المسألة الأولى: الأصل في عمليات التعديل الوراثي في الأطعمة الحيوانية والنباتية:
التعديل الوراثي في الأطعمة هو من التطبيقات الحديثة نسبيًّا في علم الهندسة الوراثية، وقد تعددت وجهات النظر فيها بين مؤيد لهذه التقنية وبين معارض لها. ولا يزال هذا المعترك حامي الوطيس بين الفريقين، ومما يزيد الطين بلةً، والفصل بين الفريقين صعوبةً: أن المدة ليست كافيةً لإثبات ما يثيره المعارضون من مخاوف أو نفيها بطرق علمية. كما أن الشركات التجارية الداعمة لإنتاج الأطعمة المعدلة وراثيًّا تحيط تلك العمليات بكثير من السرية التي تحجب آثار هذه التقنية. كما أنها -من خلال قوة الإعلام- تدعم الاعتقاد بأن عمليات التعديل الوراثي لا تعدو كونها امتدادًا لطرق التهجين والتطعيم القديمة، فهي مجرد تقنية جديدة لإحداث تغيرات وراثية مفيدة ينظر: طعامنا المهندس وراثيًّا ص16 وص 99. الهندسة الوراثية الأسس والتطبيقات ص90. تربية الخضر ومستقبل الهندسة الوراثية ص 608..
ولما كان الأصل في الأشياء الإباحة والحل، حتى يقوم دليل المنع والحظر؛ كما هو قول جمهور أهل العلمينظر: الفصول في الأصول للجصاص 3/ 252، نشر البنود شرح مراقي السعود ص 20، المحصول في علم الأصول 6/ 97، شرح الكوكب المنير 1/ 325. بل قال ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم 2/166: ((وقد حكى بعضهم الإجماع عليه)).؛ كما أن الأصل عدم ثبوت تلك الدعاوى؛ لأن الأصل العدمينظر: غمز عيون البصائر 1/58-69، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 57، الأشباه والنظائر للسيوطي ص50-55، شرح الكوكب المنير 4/442.، فبناءً على ذلك كله نقول: إن الأصل في عمليات التعديل الوراثي للأطعمة الحيوانية والنباتية الحل والجواز. بل يمكن القول بأن تعديل الأطعمة وراثيًّا قد يكون واجبًا أو مستحبًّا، إذا كان وسيلةً لحفظ النفوس، بتوفير الغذاء الذي يحتاجه الناس وتقوم به أبدانهم، أو كان أداةً لصيانة الأموال من الآفات والتلف. فالوسائل لها أحكام المقاصدينظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/52، الفروق للقرافي 1/167.. كما أن مرتبة الحكم تتبع ما يحصل بالفعل من المنفعة والمصلحة، قال القرافي رحمه الله: ((وقد تعظم المنفعة فيصحبها الندب أو الوجوب مع الإذن)) الذخيرة 1/148..
وقد ذهب إلى جواز التعديل الوراثي في الحيوان والنبات جماهير الفقهاء والباحثين، وقد صدرت بذلك العديد من الفتاوى والقراراتينظر: أحكام الهندسة الوراثية، للدكتور الشويرخ ص 376، 381.، من ذلك قرار مجلس مجمع الفقه الدولي؛ حيث تضمن قرار المجلس في دورته العاشرة المنعقد بجدة في المملكة العربية السعودية، في شهر صفر 1418هـ الموافق 28 من يونيو 1997م أنه ((يجوز شرعًا الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية، في مجالات الجراثيم وسائر الأحياء الدقيقة والنبات والحيوان، في حدود الضوابط الشرعية، بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد)) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي من الدورة الثانية حتى العاشرة ص 216.. وقد تبعه بعد ذلك قرار المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الخامسة عشرة، المنعقدة في مكة المكرمة، في رجب 1419هـ حيث جاء فيه: ((يجوز استخدام أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في حقل الزراعة وتربية الحيوان، شريطة الأخذ بكل الاحتياطات؛ لمنع حدوث أي ضرر، ولو على المدى البعيد، بالإنسان أو الحيوان أو البيئة)) مجلة الفقه الإسلامي ص 172.. وهذا يتضمن جواز التعديل الوراثي في الحيوان والنبات، في ظل تحقيق المصالح ودرء المفاسد والموازنة بينهما.
