المطلبُ الرَّابعُ
سنُّ ابتداءِ الزَّواجِ
مِنَ الجديرِ ذكرُهُ أنَّ للدِّيانةِ حضورًا في تحديدِ سنِّ الزَّواجِ، فالَّذين ذهبوا إلى تحديدِ ابتداءِ سنِّ الزَّواجِ بالبلوغِ مِنَ الفقهاءِ، استندوا في ذٰلكَ إلى أدلَّةٍ مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ، كما تقدمَ ذكرُ ذٰلكَ وبيانُهُ. وعلى هذا النَّحوِ غالبُ الأنظمةِ والقوانينِ الَّتي تحدِّدُ سنَّ ابتداءِ الزَّواجِ، حتَّى الغربيَّةِ منها ينظر: الزواج المدني دراسة مقارنة، للدكتور عبد الفتاح كبّارة ص (35،80).. فمثلًا إلى عهدٍ قريبٍ كانَ القانونُ البريطانيُّ ينصُّ على أنَّ سنَّ الزَّواجِ بالنِّسبةِ للزَّوجِ أربعَ عشرةَ سنةً، وبالنِّسبةِ للزَّوجةِ اثنتا عشرةَ سنةً، ومرجعُهُمْ في ذلكَ إلى الكنيسةِ، وكذلكَ القانونُ المدنيُّ الفرنسيُّ جاءَ في المادةِ (144) منهُ: «لا يجوزُ زواجُ الرَّجلِ قبلَ تمامِ ثمانيَ عشرةَ سنةً، ولا زواجُ امرأةٍ قبلَ بلوغِها خمسَ عشرةَ سنةً كاملةً» ينظر: الزواج المدني دراسة مقارنة، للدكتور عبد الفتاح كبّارة ص (72).، وكذا في الدَّولةِ العثمانيَّةِ ومصرَ، فالحسينيُّ بعدَ أن ذكرَ أنَّ مُنتهَى البلوغِ عندَ الحنفيَّةِ ثمانيةَ عشرَ عامًا، قالَ: «وبُنيتِ المادَّتانِ الخامسةُ والسَّادسةُ على هذا الأساسِ (وهذا نصُّهما) :
المادةُ 5- إذا ادَّعَى المراهقُ الذي لم يُتمَّ الثامنةَ عشرةَ مِن عمرِهِ البلوغَ، فللحاكمِ أن يأذنَ له بالزواجِ، إذا كانتْ هيئتُهُ محتمِلةً.
المادةُ 6- إذا ادَّعتِ المراهقةُ التي لم تتمَّ السابعةَ عشرةَ مِن عمرِها البلوغَ، فللحاكمِ الشرعيِّ أن يأذنَ لها بالزواجِ، إذا كانتْ هيئتُها أيضًا محتملةً، ووليُّها أذِنَ بذلكَ» مجلة المنار (25/63)..
كذا بعضُ القوانينِ العربيَّةِ الحديثةِ، الَّتي نصَّتْ على تحديدِ سنِّ الزَّواجِ، مثلُ قانونِ حقوقِ العائلةِ الفلسطينيِّ، مع ذهابِهِ إلى تحديدِ أهليَّةِ الزَّواجِ بأن يكونَ سنُّ الخاطبِ ثمانيَ عشرةَ سنةً فأكثرَ، وسنُّ المخطوبةِ سبعَ عشرةَ سنةً فأكثرَ، إلَّا أنَّ المادَّةَ الثَّامنةَ منهُ نصَّتْ على أنَّهُ «لا يجوزُ لأحدٍ أن يُزوِّجَ الصَّغيرَ الَّذي لم يُتمَّ الثَّانيةَ عشرةَ مِن عمرِهِ، ولا الصَّغيرةَ الَّتي لم تُتِمَّ التَّاسعةَ مِن عمرِها» الوضع القانوني للمرأة الفلسطينية في منظومة قوانين الأحوال الشخصية، وحدة المرأة الإنسان، سلسلة دراسات (35):http://www.pchrgaza.org/arabic/studies/private-law-women.htm.
