بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ، ومَن يضللْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أرسلَهُ اللهُ بالهُدى ودينِ الحقِّ؛ ليُظهرَهُ على الدِّينِ كلِّهِ، وكفى باللهِ شهيدًا، أرسلَهُ بينَ يدَيِ الساعةِ بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى اللهِ بإذنِهِ وسراجًا منيرًا، فهَدَى بنورِهِ مِنَ الضَّلالةِ، وبصَّرَ بهِ مِنَ العَمَى، وأرشدَ بهِ مِنَ الغَيِّ، وفتحَ بهِ أعيُنًا عُميًا وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلفًا، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وسلَّمَ تسليمًا.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ الزواجَ آيةٌ مِن آياتِ اللهِ تعالى الَّتي امتَنَّ بها على الخَلْقِ، كما قالَ تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ سورة الروم، آية (21).. وهو الطَّريقُ الَّذي جعلَهُ اللهُ تعالى سببًا لحفظِ الجنسِ البشريِّ وبقائِهِ، فمنهُ تتكوَّنُ الأسرةُ، وعنهُ تنشأُ الذُّرِّيةُ، يقولُ اللهُ تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ سورة النحل، آية (72).، وقالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء﴾ سورة النساء آية: (1).. ولذلكَ كلِّهِ؛ حثَّتِ الشَّريعةُ على النِّكاحِ، وأمرَتْ بهِ ودَعَتْ إليهِ، وذلَّلتْ كلَّ سبيلٍ لإشاعتِهِ، حتَّى غدا سهلَ المنالِ لكلِّ راغبٍ في العفافِ، فسهَّلتْ شروطَهُ، ويسَّرتْ أسبابَ حصولِهِ وانعقادِهِ. ومع هذا كلِّهِ، فقد عظَّمتِ الشَّريعةُ هذا العَقْدَ، ففي خُطْبَةِ عرفةَ قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فاتَّقُوا اللهَ في النساءِ، فإنَّكم أخذتموهنَّ بأمانِ اللهِ، واستحللتُم فُرُوجَهُنَّ بكلمةِ اللهِ» أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حَجَّة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1218)، من حديث جابر رضي الله عنه.، فجعلَ تزويجَهنَّ بعهدِ اللهِ وكلمتِهِ الَّتي هي القرآنُ أوْ حكمُ اللهِ، ولم يأْتِ في عَقْدٍ مِنَ العقودِ نظيرٌ لهذا التَّعْظيمِ، الَّذي يستوجبُ التَّحَرِّيَ في تحقيقِ شرعِ اللهِ تعالى في الزَّواجِ، ابتداءً وعقدًا. ومِنْ تعظيمِهِ بيانُ منزلةِ حقوقِهِ، ومِن ذلكَ شروطُهُ، فقد قالَ فيها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أحقَّ الشُّرُوطِ أن يُوفَّى بهِ: ما استحللتُم بهِ الفُرُوجَ»أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في المهر، رقم (2721)، ومسلم، كتاب النكاح، باب الوفاء بالشروط في النكاح، رقم (1418)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.. وقد بيَّنَ الكتابُ والسُّنَّةُ أحكامَهُ مفصَّلًا، على وجْهٍ لا خفاءَ فيه ولا الْتِبَاسَ، عَقْدًا ومعاشرةً وانفصالًا، ما يَحِلُّ منهُ وما يَحْرُمُ، وقد تناولَ ذلكَ العلماءُ رحمَهمُ اللهُ، بيانًا وإيضاحًا، في كتبِهِم ومُدَوَّناتِهِم العِلْمِيَّةِ، فقهيَّةً كانت أو غيرَ فقهيَّةٍ.
