المطلبُ الثَّالثُ
حكمُ تحديدِ ابتداءِ سنِّ الزَّواجِ
بين يدي تناولِ الموضوعِ، نحتاجُ إلى تحريرِ محلِّ النِّزاعِ؛ لتتَّضحَ معالمُ المسألةِ وحدودُها؛ لئلَّا تشتبهَ بغيرِها ويدخلُ فيها ما ليسَ منها، فموضوعُ البحثِ ومأخذُ المسألةِ الرَّئيسُ هو: هل يَسُوغُ لوليِّ الأمرِ تحديدُ سنٍّ لبدءِ التَّزويجِ، بحيثُ لا يتمُّ توثيقُ الزَّواجِ قبلَ تلكَ السِّنِّ، ولا اعتبارُ آثارِهِ؟
وممَّا لا يخفى، أنَّ قضيَّةَ إصدارِ قانونٍ يحدِّدُ سنًّا لابتداءِ التَّزويجِ، كانتْ مثارَ اختلافٍ منذُ زمنٍ بعيدٍ، فقد ثارَ خلافٌ كبيرٌ في مصرَ عندما طُرحَ القانونُ قبلَ نحوِ مائةِ سنةٍ، يقولُ الشيخُ محمدٌ أمينٌ الحسينيُّ - واصفًا ردَّةَ الفعلِ على القانونِ الَّذي حدَّدَ سنَّ التَّزويجِ في القُطرِ المصريِّ، رغمَ أنَّ القرارَ كانَ مستندًا إلى فتوى شرعيَّةٍ مِن مفتي الدِّيارِ المصريَّةِ، شيخِ الجامعِ الأزهرِ آنذاكَ-: «فاضطربَ القطرُ المصريُّ بهذا القانونِ أيَّ اضطرابٍ؛ أنكرَهُ جمهورُ فقهاءِ الأزهرِ، وما يتبعُهُ مِنَ المعاهدِ الدينيَّةِ، فيما يظهرُ لنا مِن كلامِهم ومِنَ المقالاتِ التي نُشرتْ في الجرائدِ، وحسَّنَهُ وانتصرَ لهُ الشَّيخُ محمدٌ الخضريُّ بِكْ» مجلة المنار (25/63).. ومِن خلالِ هذا يتبيَّنُ أنَّ ثمَّةَ توجُّهَيْنِ إزاءَ تحديدِ ابتداءِ سنِّ التَّزويجِ منذُ طرحِهِ قبلَ مائةِ عامٍ تقريبًا، وأنَّهُ قد رافقَ ذلكَ اضطرابٌ واختلافٌ، وهذا الاضطرابُ ملازمٌ عادَةً للمستجدَّاتِ الَّتي تخالفُ ما عهدَهُ الناسُ وألِفُوهُ، ولو في الأمورِ الدنيويَّةِ العاديَّةِ الحياتيَّةِ، ولو لم يكنْ لها بُعْدٌ دينيٌّ، فإذا كانَ ثمَّةَ أبعادٌ أخرى، دينيَّةٌ أو سياسيَّةٌ أو غيرُ ذلكَ؛ فإنهُ سيُكسِبُ القضيَّةَ زَخَمًا أكبرَ.
وقد طُرحتْ هذهِ القضيَّةُ في بلادِنا المملكةِ العربيَّةِ السُّعوديّةِ حديثًا، مِن خلالِ عدَّةِ قنواتٍ إعلاميَّةٍ وطنيَّةٍ وأجنبيَّةٍ، وتكلَّمَ فيها العديدُ مِنَ المهتمِّينَ، شرعيِّينَ وحقوقيِّينَ وإعلاميِّينَ وصحفيِّينَ؛ إمَّا ابتداءً وإما إثرَ قضايا منظورةٍ لدى المحاكمِ اليونيسف "قلقة" من زواج طفلة سعودية في الثامنة من العمر. http://arabic.cnn.com/2009/middle_east/4/14/unicef.child_marriage/index.html ، وفي خضمِّ ذلكَ كثرَتِ الدَّعواتُ لتحديدِ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ، ولما كانَ لهذهِ القضيةِ بُعْدٌ دينيٌّ شرعيٌّ بيِّنٌ واضحٌ، فقد توجهتِ الأنظارُ إلى الشَّرعيينَ مِنَ العلماءِ وطلبةِ العلمِ والباحثينَ، وقد أفادتْ هيئةُ حقوقِ الإنسانِ في المملكةِ العربيَّةِ السُّعوديَّةِ، أنَّها تسعى للوصولِ إلى موافقةِ هيئةِ كبارِ العلماءِ، على مقترحِ تحديدِ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ، وأوضحَ رئيسُ جمعيَّةِ حقوقِ الإنسانِ السُّعوديَّةِ: «أنَّ دورَ الجمعيَّةِ الحصولُ على تشريعٍ يمنعُ ويُجرِّمُ تزويجَ أيِّ طفلٍ يقلُّ عمرُهُ عن الـ 18 مِن عمرِهِ» حقوق الإنسان تنتظر رد كبار العلماء لتحديد سن الزواج. http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20100121/Con20100121327999.htm.
وقد تناولَ جماعةٌ مِنَ العلماءِ والباحثينَ مسألةَ تحديدِ ابتداءِ سنِّ الزَّواجِ، ويمكنُ إجمالُ أقوالِ أهلِ العلمِ في قوليْنِ رئيسيْنِ:
القولُ الأوَّلُ: أنهُ لا يجوزُ إصدارُ قانونٍ لتحديدِ ابتداءِ سنِّ الزَّواجِ.
وهذا ما ذهبَ إليهِ كثيرٌ مِن أهلِ العلمِ، مِن أبرزِهم: العلَّامةُ الشَّيخُ محمدٌ نجيبٌ المطيعيُّ مجلة المنار (25/125-148).، وشيخُنا عبدُ العزيزِ بنُ بازٍ مجموع فتاوى ابن باز (4/125)، ملاحظات تتعلق بما نشر حول مشروع قانون الأحوال الشخصية في بعض الدول؟، والدكتورُ صالحٌ الفوزانُ صحيفة الجزيرة عدد (13438)، تاريخ 21/7/1430هـ.، وغيرُهُمْ.
