الفرع الثاني: حكم أكل الأطعمة المعدلة وراثيًّا:
تقدمت الإشارة إلى السجال الدائر بين مؤيدي عمليات التعديل الوراثي ومعارضيها، وأنه سجال غير محسوم. وعليه فإن أي باحث عن الحكم الشرعي لا يسعه إلا الانطلاق من الأصل المطرد في باب الأطعمة، وهو أن الأصل حل جميع الأغذية والمطعومات ينظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/29)، "أحكام القرآن" لابن العربي (3/124)، "الذخيرة" للقرافي (4/100)، "الأم" للشافعي (2/269)، "البحر المحيط" (8/9)، "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (1/371)., كما دلت عليها الأدلة، من ذلك قول الله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ سورة الأنعام: 145.. وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ سورة البقرة:173.. ((فكل ما نفع فهو طيب, وكل ما ضر فهو خبيث. والمناسبة الواضحة لكل ذي لب: أن النفع يناسب التحليل, والضرر يناسب التحريم والدوران؛ فإن التحريم يدور مع المضار وجودًا في الميتة، والدم, ولحم الخنزير, وذوات الأنياب والمخالب, والخمر، وغيرها مما يضر بأنفس الناس، وعدمًا في الأنعام والألبان وغيرها)) "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (1/3)..
ولهذا اتفق أهل العلم على أن كل ما كان فيه ضرر على النفس أو العقل من الأطعمة، فإنه من المحرمات ينظر: "المجموع شرح المهذب" (9/29)، "موسوعة الإجماع" (1/ 110-111).، فالشريعة بناؤها على نفي الضرر وإزالته. وعليه فإن الأطعمة المعدلة وراثيًّا لا يحل أكلها إذا تيقن أنها مضرة بالصحة البدنية أو العقلية أو الوراثية. لكن هذا القدر من ثبوت ضرر هذه الأطعمة غير متحقق. فالضرر بهذه الأطعمة لا يزال مظنونًا في أحسن الأحوال، ولذلك لا يسع الباحث أن يحرم هذه الأطعمة؛ لأن القول بتحريمها جرأة لا تستند إلى حجة ودليل، لاسيما وأن ذلك خلاف الأصل؛ إذ الأصل السلامة ينظر: قاعدة اليقين لا يزول بالشك، للباحثين ص 92.؛ أي: سلامة الأطعمة المعدلة وراثيًّا من الأمراض والأضرار المزعومة، أو على الأقل سلامتها من أن تكون مضرتها راجحةً.
ومما يرجح بقاء أكل هذه الأطعمة في دائرة المباح أن منافع هذه الأطعمة المعدلة وراثيًّا وفوائدها الغذائية والكفائية متحققة، أما مضارها ومفاسدها فما زالت قيد البحث والتحقيق، فلا يسوغ استباق النتائج والأبحاث. وعلى تقدير ثبوت تلك المضار، فلا يلزم القول بتحريم الأطعمة على وجه الإطلاق، بل لا بد من الموازنة بين المصالح والمفاسد، والنظر في حجمها، ومدى قوتها على نقل الحكم من دائرة المباح إلى التحريم، والله أعلم.