُ عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ في الحديثِ المتفقِ على صحتِهِ. فأجابَهُ بسبقِ الماءِ يشيرُ إلى ما رواهُ البخاريُّ (3329) مِن حديثِ أنسٍ رضي الله عنه قالَ: بلغَ عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ مَقدمَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ فأتاهُ فقالَ إني سائلُكَ عن ثلاثٍ لا يعلمُهُنَّ إلا نبيٌّ. وكانَ منها أنهُ قالَ: مِن أيِّ شيءٍ ينزعُ الولدُ إلى أبيهِ؟ ومِن أيِّ شيءٍ ينزعُ إلى أخوالِهِ؟ فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَأَمَّا الشَّبَهُ فِي الْوَلَدِ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَشِيَ الْمَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ، وَإِذَا سَبَقَ مَاؤُهَا كَانَ الشَّبَهُ لَهَا». ، فإنَّ الشبهَ يكونُ للسابقِ، فلعلَّ بعضَ الرواةِ انقلبَ عليهِ شبهُ الولدِ بالمرأةِ بكونِهِ أنثى، وشبهُهُ بالوالدِ بكونِهِ ذكرًا)) التبيان في أقسام القرآن 2/163-164..
وأُجيبَ على هذا بأنَّ ((الحديثَ صحيحٌ لا مطعنَ في سندِهِ، ولا منافاةَ بينَهُ وبينَ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ سلامٍ. وليستِ الواقعةُ واحدةً، بل هما قضيتانِ. وروايةُ كلٍّ منهما غيرُ روايةِ الأُخرى)) التبيان في أقسام القرآن 2/165..
الثانيةُ: أنَّ الإذكارَ والإيناثَ ليسَ لهُ سببٌ طبيعيٌّ، بل هو مُستنِدٌ إلى مشيئةِ الخالقِ سبحانَهُ؛ فقد ردَّ اللهُ تعالى ذلكَ إلى محضِ مشيئتِهِ الطرق الحكمية ص 185. ، فقالَ: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ الشورى: 49-50.. ويشهدُ لهذا ما في الصحيحينِ من حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه في مراحلِ خلقِ الإنسانِ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في بيانِ ما يقولُهُ الملَكُ عندَ الخلقِ: «قَالَ: يَا رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ» رواه مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي، رقم (2645). وأصله في البخاري رقم (3208) دون هذه اللفظة. وقد أخرجه البخاري (318) مِن طريقِ أنسٍ رضي الله عنه عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ: يَا رَبِّ نُطْفَةٌ، يَا رَبِّ عَلَقَةٌ، يَا رَبِّ مُضْغَةٌ. فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهُ قالَ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ وَالْأَجَلُ؟ فيُكْتَبُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ».. قالَ ابنُ القيمِ: ((فكونُ الولدِ ذكرًا أو أنثى مُستندٌ إلى تقديرِ الخلَّاقِ العليمِ كالشقاوةِ والسعادةِ والرزقِ والأجلِ)) تحفة المودود ص 166.. ووجهُ ذلكَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ((أحالَ بالإذكارِ والإيناثِ على مجردِ المشيئةِ، وقرنَهُ بما لا تأثيرَ للطبيعةِ فيهِ مِنَ الشقاوةِ والسعادةِ والرزقِ والأجلِ. ولم يتعرضْ الْمَلَكُ لكتابةِ الذي للطبيعةِ فيهِ مدخلٌ)) مفتاح دار السعادة 1/259.. ((فإذا كانَ للطبيعةِ تأثيرٌ في الإذكارِ والإيناثِ، فلها تأثيرٌ في الرزقِ والأجلِ، والشقاوةِ والسعادةِ، وإلا فلا؛ إذ مخرجُ الجميعِ ما يوحيهِ اللهُ إلى الْمَلَكِ)) مفتاح دار السعادة 1/258..