القولُ الثَّاني: يجوزُ إصدارُ قانونٍ يحدِّدُ ابتداءَ سنِّ الزَّواجِ.
وهذا ما ذهبَ إليهِ جماعةٌ مِنَ العلماءِ، مِن أبرزِهِم: الشيخُ عبدُ الرحمنِ قراعةُ مفتي مصرَ، وشيخُ الأزهرِ الشَّيخُ محمدٌ أبو الفضلِ مجلة المنار (25/63).، والشّيخُ محمّدٌ بِكِ الخُضريُّ مجلة المنار (25/125)، والعلَّامةُ الشَّيخُ محمدٌ رشيدٌ رضا مجلة المنار (25/125). ، وشيخُنا محمدُ بْنُ صالحٍ العثيمين شرح ابن عثيمين على صحيح البخاري (6/272)، قال رحمه الله: «فالذي يظهر لي أنه من الناحية الانضباطية في الوقت الحاضر، أن يُمنع الأب من تزويج ابنته مطلقا، حتى تبلغ وتُستأذن».، والشيخُ عبدُ اللهِ بنُ منيعٍ المنيع لـ عكاظ: زواج القاصرات يقوِّض بناء الأسر المسلمة. http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20100121/Con20100121327999.htm.
أدلَّةُ القولِ الأوّلِ
استدلَّ القائلونَ بأنهُ لا يجوزُ إصدارُ قانونٍ يحددُ سنَّ ابتداءِ الزواجِ بعدةِ أدلةٍ، غالبُها هو ما استدلَّ بهِ القائلونَ بأنَّهُ يجوزُ تزويجُ الصغيرةِ، وأنهُ لا حدَّ لسنِّ الزَّواجِ صغرًا ولا كبرًا، وقالوا: إنَّ تحديدَ سنٍّ للزَّواجِ معارِضٌ لتلكَ الأدلَّةِ الشّرعيةِ، يقولُ الشَّيخُ عبدُ المحسنِ العبَّادُ: «فلا يجوزُ الإقدامُ على تبديلِ أو تعديلِ ما دلَّ عليهِ الكتابُ والسُّنةُ والإجماعُ، مِن عدمِ تحديدِ سنِّ الزَّواجِ، بلِ الواجبُ الاستسلامُ والانقيادُ لِما دلَّت عليهِ الأدلَّةُ، دونَ اعتراضٍ عليها أو تقييدٍ لها» كلمة أخرى حول منع الإسلام تحديد سن الزواج. http://www.mahaja.com/content.php.
وأبرزُ ما استندوا إليهِ في منعِ تحديدِ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ، ما يلي:
الأوَّلُ: أنَّ تحديدَ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ يخالفُ الإجماعَ على جوازِ تزويجِ الصَّغيرةِ حكم تقنين منع تزويج الفَتَيَات «أقل من 18سنة» وتحديد سنِّ الزواج للشثري ص (23).، وما خالفَ الإجماعَ فهو باطلٌ مردودٌ.
ونوقشَ مِن وجهيْنِ:
1. أنَّهُ ليسَ ثمَّةَ إجماعٌ في أصلِ المسألةِ، وهي جوازُ تزويجِ الصَّغيرةِ، فالخلافُ منقولٌ كما تقدَّمَ عنِ ابنِ شُبرمةَ، وأبي بكرِ بْنِ الأصمِّ، وعثمانَ البتيِّ مِنَ المتقدِّمينَ أحكام القرآن للجصاص (2/43)، بدائع الصنائع (2/240)، المحلى (9/459).، فهؤلاءِ الفقهاءُ قد قالوا بمنعِ تزويجِ الصَّغيرةِ قبلَ البلوغِ، وحدَّدوا سنَّ ابتداءِ التَّزويجِ بالبلوغِ، ومعَ هذا الخلافِ لا يكونُ إجماعٌ.
2. لو سلَّمْنا أنَّ ثمَّة إجماعًا؛ فإنَّ بحثَ مسألةِ إصدارِ قانونٍ يُحدِّدُ سنَّ ابتداءِ التَّزويجِ، ليسَ خرْقًا للإجماعِ، بل هو نوْعٌ مِنَ التَّنظيمِ الإداريِّ؛ لتحصيلِ مصالحَ ودرءِ مفاسدَ، ولهذا نظائرُ في بابِ السِّياسةِ الشَّرعيَّةِ، وسيأتي بسطُ ذلكَ قريبًا، وقد أفتى بهِ جماعةٌ مِن أهلِ العلمِ المعاصرينَ كما تقدَّمَ، مِن أمثالِ مفتي مصرَ الأسبقِ عبدِ الرَّحمنِ قراعةَ، وشيخِ الأزهرِ أبي الفضلِ، والشَّيخِ الخضريِّ، والشّيخِ محمّد رشيد رضا، وشيخِنا العثيمين.
الثَّاني: أنَّ تحديدَ سنِّ ابتداءِ التَّزويجِ، ومنْعَ الزَّواجِ قبلَهُ، يُفضِي إلى تحريمٍ لما أحلَّ اللهُ، ولا يجوزُ إصدارُ ما يمنعُ النَّاسَ مما أحلَّ اللهُ لهم، يذكرُ الشَّيخُ نجيبٌ المطيعيُّ: «أنَّ تحديدَ سنِّ الزَّواجِ، والنَّهيَ عن مُباشرةِ عقدِهِ قبلَ هذهِ السنِّ الْمُحدَّدةِ يقتضِي تحريمَ الحلالِ، الَّذي ندَبَ الشارعُ إليه وحضَّ النَّاسَ عليهِ، أو تحريمَ السُّنَّةِ المؤكَّدةِ، وكلا الأمرينِ معصيةٌ بإجماعِ المسلمينَ» مجلة المنار (25/125-148).. وقريبٌ مِن هذا ما قالَهُ شيخُنا عبدُ العزيزِ بنُ بازٍ -رحمَهُ اللهُ-: «فليسَ لأحدٍ أن يُشرِّعَ غيرَ ما شرَّعَهُ اللهُ ورسولُهُ، ولا أن يُغيِّرَ ما شرعَهُ اللهُ ورسولُهُ؛ لأنَّ فيهِ الكفايةَ، ومَن رأى خلافَ ذلكَ فقد ظلَمَ نفسَهُ، وشرَعَ للناسِ ما لم يأذنْ بهِ اللهُ» مجموع فتاوى ابن باز (4/127)..