ومعَ هذهِ الحفاوةِ الشَّرْعيَّةِ بأمْرِ النِّكاحِ والزَّواجِ، إلَّا أنَّ كثيرًا مِنَ الأولياءِ تهاوَنُوا في القيامِ بحُسْنِ النَّظَرِ في نكاحِ بناتِهِم ومولياتِهِم، فترتَّبتْ على ذلك مشاكلُ عِدَّةٌ، كان منها تفريطُ بعضِهِم في تزويجِ الصَّغيراتِ، دونَ نَظَرٍ في مصلحتِهِنَّ، بل طلبًا للتَّكثُّرِ بالمالِ، ابتداءً مِن خلالِ المهورِ والهدايا والهباتِ، وعاقبةً مِن خلالِ الميراثِ، حتَّى غَدَتِ الحالُ كما قالَ الحسينيُّ في وصْفِ حالِ الآباءِ في زمانِهِ: «ولكنَّ الآباءَ عندنا -في الغالبِ- يُهْمِلُونَ أمْرَ تعليمِ أولادِهِمْ وتربيتِهِم، ويخطبونَ لهم الزَّوْجاتِ وهم في المهدِ، بقصدِ أن يُسرُّوا بهِم أو يُكسبوهم ميراثًا» مجلة المنار (25/ 63).. ونتجَ عن ذلكَ كثيرٌ مِنَ الإشكالاتِ، لَمَّا ضُيِّعَ النَّظَرُ إلى مصلحةِ الصِّغارِ، وغُلِّبَتْ مصلحةُ الأولياءِ، فصدقَ في كثيرٍ مِن هؤلاءِ الصِّغارِ، أنَّ تزويجَهم بهذهِ الطَّريقةِ، صارَ أساسَ مصائبِهِمْ وتدميرَ مستقبلِهِمْ. ومن هنا نَشَأَتْ فكرةُ سَنِّ نظامٍ أو قانونٍ يُحدِّدُ سنَّ ابتداءِ الزَّواجِ للفتياتِ، قبلَ قرابَةِ مائةِ عامٍ في أواخرِ الدَّولةِ العثمانيةِ. ثمَّ صارَ ذلكَ –أي: تحديدُ سنِّ ابتداءِ الزواجِ - مادّةً تضمَّنتْها غالبُ التَّشْرِيعاتِ والأنظمةِ العربيَّةِ، الَّتي اهتمَّتْ بإصدارِ تقنينٍ للأحوالِ الشَّخْصِيَّةِ.
وفي هذهِ الدِّراسةِ، سأحاولُ –بإذنِ اللهِ تعالى- تقديمَ رؤيةٍ شرعيةٍ حولَ تحديدِ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ، وبعبارةٍ أخرى: سأحاولُ بيانَ ما إذا كانَ يجوزُ لوليِّ الأمرِ سَنُّ نظامٍ يُحدِّدُ السِّنَّ الأدْنى للزَّواجِ مِنَ القاصراتِ، ويمنعُ مِن تزويجِ القاصراتِ، إذا دَعَتْ حاجةٌ أو اقتَضَتْ ذلكَ مصلحةٌ.
وسأتناولُ بحْثَ قضيَّةِ تحديدِ سنِّ ابتداءِ الزَّواجِ، مِن خلالِ النِّقاطِ التاليةِ:
أوَّلًا: تمهيدٌ.
وسيتضمَّنُ التَّعريفَ بالزَّواجِ، والتَّعْريفَ بالقاصراتِ، وبيانَ الفَرْقِ بينَ القاصرِ والصَّغيرِ.
ثانيًا: المبحثُ الأولُ: زواجُ القاصراتِ.
وفيهِ مطلبانِ:
المطلبُ الأوَّلُ: المرادُ بزواجِ القاصراتِ.
المطلبُ الثَّاني: حكمُ تزويجِ القاصرةِ.
ثالثًا: المبحثُ الثَّاني: تحديدُ ابتداءِ سنِّ الزَّواجِ.
وفيهِ مطالبُ:
المطلبُ الأوَّلُ: التَّاريخُ والنَّشْأةُ.
المطلبُ الثَّاني: الأسْبابُ والدَّواعِي.
المطلبُ الثَّالثُ: حكمُ تحديدِ ابتداءِ سنِّ الزَّواجِ.
المطلبُ الرّابعُ: سنُّ ابتداءِ الزَّواجِ.
ولأسبابٍ عِدَّةٍ، فإنَّ مسألةَ تحديدِ ابتداءِ سنِّ الزَّواجِ، أصبحتْ مِنَ القضايا الَّتي شغلتِ الرَّأْيَ العامَّ، وقد تناولَها كُثرٌ مِنَ الكُتَّابِ والمهتمِّينَ، مِنَ المختصِّينَ وغيرِهِم. وقد صدرَ بخصوصِها عدَّةُ فتاوى شرعيَّةٍ، ومقالاتٍ علميَّةٍ، وكذلكَ تحقيقاتٌ صحفيّةٌ، أمَّا الكتبُ والأبحاثُ والرَّسائلُ، فقد اطَّلعْتُ على رسالةٍ بعنوانِ "حكمُ تقنينِ منعِ تزويجِ الفَتَيَاتِ «أقلَّ مِن 18 سنةً»"، مِن تأليفِ عبدِ الرَّحمنِ الشّثريِّ، وقد أجادَ وأفادَ موقع الألوكة. http://www.alukah.net. وثمَّةَ بحْثٌ آخرُ بعنوانِ "المبرِّراتُ لمنعِ تزويجِ الصَّغيراتِ"، للباحثةِ فوزيَّةَ الخليويِّ موقع صيد الفوائد. http://www.saaid.net/daeyat/fauzea/116.htm. واللهَ أسألُ أن تسهمَ هذهِ الدِّراسةُ في تجليةِ الموضوعِ، وبيانِ هذهِ المسألةِ، وما قالَهُ أهلُ العلمِ رحمَهُمُ اللهُ قديمًا وحديثًا فيها.