وأجيبَ على ذلكَ بما يأتي:
الأولُ: أنَّ ((استنادَ الإذكارِ والإيناثِ إلى مشيئتِهِ سبحانَهُ لا ينافي حصولَ السببِ، وكونُهما بسببِ لا ينافي استنادُهما إلى المشيئةِ)) تحفة المودود ص 167. وينظر: الطرق الحكمية ص 186.. فالأسبابُ التي قضى اللهُ تعالى أنْ تكونَ سببًا لمسبباتِها لا تخرجُ عن تدبيرِهِ ومشيئتِهِ، فالأسبابُ ((طوعُ المشيئةِ والإرادةِ ومحلُّ جريانِ حكمِها عليها. فيقوِّي سبحانَهُ بعضُها ببعضٍ، ويبطلُ إنْ شاءَ بعضَها ببعضٍ، ويسلبُ بعضَها قوتَهُ وسببيتَهُ ويعرِّيها منها، ويمنعَهُ مِن موجبِها مع بقائِها عليهِ)) مدارج السالكين 1/243..
الثاني: أنَّ مَن تكلموا فيما تضمنَهُ حديثُ ثوبانَ مِن سببِ الإذكارِ والإيناثِ لا يناقشونَ في أصلِ سببيتِهِما. ولكنهم يمنعونَ قولَ الطبائعينَ الذينَ يجعلونَ للطبيعةِ تأثيرًا مستقلًّا في الإيجادِ والخلقِ. ويقولونَ: ((نحن لا ننكرُ أنَّ لذلكَ أسبابًا أُخرَ. ولكن تلكَ مِنَ الأسبابِ التي استأثرَ اللهُ بها دونَ البشرِ)) مفتاح دار السعادة 1/259.. فمناقشتُهُم في تعيينِ السببِ لا في أصلِهِ. وليسَ في النصوصِ ما يدلُّ على امتناعِ إدراكِ ذلكَ على البشرِ.
الثالثُ: أنَّ ما ذُكِرَ مِنِ اقترانِ الإذكارِ والإيناثِ بما لا تأثيرَ للأسبابِ فيهِ كالشقاوةِ والسعادةِ والرزقِ والأجلِ دليلٌ على أنهما لا يستندانِ إلا إلى مجردِ المشيئةِ - فهذا غيرُ مسلَّمٍ لوجهينِ:
1) أنَّ دلالةَ الاقترانِ على الاتفاقِ في الحكمِ والتساوي ضعيفةٌ في قولِ أكثرِ الأصوليينَ ينظر: كشف الأسرار 2/2 61، البحر المحيط 8/109، التحبير شرح التحرير 5/2457.. فاقترانُ ما لهُ سببٌ كالإذكارِ والإيناثِ بما ليسَ لهُ سببٌ كالشقاوةِ والسعادةِ لا يفيدُ الاتفاقَ والمساواةَ في عدمِ السببيةِ.
2) أنَّ السعادةَ والشقاوةَ والرزقَ والأجلَ كلَّها بأسبابٍ تحفة المودود ص 166.. وكونُ أسبابِ هذهِ الأمورِ لا تكونُ إلا بعدَ الولادةِ التبيان في أقسام القرآن 2/165. لا يلزمُ منهُ استواءُ جميعِ المذكوراتِ في وقتِ السببِ وزمنِهِ. فالسعادةُ والشقاوةُ والرزقُ والأجلُ لا تكونُ إلا بعدَ الولادةِ بخلافِ الإذكارِ والإيناثِ فإنهما يكونانِ قبلًا؛ لذلكَ تقدَّمَ زمنُ ما قدرهُ اللهُ مِن أسبابِهما.
الدليلُ الرابعُ: قياسُ السعيِ في تحديدِ جنسِ الجنينِ على معالجةِ العقمِ الذي يمكنُ معالجتُهُ. فإنهُ لا خلافَ بينَ أهلِ العلمِ في جوازِ السعيِ في معالجةِ العقمِ مع كونِها سعيًا في إيجادِ الحملِ وأخذًا لأسبابِ حصولِهِ. وليسَ فيهِ معارضةٌ لقولِ اللهِ تعالى: ﴿وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ الشورى:50.. فجوازُ أخذِ أسبابِ تحديدِ جنسِ الجنينِ مِن بابِ أَوْلَى؛ لأنهُ عمِلَ بالأسبابِ الممكنةِ لإدراكِ صفةٍ في الجنينِ، وهو أسهلُ مَن أخذِ أسبابَ الإيجادِ والتكوينِ.