ونوقشَ: بأنَّ هذا القانونَ لا يُحرِّمُ ما أحلَّ اللهُ، بل هو تقييدٌ للمباحِ، بما يُحصِّلُ المصالحَ ويدرأُ المفاسدَ، ومثلُ هذا لا يوصفُ بأنَّهُ محرَّمٌ كسائرِ المحرَّماتِ في الشَّرعِ، وقد نبَّهَ إلى هذا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمَهُ اللهُ- لما ذكرَ إمضاءَ عمرَ طلاقَ الثَّلاثِ بكلمةٍ واحدةٍ على مَن طلَّقَ، فقالَ: «وأمَّا القولُ بكونِ لزومِ الثَّلاثِ شرعًا لازمًا، كسائرِ الشَّرائعِ: فهذا لا يقومُ عليهِ دليلٌ شرعيٌّ»مجموع الفتاوى (33/98).، إنما هو نوعٌ مِنَ الاجتهادِ لتحصيلِ مصلحةٍ ودرءِ مفسدةٍ.
الثَّالثُ: كثرةُ المفاسدِ المترتِّبةِ على تحديدِ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ، كما أنَّ في ذلكَ التَّحديدَ تفويتًا للمصالحِ المترتِّبةِ على الزَّواجِ المبكِّرِ، لا سيَّما في زمنِ استعارِ الشَّهواتِ وكثرةِ الفتنِ.
المناقشةُ:
نوقشَ بأنَّ تحديدَ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ، لهُ مفاسدُ ومصالحُ، كما أنَّ تركَ تحديدِ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ لهُ مفاسدُ ومصالحُ، يقولُ الشَّيخُ محمد رشيد رضا: «ومَنِ ادَّعى أنَّ كلَّ زواجٍ قبلَ السِّنِّ المحدَّدةِ في القانونِ، فهو ضارٌّ، كذَّبَهُ الطِّبُّ والحقُّ الواقعُ، ومَنِ ادَّعى أنَّه لا ضررَ في شيءٍ منهُ فهو جاهلٌ بالواقعِ أو مُكابِرٌ» مجلة المنار (25/125-148).. وعليهِ فإنَّهُ لا ينبغي أن يُغلَّبَ جانبٌ على جانبٍ بمجردِ الظُّنونِ، بل لا بدَّ مِن أن يتوافرَ عددٌ مِن أهلِ الاختصاصِ والخبرةِ، في الشَّرعِ والطِّبِّ والاجتماعِ وشؤونِ الأسرةِ، للموازنةِ بينَ تلكَ المصالحِ والمفاسدِ، والتَّوصُّلِ إلى كلمةٍ سواءٍ، في أيِّهما يُغلَّبُ، وقد تواطأتْ كلماتُ كثيرٍ منهم -رغمَ اختلافِ بلدانِهم وتخصُّصاتِهم- على تغليبِ مضارِّ زواجِ الصَّغيراتِ على منافعِهِ، وسيأتي بيانُ ذلكَ.
الرَّابعُ: أنَّ في سَنِّ قانونٍ يُحدِّدُ سنَّ ابتداءِ الزَّواجِ، استجابةً للدَّعواتِ العالميَّةِ المشبوهةِ الَّتي تصدرُ عن منظَّماتٍ وهيئاتٍ تسعى لإشاعةِ الثَّقافةِ الغربيَّةِ، وإفسادِ المجتمعاتِ الإسلاميَّةِ، يقولُ الشَّيخُ عبدُ الرّحمٰنِ البرَّاكُ -في سياقِ إنكارِ ذلكَ-: «بلِ الدَّعوةُ إلى منعِ تزويجِ الصَّغيراتِ، وتقنينِ ذلكَ بتحديدِ سنِّ زواجِ الفتاةِ بستَّ عشرةَ سنةً أو فوقَ ذلكَ، دعوةٌ قديمةٌ بالبلادِ العربيَّةِ، أوَّلُ ذلكَ منذُ تسعينَ سنةً، وصدَرَ في ذلكَ عدَّةُ قراراتٍ مِن عددٍ مِنَ المؤتمراتِ: كالمؤتمرِ الدوليِّ المعنيِّ بالسُّكانِ، مكسيكو، عام 1404ه، والمؤتمرِ العالميِّ للمساواةِ والتنميةِ والسِّلمِ، نيروبي، عام 1405هـ، والمؤتمرِ الدوليِّ للسُّكانِ والتَّنميةِ، القاهرة، عام 1415هـ، والمؤتمرِ العالميِّ الرَّابعِ المعنيِّ بالمرأةِ، بكين، عام 1416ه»، ثم قالَ: «فتوجُّهُ الهيئةِ –أي: هيئةِ حقوقِ الإنسانِ في المملكةِ- إلى منعِ زواجِ القاصراتِ، وتنظيمِ قانونٍ في ذلكَ، ما هو إلَّا امتدادٌ وتنفيذٌ لِما دَرَجَتْ عليهِ البلادُ العربيَّةُ، فالأمرُ مُبيَّتٌ ومخطَّط له، وهو جزءٌ مِنَ التَّبعيَّةِ للغربِ والبلادِ العربيَّةِ الْمُغرَّبةِ» حكم تقنين منع تزويج الفَتَيَات «أقل من 18سنة» وتحديد سنِّ الزواج للشثري ص (80-81)..