وقد غدتِ السِّنُّ القانونيَّةُ للزّواجِ الأكثرُ انتشارًا في قوانينِ الدُّولِ وأنظمتِها، هي سنُّ الثَّامنةَ عشرةَ، والَّذي تقتضيهِ الحكمةُ أن يُراعَى في التَّحديدِ ما تتحقَّقُ بهِ المصلحةُ وتندفعُ بهِ المفسدةُ، وذلكَ يختلفُ باختلافِ البلدانِ والبيئاتِ والشُّعوبِ، وغيرِ ذلكَ مِنَ العوامل المؤثِّرةِ، والمقصودُ أنَّهُ ينبغي في تحديدِ ابتداءِ سنِّ الزَّواجِ ملاحظةُ كلِّ الاعتباراتِ المؤثِّرةِ، وعدمُ التَّأثُّرِ بدعوةِ المنظَّماتِ أوِ الهيئاتِ الَّتي لا تُراعِي هذهِ الفروقاتِ، فلكلِّ بلدٍ خصوصيَّاتُهُ الَّتي ينبغِي ألَّا تُهمل، وقد لفتَ نظرِي أنَّ إسبانيا، وهي إحدى دولِ الاتِّحادِ الأوربيِّ، محافظةٌ على أن يكونَ ابتداءُ سنِّ الزَّواجِ فيها أربعةَ عشرَ عامًا، رغمَ المطالباتِ برفعِهِ مِن عدّةِ جهاتٍ، فجاءَ جوابُ وزيرةِ الصِّحَّةِ الإسبانيَّةِ ليري باخين: «إنَّ إسبانيا ستحافظُ على السِّنِّ القانونيَّةِ للزَّواجِ، عندَ مستوى 14 عامًا» إسبانيا ستبقي سن الزواج القانونية عند مستوى 14 عامًا. http://www.alanba.com.kw/AbsoluteNMNEW/templates/Aworld.aspxarticleid=170084&zoneid=194&m=0.
أمَّا السِّنُّ الَّتي أوصتْ بها اللَّجنةُ السُّعوديَّةُ، المشكَّلةُ مِن وزارةِ الدَّاخليَّةِ، ووزارةِ العدلِ، ووزارةِ الشُّؤونِ الإسلاميَّةِ، ووزارةِ الشُّؤونِ الاجتماعيَّةِ؛ فهي سنُّ السَّادسةَ عشرةَ ص(8)..
والَّذي يظهرُ لي أنهُ أقربُ التَّحديداتِ للسَّلامةِ، هو تحديدُ سنِّ ابتداءِ الزواجِ بسنِّ البلوغِ للذَّكرِ والأنثى، وهو خمسةَ عشرَ عامًا، وذلكَ لما يلي:
أوَّلًا: أنَّ سنَّ الخامسةَ عشرةَ، هو أقربُ الأقوالِ في تحديدِ سنِّ البلوغِ فقد اختلف الفقهاء في تحديد سنِّ البلوغ، بعد اتفاقهم على أن السن في الجملة أحد علامات البلوغ.، فقدِ اختلفَ الفقهاءُ رحمَهُمُ اللهُ في تحديدِ سنِّ البلوغِ، بعدَ اتفاقِهم على أنَّ السنَّ في الجملةِ إحدى علاماتِ البلوغِ، فكانَ أقصى ما وقفتُ عليهِ في تحديدِ سنِّ البلوغِ تسعَ عشرةَ سنةً، وهو قولٌ عندَ الحنفيةِ والمالكيةِ، وفي قولٍ آخرَ: إنهُ خمسَ عشرةَ سنةً، وهو قولُ صاحبَي أبي حنيفةَ ينظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق (8/96).، وقولٌ عندَ المالكيةِ ينظر: الشرح الكبير للدردير (3/293).، وهو مذهبُ الشافعيةِ والحنابلةِ ينظر: شرح منهاج الطالبين (1/99)، كشاف القناع (6/454).. فهذهِ هي السِّنُّ الَّتي جعلَها اللهُ فاصلًا بينَ الصِّغَرِ والكبَرِ، ورتَّبَ عليها أحكامًا، وجعلها بلوغًا للنِّكاحِ، كما قالَ تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ سورة النساء، آية: (3)..
ثانيًا: أنَّها السِّنُّ الَّتي يبتدئُ بها الميلُ الطَّبعيُّ مِنَ الرَّجلِ للمرأةِ، ومِنَ المرأةِ للرَّجلِ؛ ولذلكَ أناطَ اللهُ بهِ أحكامَ الاستئذانِ، صيانةً للعوراتِ فقالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ﴾ سورة النور، آية: (57).، وقالَ أيضًا: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا﴾ سورة النور، آية: (58).، والحُلُمُ هو «البلوغُ، وحالُ النِّكاحِ» تفسير القرطبي (5/34).
ثالثًا: أنَّ في التَّأخيرِ عن هذهِ السِّنِّ حرمانًا لمن يرغبُ في تزْويجِ موليِّتِهِ بعدَ قيامِ المُوجبِ وهو الحاجةُ إلى النِّكاحِ.
رابعًا: أنَّ هذهِ السِّنَّ لها مسوِّغاتُها الجليَّةُ المميِّزةُ لها، بخلافِ سائرِ التَّحديداتِ، وما يقالُ مِن طبيعةِ المرحلةِ وما يعتريها مِن تقلُّباتٍ أمرٌ تشتركُ فيهِ كلُّ التَّحديداتِ المذكورةِ.