الدليلُ الخامسُ: قياسُ السعيِ في تحديدِ جنسِ الجنينِ على جوازِ العزلِ. ووجهُهُ أنَّ العزلَ سببٌ يبذلُهُ الإنسانُ لمنعِ الحملِ وضبطِ حصولِهِ يشابِهُهُ في المعنى ضبطُ جنسِ الجنينِ اختيار جنس الجنين دراسة فقهية طبية ص 79..
ويحابُ عن هذا بأنَّ القياسَ إلحاقُ فرعِ بأصلٍ لعلةٍ جامعةٍ وتشابُهٍ بيِّنٍ بينهما ينظر: التحبير شرح التحرير 7/3116- 3125. ، وليسَ هذا ظاهرًا بينهما، كما أنَّ العزلَ اختَلَفَ أهلُ العلمِ في حكمِهِ بينَ مانعٍ ومبيحٍ طرح التثريب 7/60-61. ، فهو قياسٌ على مختلَفٍ فيه، ومِن شروطِ صحةِ القياسِ الاتفاقُ على حكمِ الأصلِ ينظر: كشف الأسرار 3/333، شرح الكوكب المنير 4/27..
أدلةُ القولِ الثاني:
الدليلُ الأولُ: أنَّ العملَ على تحديدِ جنسِ الجنينِ يتضمنُ منازعَةَ اللهِ تعالى في خلقِهِ ومشيئتِهِ وما اخْتَصَّ بهِ مِن علمِ ما في الأرحامِ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ آل عمران:6.. قالَ جماعةٌ مِنَ المفسرينَ منهمُ ابنُ مسعودٍ، وقتادةُ، وغيرُهُما: ذكورًا وإناثًا ينظر: الدر المنثور 2/144، جامع البيان للطبري 3/169.. وقالَ أيضًا: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ﴾ الرعد:8. ، وقالَ أيضًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ لقمان:34.. فقد ذكرَ جماعةٌ مِنَ المفسرينَ في معنى الآيةِ أنهُ لا يَعلمُ أحدٌ ما في الأرحامِ أذكرًا أو أنثى، أأحمرَ أو أسودَ ينظر: جامع البيان للطبري 21/88.. فاللهُ تعالى ((خصَّ نفسَهُ بالعلمِ بالأرحامِ في هذا الموضعِ إعلامًا لنا أنَّ أحدًا غيرَهُ لا يعلمُ ذلكَ، وأنهُ مِن علمِ الغيبِ الذي لا يعلمُهُ إلا اللهُ)) أحكام القرآن للجصاص 5/60.. ويشهدُ لذلكَ أنَّ الملَكَ إذا جاءَ لنفخِ الروحِ يقولُ: ((يا ربّ أذكرٌ أم أنثى؟ فيقضي ربُّكَ ما شاءَ، ويكتبُ الملَكُ)) رواه مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي، رقم (2645). وأصله في البخاري رقم (3208) دون هذه اللفظة..
وأُجيبَ على ذلكَ بما يأتي:
الأولُ: أنَّ أَخْذَ العبدِ بالأسبابِ التي جعلَها اللهُ تعالى وسيلةً لإدراكِ مسبَّبَاتِها سواءٌ أكانَ ذلكَ في تحديدِ جنسِ الجنينِ أم في غيرِهِ لا يتضمنُ منازعةً للهِ تعالى في خلقِهِ ومشيئتِهِ وتصويرِهِ. وذلكَ أنَّ كلَّ ما يكونُ مِنَ العبدِ لا يخرجُ عن تقديرِ اللهِ ومشيئتِهِ وخلقِهِ كما قالَ تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ الإنسان:30. ، وكما قالَ: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ الزُّمَر:62.. والإيمانُ بهذا لا يُلغِي مشيئةَ العبدِ وعملَهُ كما دلَّ على ذلكَ الكتابُ والسنةُ واتفاقُ سلفِ الأمةِ، فالنصوصُ دالَّةٌ على إثباتِ مشيئةِ العبادِ وفعلِهِم مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 8/393، 459.. وبهذا يتبينُ أنَّ العملَ على تحديدِ جنسِ الجنينِ لا يتضمنُ منازعةً للربِّ جل جلاله في مشيئتِهِ وخلقِهِ وتصويرِهِ. ويوضحُ هذا ويُجلِّيهِ أنَّ الأسبابَ لا تستقلُّ بالتأثيرِ، بل هي مفتقرةٌ لأمرِ اللهِ تعالى، فتأثيرُهُ يكونُ بتقديرِ اللهِ تعالى، فلو شاءَ لسلبَهَا قُوَاها فلم تؤثرْ شيئًا فتح الباري 10/60.. ((وليسَ شيءٌ مِنَ الأسبابِ مستقلًّا بالفعلِ، بل هو محتاجٌ إلى أسبابٍ أُخرَ تعاونُهُ، وإلى دفعِ موانعَ تعارضُهُ ولا تستقلُّ إلا مشيئةُ اللهِ تعالى، فإنهُ ما شاءَ كانَ وما لم يشأْ لم يكنْ، فما شاءَ اللهُ كانَ وإنْ لم يشأِ العبادُ، وما لم يشأْ لم يكنْ ولو شاءَ العبادُ)) درء تعارض العقل والنقل 5/ 263..