المناقشةُ:
نوقشَ منعُ تحديدِ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ بأنّهُ تغريبٌ، بما يلي:
1. أنَّ ذلكَ لا يسندُهُ دليلٌ، فموضوعُ التَّحديدِ بُحِثَ منذُ زمنٍ بعيدٍ، فجماعةٌ مِنَ الفقهاءِ الأوائلِ مَنَعوا تزويجَ الصَّغيرةِ قبلَ البلوغِ، كما تقدَّمَ.
2. لو سلَّمْنا أنَّ هذهِ الدَّعوةَ جاءتْ مِنَ الغربِ، فإنَّ كونَها غربيَّةَ المصدرِ ليسَ موجِبًا لردِّها، دونَ نظرٍ فيها بميزانِ القسطِ الَّذي يوازنُ بينَ المصالحِ والمفاسدِ، ويقيسُ المنافعَ والمضارَّ. فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لأبي هريرةَ في قصةِ حراستِهِ الصَّدقةَ، وقولِ الشيطانِ لهُ: إذا أويتَ إلى فراشِكَ فاقرأْ آيةَ الكرسيِّ، لن يزالَ عليكَ مِنَ اللهِ حافظٌ، ولا يقربُكَ شيطانٌ حتَّى تصبحَ: «صَدَقَكَ، وهو كذوبٌ» رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، رقم (2275).. قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ: «أنَّ الحكمةَ قد يتلقاها الفاجرُ فلا ينتفعُ بها، وتؤخذُ عنهُ، فيُنتفعُ بها» فتح الباري (4/489).. فالحكمةُ ضالَّةُ المؤمنِ يبتدرُها حيثُ ظفرَ بها، وهذا هو المسلكُ القويمُ الَّذي دلَّت عليهِ نصوصُ الشَّرعِ الحكيمِ، وفي مسألةِ تحديدِ ابتداءِ سنِّ الزَّواجِ، وهي محلُّ البحثِ، لم تكنْ دعوى مجيئِها مِنَ الغربِ موجبةً لردِّها بالمطلقِ، فهذا الشَّيخُ محمد رشيد رضا -رغمَ كثرةِ إشارتِهِ للتَّفرنجِ والمتفرنجينَ مجلة المنار (20/340).
قال: «يكثر ذكر المتفرنجين في المنار وغيره، والتفرنج مشتق من اسم الإفرنج أو الفرنجة». وقال:«فالمتفرنجون هم الذين يقلدون الإفرنج فيما يستحسنونه من العادات وغيرها بالتكلف أولًا، ثم يتوسعون في ذلك بالتدريج». - إلَّا أنهُ لم يرُدَّ تحديدَ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ بالجملةِ، وقد أشارَ إلى المتفرنجينَ في ثنايا حديثِهِ عنِ الموضوعِ، ومعَ هذا قالَ رحمَهُ اللهُ: «ومِنَ المغالطةِ أن يُجعلَ الخلافُ في هذا القانونِ، دائرًا بينَ منعِ زواجِ الصَّغيرِ والصَّغيرةِ مطلقًا وإباحتِهِ مطلقًا، فإنَّ بينَ الأمرينِ وسطًا» مجلة المنار (25/125)..
أدلَّةُ القولِ الثَّاني
استدلَّ القائلونَ بجوازِ تحديدِ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ، بكلِّ ما استدلَّ بهِ القائلونَ بعدمِ جوازِ تزويجِ الصَّغيرةِ قبلَ البلوغِ، كما احتجُّوا بعدَّةِ حُجَجٍ، وسأذكرُ أبرزَها فيما يلي:
أولًا: إنَّ تحديدَ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ، لهُ أصلٌ في كلامِ أهلِ العلمِ؛ فقد تقدَّمَ النقلُ عنِ ابنِ شُبرمةَ، وأبي بكرِ بنِ الأصمِّ، وعثمانَ البتيِّ، قولُهم بتحديدِ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ بالبلوغِ، وأنَّهُ لا يجوزُ تزويجُ الصَّغيرةِ قبلَ بلوغِها، وقد قوَّاهُمْ مِن علماءِ العصرِ شيخُنا ابنُ عثيمين رحمَهُ اللهُ، وقد أشارَ الشَّيخُ أبو زهرة إلى استئناسِ القانونِ المصريِّ بهذا القولِ، في تحديدِ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ، قالَ رحمَهُ اللهُ: «وبهذا الرَّأيِ استأنسَ القانونُ رقم 56 لسنة 1923م، الَّذي حدَّدَ سنَّ الزواجِ، ومنعَ سماعَ الدَّعوى، إذا لم تصلْ سنُّ أحدِ الزَّوجينِ إلى القدرِ المحدودِ، وقلنا: استأنسَ؛ لأنَّ القانونَ منَعَ سماعَ الدَّعوى فقط، بينما ذلكَ الرَّأيُ يمنعُ صحةَ الزَّواجِ» محاضرات في عقد الزواج وآثاره ص (155،156)..
ثانيًا: إنَّ زواجَ الصَّغيراتِ لا يحققُ مقاصدَ الشَّريعةِ في النِّكاحِ ولا يحرزُ مصالحَهُ، بل يُدخلُ الصَّغيرةَ فيما لا تعرفُ ولا تحسنُ، يقولُ شيخُنا محمد العثيمين رحمَهُ اللهُ: «أيُّ فائدةٍ للصَّغيرةِ في النِّكاحِ؟! وهل هذا إلا تصرُّفٌ في بُضْعِها على وجهٍ لا تدري ما معناهُ؟! لننتظرْ حتَّى تعرفَ مصالحَ النِّكاحِ، وتعرفَ المرادَ بالنِّكاحِ ثم بعدَ ذلكَ نزوِّجُها، فالمصلحةُ مصلحتُها» الشرح الممتع على زاد المستقنع (12/57)..
ثالثًا: إنَّ زواجَ الصَّغيراتِ غالبًا لا تُراعَى فيهِ مصلحةُ الصَّغيرةِ ولا الأحظُّ لها، بل يُنظرُ إلى مصالحَ أخرى لا تعودُ إليها، هذا ما شهدتْ بهِ كثيرٌ مِنَ الوقائعِ، وقد أشارَ إلى ذلكَ الشَّيخُ الخضريُّ في حديثِهِ عن دوافعِ تزويجِ الصِّغارِ في زمانِهِ، قبلَ نحوِ مائةِ سنةٍ، وأنَّ زواجَ الصِّغارِ «لا لمصلحةِ الصَّغيرةِ والصَّغيرِ، بل لمصالحِ آخرينَ يُريدونَ الاستفادةَ مِن تقييدِ أحدِ الزَّوجينِ بالآخرِ، قبلَ أن تُعرفَ إرادتُهما أو إرادةُ أحدِهما، وكثيرٌ مِنَ المطَّلعينَ على أحوالِ النَّاسِ يقولونَ: إنَّ عاقبةَ مثلِ هذا الزَّواجِ في الغالبِ نكدٌ على الزَّوجينِ جميعًا» مجلة المنار (25/135).. وقالَ شيخُنا محمدٌ العثيمين رحمَهُ اللهُ: «وكمْ مِن امرأةٍ زوَّجَها أبوها بغيرِ رضاها، فلمَّا عرفتْ وأتعبَها زوجُها قالتْ لأهلِها: إمَّا أن تفكُّوني مِن هذا الرَّجلِ، وإلا أحرقتُ نفسِي، وهذا كثيرًا ما يقعُ؛ لأنَّهم لا يراعونَ مصلحةَ البنتِ، وإنَّما يراعونَ مصلحةَ أنفسِهم فقط، فمنعُ هذا عندي في الوقتِ الحاضرِ متعيَّنٌ، ولكلِّ وقتٍ حكمُهُ» شرح ابن عثيمين على صحيح البخاري (6/272)..
رابعًا: أنَّ الشَّريعةَ جاءتْ -في كلِّ ما أمرَتْ بهِ ونهَتْ عنهُ- في المصالحِ إيجادًا وتكثيرًا، وفي المفاسدِ إعدامًا وتقليلًا، قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: «والشَّريعةُ جاءتْ بتحصيلِ المصالحِ وتكميلِها، وتعطيلِ المفاسدِ وتقليلِها» الاستقامة (1/ 288)، والإخلالُ بهذا مزلَّةُ أفهامٍ كما قالَ الشَّيخُ رحمَهُ اللهُ: «فمَن لم يُوازنْ ما في الفعلِ والتَّركِ مِنَ المصلحةِ الشَّرعيةِ والمفسدةِ الشَّرعيةِ، فقد يَدَعُ واجباتٍ، ويفعلُ محرَّماتٍ» جامع الرسائل لابن تيمية (2/141).. ومفاسدُ زواجِ الصَّغيراتِ غالبةٌ على مصالحِهِ، معَ ضعفِ الأمانةِ والتعلُّقِ بالدُّنيا، فيكونُ تحديدُ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ وسيلةً لمنعِ تلكَ المفاسدِ؛ ولهذا نظيرٌ في منعِ عمرَ بنِ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنهُ بعضَ الصَّحابةِ مِنَ الزَّواجِ بالكتابيَّاتِ؛ لما خشيَ أن يُفضِيَ إلى المفاسدِ رواه سعيد في سننه (1/193)، وفيه تزوج حذيفةُ يهوديةً فكتب إليه عمر: طلِّقْها، فكتب إليه لمَ، أحرامٌ هي؟ فكتب إليه: لا ولكني خفت أن تعاطوا المومسات منهن. ورواه البيهقي في سننه أيضًا (7/172).. ومِن فعلِ عمرَ يتبيَّنُ ما ذكرَهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ حيثُ قالَ: «فإنَّ الأمرَ والنَّهيَ، وإن كانَ متضمِّنًا لتحصيلِ مصلحةٍ ودفعِ مفسدةٍ، فيُنظَرُ في المعارضِ لهُ، فإن كانَ الَّذي يُفوَّتُ مِنَ المصالحِ أو يُحصَّلُ مِنَ المفاسدِ أكثرَ؛ لم يكنْ مأمورًا بهِ، بل يكونُ محرَّمًا إذا كانتْ مفسدتُهُ أكثرَ مِن مصلحتِهِ» مجموع الفتاوى (28/129)..
المناقشةُ:
نوقشَ بأنَّ المفاسدَ الَّتي يُقالُ إنَّها تحصلُ «مِن تزويجِ الصَّغيرةِ، فهذهِ المفسدةُ ممنوعةٌ تمنعُ تزويجَها، وذلكَ في واقعةٍ خاصَّةٍ لا تقتضِي منعَ عمومِ المسألةِ» سجال بين الشيخ صالح الفوزان والدكتور حاتم العوني. http://twitmail.com/email/371905848/624/.
الإجابةُ:
أجيبَ بأنَّ تلكَ المفاسدَ لا يمكنُ ضبطُها، ولا التحقُّقُ مِنِ انتفائِها، وهي ليستْ حالاتٍ خاصّةً، بل هي في حالاتٍ غالبةٍ، قالَ شيخُنا محمد العثيمين رحمَهُ اللهُ: «فالَّذي يظهرُ لي أنَّهُ مِنَ النَّاحيةِ الانضباطيَّةِ في الوقتِ الحاضرِ، أن يُمنعَ الأبُ مِن تزويجِ ابنتِهِ مطلقًا، حتَّى تبلغَ وتُستأذنَ» شرح ابن عثيمين على صحيح البخاري (6/272).. وما كانَ كذلكَ فإنَّ المعالجةَ فيهِ تكونُ عامَّةً كما فعلَ أميرُ المؤمنينَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه في مسألةِ طلاقِ الثَّلاثِ، حيثُ قالَ: «إنَّ النَّاسَ قدِ استعجلوا في أمْرٍ قد كانتْ لهم فيهِ أناةٌ؛ فلو أمضيناهُ عليهم!» رواه مسلم، كتاب الطلاق، باب طلاق الثلاث، رقم (1472). من حديث ابن عباس رضي الله عنه.؛ لذلكَ قالَ شيخُنا ابنُ عثيمين: «ولا مانعَ مِن أن نمنعَ النَّاسَ مِن تزويجِ النِّساءِ اللَّاتي دونَ البلوغِ مطلقًا» شرح ابن عثيمين على صحيح البخاري (6/272)..