الثاني: أنَّ العملَ على تحديدِ جنسِ الجنينِ لا ينافي اختصاصَ اللهِ تعالى بعلمِ ما في الأرحامِ. ويتبينُ هذا بما يلي:ِ
1. أنَّ العملَ على تحديدِ جنسِ الجنينِ لا يعدو كونُهُ أخذًا بسببٍ مِنَ الأسبابِ لإدراكِ غايةٍ قد تحصلُ وقد لا تحصلُ، كسائرِ أسبابِ المطالبِ والمرغوباتِ. فالوطءُ الذي هو سببُ الحملِ عملٌ يقومُ بهِ الزوجانِ لتحصيلِ الولدِ قد ينتجُ عنهُ الحملُ وقد لا ينتجُ. فليسَ في ذلكَ ما ينفي اختصاصَ اللهِ تعالى بعلمِ ما في الأرحامِ.
2. أنهُ في حالِ حصولِ النتيجةِ المطلوبةِ بتحديدِ جنسِ الجنينِ، ليسَ في ذلكَ ما ينافي ما ذكرَهُ اللهُ تعالى مِنِ اختصاصِ علمِهِ بما في الأرحامِ، فإنَّ الذي اختصَّ بهِ اللهُ تعالى هو العلمُ السابقُ للوجودِ، وكذا العلمُ التامُّ بما في أرحامِ ذواتِ الأرحامِ مِن كلِّ وجهٍ، وكذا العلمُ بما يكونُ مِن حالِهِم وعملِهِم ومآلِهِم. فعلْمُ جنسِ الجنينِ لا ينافي ذلكَ ولا يعارضُهُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يُظْهِرُ عليهِ بعضَ خلقِهِ إمَّا بالإعلامِ؛ وإمَّا بالتجربةِ والخبرةِ؛ وإمَّا بغيرِ ذلكَ مِنَ الوسائلِ والأسبابِ، وهو قطرةٌ في بحرٍ. وبيانُ ذلكَ أنَّ جنسَ ما في أرحامِ إناثِ بني آدمَ يُعْلِمُ اللهُ تعالى بهِ الملَكَ الموكَّلَ بالرحمِ كما دلَّتْ على ذلك الأحاديثُ قال ابن كثير في تفسيره 3/454: ((وكذلكَ لا يعلمُ ما في الأرحامِ ممَّا يريدُ أنْ يخلقَهُ تعالى سواهُ. ولكن إذا أمرَ بكونِهِ ذكرًا أو أنثى أو شقيًّا أو سعيدًا علمَ الملائكةُ الموكلونَ بذلكَ، ومَن شاءَ اللهُ مِن خلقِهِ)).. ومِن أشهرِهَا حديثُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه في بيانِ مراحلِ خلقِ الإنسانِ، ففيهِ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يقولُ الملَكُ الموكَّلُ بالجنينِ عندَ خلقِهِ: «قَالَ: يَا رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ» رواه مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي، رقم (2645). وأصله في البخاري رقم (3208) دون هذه اللفظة.. وكذا حديثُ أنسٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ: يَا رَبِّ، نُطْفَةٌ، يَا رَبِّ، عَلَقَةٌ، يا رَبِّ، مُضْغَةٌ. فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهُ قَالَ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ وَالْأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ» أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب قول الله تعالى: ﴿مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾، رقم (318).. كما أنَّ عِلْمَ جنسِ ما في أرحامِ إناثِ بني آدمَ ثبتَ أنهُ يمكنُ أنْ يكونَ بغيرِ ذلكَ كالفراسةِ؛ والرؤيا وغيرِهِما. ومِن شواهدِ ذلكَ أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه علِمَ ما في بطنِ زوجتِهِ قبلَ وضعِهِ؛ حيثُ قالَ لعائشةَ في مرضِ موتِهِ في قصةِ هبتِهِ إياها عشرينَ وسقًا من مالِهِ بالغابةِ: ((إني كنتُ نحلتُكِ جادَّ عشرينَ وسقًا. فلو كنتِ جددتيهِ واحتزتيهِ كانَ لكِ. وإنما هو اليومَ مالُ وارثٍ. وإنما هما أخواكِ وأختاكِ فاقتسموهُ على كتابِ اللهِ. قالتْ عائشةُ: فقلتُ: يا أبتِ، إنما هي أسماءُ فمَنِ الأخرى؟ فقالَ أبو بكرٍ: ذو ذو بمعنى الذي في لغة طيء: فإما كرام موسرون لقيتهم فحسبي من ذو عندهم ما كفانيا في بطنِ بنتِ خارجةَ أُراها جاريةً)) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الأقضية، باب ما لا يجوز من النحل، رقم (1474).. قالَ القرافيُّ معلِّقًا على ذلكَ في بيانِ عدمِ معارضتِهِ للآيةِ: ((الذي اختصَّ بهِ اللهُ تعالى هو عِلْمُ هذهِ بغيرِ سببٍ محصِّلٍ للعلمِ والصدِّيقُ رضيَ اللهُ عنهُ قيلَ: علِمَ ذلكَ بسببِ منامٍ رآهُ فلا تناقضَ)) الذخيرة 6/229. وينظر أيضًا: 10/57.. وهذا الخبرُ عن الصدِّيقِ يصلحُ شاهدًا لجوازِ بحثِ الإنسانِ في جنسِ الجنينِ. قالَ السرخسيُّ معلقًا على هذهِ القصةِ: ((وفيهِ دليلٌ أنَّ الحملَ مِنْ جملةِ الورثةِ، وأنهُ لا بأسَ للإنسانِ أنْ يتكلمَ بمثلِ هذا بطريقِ الفراسةِ. فإنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه قالَ ذلكَ بفراستِهِ، ولم يكنْ ذلكَ منهُ رجمًا بالغيبِ. فإنَّ ما في الرحمِ لا يَعلَمُ حقيقتَهُ إلا اللهُ تعالى كما قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ لقمان:34.)) المبسوط 12/50..
الدليلُ الثاني: أنَّ العملَ على تحديدِ جنسِ الجنينِ ضربٌ مِن ضروبِ تغييرِ خلقِ اللهِ تعالى الذي هو مِن عملِ الشيطانِ كما دلَّ عليهِ قولُهُ تعالى: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ النساء:119.. وكذلكَ ما رواهُ الشيخانِ روى البخاري، كتاب اللباس، باب المتفلجات للحسن، رقم (5931)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة، رقم (2125). مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله تعالى قالَ: ((لعنَ اللهُ الواشماتِ والمستوشماتِ، والمتنمصاتِ، والمتفلجاتِ للحسنِ، المُغَيِّراتِ خلقَ اللهِ تعالى، مالي لا ألعنُ مَن لعَنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم)). فإذا كانَ التغييرُ في صورةِ الخِلقةِ على النحوِ الذي ذكرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم محرَّمًا فكيف بالتغييرِ في الجنسِ؟ لا شكَّ أنهُ أحقُّ بالتحريمِ وأولى بالمنعِ.
ويجابُ على هذا بعدمِ التسليمِ، وذلكَ أنَّ تحديدَ جنسِ الجنينِ لا يدخلُ في تغييرِ خلقِ اللهِ تعالى؛ وبيانُ ذلكَ أنَّ جميعَ إجراءاتِ عمليةِ تحديدِ جنسِ الجنينِ في جميعِ صورِها تكونُ قبلَ تكوُّنِ الجنينِ وتخلُّقِهِ، فلا تغييرَ فيها.