خامسًا: إنَّ زواجَ الصَّغيراتِ بالتزاماتِهِ وتداعياتِهِ الكثيرةِ، مِن حقوقٍ وواجباتٍ، وحَمْلٍ وإنجابٍ، ومشاكلَ زوجيَّةٍ، مصدرٌ لضغوطاتٍ حياتيَّةٍ، ينتجُ عنها مفاسدُ عديدةٌ، سواءٌ أكانَ مِنَ النَّاحيةِ الطِّبِّيَّةِ أوِ النَّفسيَّةِ أوِ الاجتماعيَّةِ أوِ التَّعليميَّةِ أوِ السُّلوكيَّةِ، وقد أفاضَ كثيرونَ في بيانِ تلكَ المفاسدِ، واستندوا إلى تقاريرِ لجانٍ درستْ تلكَ الآثارَ، وبناءُ الشَّريعةِ على منعِ الضَّررِ ففي الحديثِ قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا ضررَ، ولا ضرارَ» رواه أحمد (5/313 ،326-327)، وابن ماجه في كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضرّ بجاره، رقم (2340 ،2341)، كلاهما عن عبادة بن الصامت، وابن عباس رضي الله عنهما، وكلا الطريقين لا يخلو من ضعف، وعلى كل حال فللحديث طرق كثيرة؛ لذلك حسّنه النووي في الأربعين وابن رجب في شرحها (2/210).. وأشيرُ فيما يلي إلى أبرزِ ما قيلَ في ذلكَ:
فمِنَ النَّاحيةِ الطِّبِّيَّةِ والنَّفسيَّةِ -وقد ذكرَها بعضُ المتقدِّمينَ قبلَ نحوِ مائةِ عامٍ- قالَ الشَّيخُ الخضريُّ: «وأكثرُ مِن ذلكَ أنَّ ذَوِي الخبرةِ مِنَ الأطبَّاءِ، قرروا لهذا الاجتماعِ أضرارًا، ليسَ شرحُها بميسورٍ على صفحاتِ الجرائدِ، وقد سمعتُ الكثيرَ منها فآلمَنِي سماعُهُ» مجلة المنار (25/125).، وهذا ما انتهتْ إليهِ اللَّجْنةُ الَّتي شكَّلتْها وزارةُ الصِّحَّةِ في المملكةِ العربيَّةِ السُّعوديَّةِ عامَ 1429هـ، لدراسةِ الآثارِ الصِّحِّيَّةِ المترتِّبةِ على زواجِ صغارِ السِّنِّ: «زواجُ القُصَّرِ يكونُ أحدَ العواملِ الرَّئيسيَّةِ التي تُساعدُ في ظهورِ مشكلاتٍ صحِّيَّةٍ ونفسيَّةٍ، مما يؤدي إلى زيادةِ الأمراضِ في الأسرةِ والمجتمعِ، وبالتَّالي تُشكِّلُ عبئًا اقتصاديًّا على النِّظامِ الصِّحِّيِّ» جاء ذلك في خطاب معالي وزير الصحة وجهه لمعالي رئيس هيئة حقوق الإنسان. http://hrc.gov.sa/Human_Rights/Site/Details.aspx?Type=News&Page=3&Lang=Ar.
أمَّا مِنَ النَّاحيةِ الاجتماعيَّةِ، فإنَّ الصَّغيرةَ لا تقدِرُ على القيامِ بالرِّعايةِ المنوطةِ بالمرأةِ، في بيتِ زوجِها، كما قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «والمرأةُ راعيةٌ في بيتِ زوجِها» أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، رقم (839)، وأخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، رقم (1829).، «والَّذي يستدعِي مزيدَ الرَّحمةِ في هذهِ المسألةِ هو حالةُ البناتِ؛ إذ مِنَ المعلومِ أنَّ الزَّوجَ والزَّوجةَ هما مشتركانِ في تأليفِ الأسَرِ (البيوتِ) وإدارتِها، ففي السِّنِّ الَّتي يكونُ الأطفالُ فيها معذورينَ بإضاعةِ أوقاتِهم باللَّعِبِ في الأزقَّةِ، تكونُ البنتُ في مثلِها مشغولةً بأداءِ وظيفةٍ مِن أثقلِ الوظائفِ في نظرِ الجمعيَّةِ البشريَّةِ، وهي كونُها والدةً ومدبرةَ أمورِ أسرةٍ، وإنَّ صيرورةَ بنتٍ مسكينةٍ لم يكمُلْ نموُّها البدنيُّ أُمًّا؛ يُضعِفُ أعصابَها إلى آخرِ العمرِ، ويُكسبُها عِللًا مختلفةً، ويكونُ الولدُ الَّذي تلدُهُ ضاويًا (ضعيفًا هزيلًا) مغلوبًا للمزاجِ العصبيِّ» مجلة المنار (25/63)..
أمَّا مِنَ النَّاحيةِ التَّعليميَّةِ: «فعادةً يصاحبُ هذا الزَّواجَ تركُ الفتاةِ الدِّراسةَ والتَّفرغُ لحياتِها، وهذا في حدِّ ذاتِهِ يُعتبرُ صدمةً أُولى في حياتِها، وعاملًا مُدمِّرًا يؤثِّر على مستقبلِها»http://www.alnilin.com/news-action-show-id-12485.htm.