الدليلُ الثالثُ: أنَّ القولَ بجوازِ العملِ على تحديدِ جنسِ الجنينِ يُفضِي إلى عدةِ مفاسدَ ومخاطرَ منها:
1. الإخلالُ بالتوازنِ الطبيعيِّ البشريِّ في نسبِ الجنسينِ الذي أجراهُ اللهُ تعالى في الكونِ لحكمةٍ ورحمةٍ. فإنَّ كثيرًا مِنَ الناسِ قد يميلُ إلى جنسِ الذكورِ في المواليدِ لذلكَ ((حذَّرَ خبراءُ في مجالِ الأخلاقياتِ مِن مخاطرِ وقوعِ اختلالٍ سكانيٍّ بسببِ هذهِ الطريقةِ فضلًا عن تجاوزاتٍ تسمحُ باختيارِ مميزاتِ الأطفالِ الجسديةِ. ففي الصينِ والهندِ حيثُ يفضلُ الأهلُ إنجابَ الذكورِ أدَّى إجهاضُ الأجنةِ الأنثى وحتى قتلُ الأطفالِ إلى نقصِ في الفتياتِ))http://www.akhbar.ma/_i58_6.html .. ويعزِّزُ هذا ما جاءَ في تقريرِ اللجنةِ المعنيةِ بحقوقِ الإنسانِ في الأممِ المتحدةِ حولَ كوريا ((وما يُثيرُ القلقَ إلى حدٍّ كبيرٍ هو ممارسةُ تعيينِ جنسِ الجنينِ، والازديادُ غيرُ المتناسبِ في نسبةِ البنينَ إلى البناتِ)) تقرير اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، الجمعية العامة- الدورة الخامسة والخمسون- الملحق رقم 40(A/55/40)، ص 35. وقد جاءت الإشارة إلى هذه الإشكالية دون تقييدها ببلد معين في إعلان ومنهاج عمل بيجين في القرار(1) للمؤتمر العالمي المعني بالمرأة المنعقد في بيجين خلال الفترة 4-15 أيلول/سبتمبر 1995..
2. فتحُ المجالِ أمامَ العبثِ العلميِّ في خلقِ الإنسانِ وتكوينِهِ، وهو أمرٌ اتفقَ الناسَ على خطورتِهِ وشؤمِ عاقبتِهِ على البشريةِ.
3. ما يمكنُ أنْ يقعَ مِن جرَّاءِ بعضِ الطرقِ في عمليةِ تحديدِ جنسِ الجنينِ مِنِ اختلاطِ الأنسابِ، وهذا مِنَ المفاسدِ الكبرى الناتجةِ عن هذهِ العمليةِ ينظر: المسائل الطبية المستجدة 1/232..
4. هتكُ العوراتِ بكشفِها وعدمِ حفظِها، وذلكَ أنَّ مِن طرقِ تحديدِ جنسِ الجنينِ ما يتطلبُ كشفَ المرأةِ عن العورةِ المغلظةِ.
ويُجابُ على هذا إجمالًا بأنَّ وجودَ المفاسدِ في عملٍ معينٍ، أمرٌ لا يلزمُ منهُ منعُهُ شرعًا إلا في حالِ كونِ المفاسدِ غالبةً والمصالحِ منغمرةً كما دلتْ على ذلكَ قواعدُ الشريعةِ ونصوصُها ينظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/54.. لذا وجبتِ الموازنةُ بينَ المفاسدِ والمصالحِ في قضيةِ تحديدِ جنسِ الجنينِ.
وبالنظرِ إلى ما ذُكِرَ مِنَ المفاسدِ المترتبةِ على القولِ بجوازِ العملِ على تحديدِ جنسِ الجنينِ يتبينُ أنها ليستْ ملازمةً للقولِ بالجوازِ ولا للعمليةِ نفسِها؛ لكنها مفاسدُ قد تنتجُ عن سوءِ استعمالٍ أو عن أمورٍ ليستْ ذاتَ صلةٍ بالعمليةِ ذاتِها. ويمكنُ بيانُ ذلكَ بالإجابةِ على المفاسدِ المذكورةِ بالنقاطِ التاليةِ:
1. أنَّ ما ذُكِرَ مِنَ اختلالِ في نسبِ الجنسينِ ليسَ سببُهُ إمكانيةَ تحديدِ جنسِ الجنينِ، بل هو راجعٌ لأمورٍ أخرى خارجةٍ عن ذلكَ. فعلى سبيلِ المثالِ ما ذُكِرَ مِن شواهدِ اختلالٍ في الصينِ وكوريا هو نتاجُ قانونِ التنظيمِ الحكوميِّ للنسلِ الذي يمنعُ أكثرَ مِن ولدٍ، فيضطرُّ الناسُ إلى العملِ على تحديدِ جنسِ المولودِ الذي يرغبونَ فيهِ لعدمِ إمكانيةِ تكرُّرِ الحملِ ثانيةً جاء في جريدة الشرق الأوسط، العدد 9891، الثلاثـاء 26 ذو القعـدة 1426 هـ 27 ديسمبر 2005م. ((والذي تزايدَ منذُ تطبيقِ سياسةِ طفلٍ واحدٍ في الصينِ منذُ أكثرَ من 20 عامًا. وتظهرُ إحصاءاتٌ حكوميةٌ أنَّ 119 ذكرًا يولدونَ أمامَ كلِّ 100 أنثى في أكبرِ دولِ العالمِ سكانًا. وتعززَ التقليدُ الصينيُّ بتفضيلِ الذكورِ بعدَ تطبيقِ الصينِ سياسةَ طفلٍ واحدٍ للحدِّ مِنَ الزيادةِ السكانيةِ في هذا البلدِ الذي يبلغُ تعدادُ سكانِهِ أكثرَ من 1.3 مليار نسمةٍ)).. كما أنهُ معَ التطورِ المشاهَدِ في تسجيلِ المواليدِ ونسبِهِم التحكمُ بالمنعِ عندَ حصولِ الاختلالِ كما فعلتِ الحكومةُ الماليزيةُ حيثُ اقترحتْ مشروعَ قانونٍ يحظرُ ((اختيارَ جنسِ المولودِ قبلَ ولادتِهِ؛ وذلكَ بدعوى أنَّ هذا العملَ قد يُسفرُ عنِ اختلالاتٍ اجتماعيةٍ)) جريدة الرياض، العدد 13883، الاربعاء 2 جمادى الأخر 1427هـ - 28 يونيو 2006م.. والمشروعُ نفسُهُ كانَ مقترحًا في الصينِ ((لإعطاءِ فاعليةٍ جديدةٍ للحملةِ الحكوميةِ المناهضةِ للإجهاضِ الاختياريِّ للأجنةِ الإناثِ. وتصحيحِ الخللِ في معدلِ الذكورِ إلى الإناثِ)) جريدة الشرق الأوسط، العدد 9891، الثلاثـاء 26 ذو القعـدة 1426 هـ 27 ديسمبر 2005م.. ومِنَ الضماناتِ التي اقترحتها جماعةٌ مِنَ القائلينَ بالجوازِ لتوقِّي مخاطرِ الاختلالِ المذكورِ تقييدُ جوازِ تحديدِ جنسِ الجنينِ بما إذا لم يكنْ مشروعَ دولةٍ وسياسةَ أمةٍ. ومِنَ الضماناتِ أيضًا تقييدُهُ بما إذا دعتْ إليهِ الحاجةُ. أما إذا لم يكنْ حاجةٌ فتركُ الأمرِ على طبيعتِهِ دونَ تدخُّلٍ هو المسلكُ القويمُ.
2. وجودُ العبثِ العلميِّ في خلقِ الإنسانِ وتكوينِهِ لا يسوغُ منعَ الاستعمالِ الراشدِ لتحقيقِ الأهدافِ السليمةِ. وإنما الذي يُمنعُ هو ما كانَ ضارًّا من تلكَ التطبيقاتِ.
3. لا ريبَ أنَّ الخشيةَ مِنِ اختلاطِ الأنسابِ محذورٌ قائمٌ في بعضِ الوسائلِ المستعملةِ لتحديدِ جنسِ الجنينِ وليسَ في جميعِها. والإجماعُ منعقدٌ على أنَّ الجوازَ يُشترطُ لهُ الأمنُ مِنِ اختلاطِ الأنسابِ باختلاطِ المياهِ.