المناقشةُ:
نوقشتْ تلكَ المفاسدُ العديدةُ، سواءٌ أكانتْ مِنَ النَّاحيةِ الطِّبِّيَّةِ أوِ النَّفسيَّةِ أوِ الاجتماعيَّةِ أوِ التَّعليميَّةِ أوِ السُّلوكيَّةِ، بأنَّها غيرُ مسلَّمةٍ، وأنَّ كلَّ ما يُذكرُ مِنَ المفاسدِ غيرُ لازمٍ، ومحلُّ نقاشٍ مجلة المنار (18/253). مقال: سن الزواج بالفتيات، للدكتور توفيق صدقي.. قالَ الشَّيخُ محمدٌ بخيت المطيعيُّ: «وأمَّا ما قالوهُ، ترويجًا لتحديدِ سنِّ الزَّواجِ، مِن أَنَّ الزَّواجَ في الصِّغرِ تترتَّبُ عليهِ المفاسدُ الَّتي ذكروها، ويضرُّ بصحَّةِ الصَّغيرِ والصَّغيرةِ؛ فغيرُ مسلَّمٍ؛ لأنَّهُ لم يقُلْ أحدٌ مِنَ المسلمينَ بأنَّ الزَّواجَ فيهِ مفسدةٌ، لا في وقتِ الصِّغرِ، ولا في وقتِ الكِبَرِ، والأطبَّاءُ مختلفونَ في أنَّ الأفضلَ التَّبكيرُ بالزَّواجِ أوِ التَّأخيرُ، واختلافُهم يوجبُ الشَّكَّ في أقوالِهمْ، على أنَّه لا يُمكنُ لعاقلٍ أن يقولَ: إنَّ مجردَ حصولِ عقدِ الزَّواجِ، يحصلُ بهِ ضررٌ لصحَّةِ الصَّغيرِ أوِ الصَّغيرةِ، وإنَّما الَّذي يُتوهَّمُ أن يُقالَ: إنما هو في الوطْءِ، وأمَّا العقدُ فلا يترتبُ عليهِ شيءٌ أصلًا، فلا وجهَ لتحديدِ السِّنِّ لهُ».مجلة المنار (25/135).
الإجابةُ:
أُجيبَ بأنَّهُ لا يمكنُ نفْيُ الضَّررِ المترتِّبِ على تزويجِ الصَّغيراتِ بالكلِّيَّةِ، وأعدلُ ما قيلَ فيهِ ما علَّقَ بهِ العلَّامةُ محمد رشيد رضا رحمَهُ اللهُ حيثُ قالَ: «ومَنِ ادَّعى أنَّ كلَّ زواجٍ قبلَ السِّنِّ المحدَّدةِ في القانونِ، فهو ضارٌّ؛ كذَّبَهُ الطِّبُّ والحقُّ الواقعُ، ومَنِ ادَّعى أنَّه لا ضررَ في شيْءٍ منهُ فهو جاهلٌ بالواقعِ أو مكابِرٌ»مجلة المنار (25/125).. فإذا كانَ كذلكَ فإنَّ الواجبَ هو في الموازنةِ بينَ المصالحِ والمفاسدِ والمنافعِ والمضارِّ، والأخذِ بالمترجِّحِ والغالبِ منهما.
سادسًا: تحديدُ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ، يُمكنُ أن يندرجَ ضمنَ ما لوليِّ الأمرِ مِنَ التصرُّفاتِ والتَّدابيرِ، الَّتي يُقيمُ بها العدلَ، ويحقِّقُ بها المصالحَ ويدرأُ المفاسدَ، فإنَّ النّاسَ يمكنُ أن «يُحدثوا أمرًا تقتضي أصولُ الشَّريعةِ فيهِ غيرَ ما اقتضتْهُ قبلَ حدوثِ ذٰلكَ الأمرِ» شرح الزرقاني على موطأ مالك (2/7).، وقد قالَ الإمامُ مالكٌ: يحدثُ للنَّاسِ أقضيةٌ، بقدْرِ ما أحدثوا مِنَ الفجورِ فتح الباري (13/144).. وفي سيرِ الخلفاءِ الرَّاشدينَ مِن ذلكَ ما يصلُحُ أن يكونَ أصلًا يُبنَى عليهِ، وأساسًا يُفرَّعُ منهُ؛ وكثيرٌ منها في زمنِ أميرِ المؤمنينَ عمرَ بْنِ الخطَّابِ، الَّذي فُتحَ في عهدِهِ أكثرُ الأمصارِ، واتَّسعتْ رقعةُ الأمَّةِ، وجدَّتْ أمورٌ واختلفتْ أحوالٌ، فصدقَ ما قالَ مالكٌ، وممَّا يتَّصلُ مِن ذٰلكَ بقضايا الأسرةِ احتسابُه الطَّلاقَ الثَّلاثَ بكلمةٍ واحدةٍ ثلاثًا، بعدَ سنتينِ مِن ولايتِهِ، على خلافِ ما كانَ عليهِ الأمرُ زمنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وزمنَ أبي بكرٍ، وعلَّلَ ذٰلكَ بقولِهِ: «إنَّ النَّاسَ قدِ استعجلوا في أمْرٍ قد كانتْ لهم فيهِ أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم!» رواه مسلم، كتاب الطلاق، باب طلاق الثلاث، رقم (1472). من حديث ابن عباس رضي الله عنه..
سابعًا: تحديدُ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ، سيؤدِّي إلى منعِ ظلمِ الصَّغيراتِ بتزويجِهنَّ غيرَ الأكْفَاءِ، لتحصيلِ مصالحَ مادِّيَّةٍ أو غيرِها، حاضرةً أو مؤجَّلةً، فيكونُ تحديدُ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ مندرجًا في قاعدةِ سدِّ الذّرائعِ، وهي الوسائلُ المباحةُ إذا كانتْ تفضِي إلى محرَّمٍ غالبًا ينظر: إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص (689)، الفروق للقرافي (2/32)، مختصر التحرير ص (74). ؛ علمًا أنَّه لا يقتصرُ الأمرُ فقط على منعِ الظُّلمِ، بل وعلى منعِ كثيرٍ مِنَ الفسادِ الحاصلِ بسببِ هذا النَّوعِ من الزَّواجاتِ.