4. مِنَ الْمُسَلَّمِ أنَّ بعضَ وسائلِ تحديدِ جنسِ الجنينِ تتطلبُ كشفَ العورةِ المغلظةِ. وهذا الكشفُ قد يندرجُ في الحاجةِ التي لا خلافَ بينَ أهلِ العلمِ في أنهُ يجوزُ معها كشفُ العورةِ بقدرِها فتح الباري لابن رجب 3/85..
ومثلُ هذا النوعِ مِنَ المفاسدِ لا يقوى على المنعِ؛ لأنهُ في الإمكانِ العمل على توقِّي هذه المفاسدِ ومحاصرتِها بالضوابطِ المانعةِ مِن حصولِها، أو قطعِ مسبباتِها. ولذلكَ أكثرُ مِن قالَ بالجوازِ قيَّدَ ذلكَ بما يدفعُ المفاسدَ ويضيقُها. وسيأتي مزيدُ بسطٍ وبيانٍ لهذا عندَ الحديثِ عن ضوابطَ في تحديدِ جنسِ الجنينِ.
الدليلُ الرابعُ: أنَّ القولَ بجوازِ العملِ على تحديدِ جنسِ الجنينِ يفضي إلى تفضيلِ جنسٍ على جنسٍ، وهو في معنى ما كانَ عليهِ أهلُ الجاهليةِ مِن تفضيلِ الذكورِ على الإناثِ، الذي أفضى بهم إلى الوأدِ في الجاهليةِ ينظر: المسائل الطبية المستجدة 1/234..
ويجابُ على هذا بما تقدَّمَ مِن أنَّ طلبَ جنسٍ معينٍ في الولدِ لا محظورَ فيه شرعًا. فاللهُ تعالى قد أقرَّ بعضَ أنبيائِهِ الذين سألوهُ في دعائِهِم أنْ يهبَ لهم ذكورًا مِنَ الولدِ. كما في دعاءِ إبراهيمَ وزكريا. أمَّا ما كانَ عليهِ أهلُ الجاهليةِ مِنَ الوأدِ فلا خلافَ في تحريمِهِ وعدمِ جوازِهِ، ويُلحقُ بهِ في التحريمِ ما كانَ في معناهُ مِن طرقِ اختيارِ جنسِ الجنينِ بإجهاضِهِ، وهو ما يُعرَفُ بالإجهاضِ الانتقائيِّ وهو مِن أكبرِ أسبابِ الإجهاضِ في بعضِ المجتمعاتِ "فحسبُ الجمعيةِ الطبيةِ الهنديةِ تُجرى أكثرُ مِن عشرةِ ملايينَ عمليةِ إجهاضٍ أغلبُها مِن أجلِ التخلصِ مِنَ الجنينِ الأنثى كلَّ عامٍ".2006/02/13/21090.html http://www.alarabiya.net/programs/ ، فهذا الطريقُ مِنَ الطرقِ المحرَّمةِ في اختيارِ جنسِ الجنينِ أحكام الإجهاض في الفقه الإسلامي ص 231-233.. كما أنه خارجٌ عن محلِّ البحثِ.
الترجيحُ:
وبعدَ هذا التطوافِ في أدلةِ الجوازِ والمنعِ، فالذي يترجحُ أنَّ الأصلَ في تحديدِ جنسِ الجنينِ الإباحةُ والجوازُ؛ لقوةِ أدلةِ الجوازِ، ولعدمِ قيامِ دليلٍ يُعَضِّدُ القولَ بالمنعِ والتحريمِ. لكن لَمَّا كانَ تحديدُ جنسِ الجنينِ يحتاجُ لضبطٍ لتوقِّي الاستعمالِ السيِّئِ لهُ فقد ذكرَ أهلُ العلمِ والنظرِ في الشرعِ والاجتماعِ جملةً مِنَ الضوابطِ تمنعُ ما يمكنُ أنْ يكونَ مِنِ استعمالٍ غيرِ راشدٍ لتحديدِ جنسِ الجنينِ. وسأذكرُ ذلكَ في المطلبِ القادمِ.