ثامنًا: تحديدُ سنِّ ابتداءِ الزواجِ، له نظائرُ عديدةٌ في التَّنظيماتِ الصَّادرةِ والمعمولِ بها، فيما يتعلَّقُ بشأنِ الزَّواجِ، واعتُبرَ ذٰلكَ تنظيمًا معمولًا بهِ في المحاكمِ منذُ سنواتٍ بعيدةٍ، مِن ذٰلكَ تنظيمُ زواجِ السُّعوديِّ بغيرِ السُّعوديَّةِ، ومثلُهُ زواجُ غيرِ السُّعوديِّ بالسُّعوديةِ، وفي منعِ فئاتٍ مِنَ الزَّواجِ مِن غيرِ السُّعودياتِ بالكلِّيَّةِ، وقيودٌ عديدةٌ تضمَّنتْها التَّعاميمُ، ومما جاءَ فيها ما نصُّهُ: «لا يجوزُ أن يتزوَّجَ السُّعوديُّ بغيرِ السُّعوديّةِ، إذا كانَ مِنَ الفئاتِ التَّاليةِ»تعاميم وزارة العدل، النكاح والمأذونية (3/675). بتأريخ 12/8/1393هـ.، ولم تقابَلْ تلكَ التنظيماتُ بشيْءٍ مِنَ الاعتراضاتِ التي وُجِّهتْ لتنظيمِ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ.
التَّرجيحُ
الَّذي يظهرُ مِن هٰذيْنِ القوليْنِ، أنهُ يجوزُ لوليِّ الأمرِ تحديدُ ابتداءِ سنِّ الزَّواجِ، على وجْهِ التَّنظيمِ؛ تحصيلًا لمصالحِ الأمَّةِ ودرءًا للمفاسدِ، وتحقيقًا للعدلِ، فإنَّ اللهَ «قد بيَّنَ سبحانَهُ بما شرَعَهُ مِنَ الطُّرُقِ، أنَّ مقصودَهُ: إقامةُ العدلِ بينَ عبادِهِ، وقيامُ النَّاسِ بالقسطِ، فأيُّ طريقٍ استُخرجَ بها العدلُ والقسطُ، فهي مِنَ الدِّينِ، وليستْ مخالفةً لهُ» الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص (19).. وكونُ هذا التَّنظيمِ يُسمَّى قانونًا أو تقنينًا أو غيرَ ذٰلكَ مِنَ المسمَّياتِ العصريَّةِ، لا يخرجُهُ عن كونِهِ جائزًا، فالأسماءُ لا تغيِّرُ الحقائقَ، يقولُ ابنُ القيّمِ رحمَهُ اللهُ: «فلا يُقالُ: إنَّ السِّياسةَ العادلةَ مخالفةٌ لما نطقَ بهِ الشَّرعُ، بل هي موافقةٌ لما جاءَ بهِ، بل هي جزءٌ مِن أجزائِهِ، ونحن نسمِّيها سياسةً تبعًا لمصطلحِهم، وإنَّما هي عدْلُ اللهِ ورسولِهِ» الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص (19)..
وفي حالِ وجودِ ما يستدعِي التَّزويجَ، قبل السِّنِّ المحدَّدِ نظامًا؛ فإنَّه يمكنُ أن يتقدَّمَ الوليُّ بطلبِ ذٰلكَ، مِن جهةٍ مختصَّةٍ للنَّظَرِ في تلكَ الطَّلَباتِ ومسوِّغاتِها، والتَّحققِ مِن أنَّهُ يُحصِّلُ مصلحةَ الصَّغيرةِ ويحميها، وهذا الاستثناءُ معمولٌ بهِ في قوانينِ الأسرةِ، في كثيرٍ مِنَ البلادِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ. فقد تركتِ الأنظمةُ والقوانينُ البابَ مواربًا لمعالجةِ الحالاتِ الَّتي تُقدِّرُ الجهاتُ المختصَّةُ استثناءَها مِنَ التَّحْديدِ وهذان نموذجان من القانون الإماراتي والقطري. شبكة المعلومات القانونية لدول مجلس التعاون الخليجي، الإمارات قانون الأحوال الشخصية http://www.gcc-legal.org/mojportalpublic/CountryHome.aspx?country=2 ... قطر: قانون الأسرة http://www.gcc-legal.org/mojportalpublic/CountryHome.aspx?country=2. وهذا ما تضمَّنتْهُ توصياتُ اللَّجْنةِ المشكَّلةِ في المملكةِ العربيَّةِ السُّعوديَّةِ، مِن وزارةِ الدَّاخليَّةِ، ووزارةِ العدلِ، ووزارةِ الشُّؤونِ الإسلاميَّةِ، ووزارةِ الشُّؤونِ الاجتماعيَّةِ، حيثُ أوصتْ بما يلي: «1- قصرُ الإذنِ بزواجِ مَنْ هي دونَ السَّادسةَ عشرةَ على المحاكمِ المختصَّةِ» ص(8).. وقد ذهبَ شيخُنا محمد العثيمين إلى أنَّهُ إذا زُوِّجتِ الصَّغيرةُ للمصلحةِ حسبَ نظرِ وليِّها، فإنَّ لهُ الحقَّ في الخيارِ بينَ الاستمرارِ وبينَ الانفصالِ، قالَ رحمَهُ اللهُ: «لكنْ لو فرضْنا أنَّ الرَّجلَ وجدَ أنَّ هذا الخاطبَ كفْءٌ، وهو كبيرُ السِّنِّ، ويخشى إنِ انتقلَ إلى الآخرةِ صارتِ البنتُ في ولايةِ إخوتِها أن يتلاعبوا بها، وأن يزوِّجوها حسبَ أهوائِهم، لا حسبَ مصلحتِها، فإن رأى المصلحةَ في أن يزوِّجَها مَنْ هو كفْءٌ فلا بأسَ بذلكَ، ولكنْ لها الخيارُ إذا كبرَتْ؛ إن شاءتْ قالتْ: لا أرضَى بهذا ولا أريدُهُ، وإذا كانَ الأمرُ كذلكَ فالسَّلامةُ ألَّا يُزوِّجَها، وأن يدعَها إلى اللهِ» الشرح الممتع على زاد المستقنع (12/58)..