ودلائل الجواز كثيرة، من أبرزها:
الأول: أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، بحسب الإمكانينظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/196، الفروق 3/94 الفرق السادس والثلاثون ومائة، الموافقات 2/37, إعلام الموقعين 3/14.، وقد تقدم أن التعديل الوراثي على وجه العموم حقق فوائد عديدةً، في مجالات متعددة، طبية علاجية ووقائية وتحسينية، وكذلك كان له إسهام كبير في توفير الأطعمة وتوسيع مواردها وتجويدها، وكذلك في إنتاج أغذية ذات قيمة غذائية عالية.
فإن قيل: إن هذه المنافع والمصالح مقابلة بأضدادها من المفاسد والمضار.
فيقال في الجواب: إن هذه المفاسد لا تستند إلى حقائق وبينات علمية، إنما غايتها مخاوف وهواجس. ثم لو سلمنا أنها حقيقة، فإننا بحاجة إلى موازنة بين المصالح والمفاسد، فلا يفضي وجود مفسدة منغمرة في المصالح إلى التحريم والمنع. وأما ما كان ذا مفسدة راجحة ومضرة غالبة فإنه يمنع منه.
الثاني: أن الله تعالى سخر لنا الحيوان والنبات وكل ما في الأرض من المخلوقات، فقال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾سورة لقمان، آية:20. ، وقال سبحانه في البُدن: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ سورة الحج، آية: 37.. فهاتان الآيتان ونظائرهما التي تخبر بتسخير الله تعالى لنا الحيوان والنبات تدل على أن الأصل في جميع أوجه الانتفاع من هذه الحيوانات والنباتات: هو الحل. وقد نص العلماء على جواز أن يفعل في الحيوان كل ما فيه مصلحة لبني آدم، وإن كان قد يحصل فيه نوع تعذيب له، كخصاء البهائم لتطييب اللحم، ووسم الدواب لتمييز الملك، وغير ذلكينظر: المنتقى للباجي 7/268، المجموع شرح المهذب 6/154، كشاف القناع 5/494، أضواء البيان 1/341..
الثالث: أن التعديل الوراثي للأطعمة غرضه ومقصوده: تكثير الإنتاج وتحسينه، وطلب تكثير الأطعمة وتجويدها، لا محظور فيه شرعًا، وقد طلب الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بالبركة في طعامهم لما قل طعامهم، ففي الصحيحين عن سلمة - رضي الله عنه- قال: خفَّت أزواد القوم وأملقوا، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في نحر إبلهم، فأذن لهم، فلقيهم عمر فأخبروه، فقال: ما بقاؤكم بعد إبلكم؟! فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما بقاؤهم بعد إبلهم؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَادِ فِي النَّاسِ فَيَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ» فبُسط لذلك نِطَع، وجعلوه على النطع, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا وبرَّك عليه، ثم دعاهم بأوعيتهم، فاحتثى الناس حتى فرغوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ» صحيح البخاري (2484)، وصحيح مسلم (27)..
وعن أنس مرفوعًا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له فقال: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَأَطِلْ حَيَاتَهُ»، فأكثر الله مالي، حتى إن لي كَرْمًا يحمل في السنة مرتين، ووُلد لصُلبي مائة وستة أولاد "الموطأ" ص (36)، و"شرح السنة" (3989)، وأصله في "الصحيحين"..
بل أمر بما هو سبب لتكثير الطعام، ففي جامع الترمذي من طريق سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ، فَكُلُوا مِن حَافَتَيْهِ وَلا تَأكُلوا مِن وَسَطِهِ» سنن الترمذي (1805)، صحيح ابن حبان (5245)، صحيح الترغيب والترهيب (2123)، وقال فيه الألباني: صحيح لغيره.، فلما جاز الدعاء بتكثير الأطعمة، وأمر بتجنب الأكل من وسط الصحفة لئلا ترتفع البركة، وهذا سبب من الأسبابالآداب الشرعية لابن مفلح 2/274. التي تُدرك بها المطالب، وقد جعل الله لتكثير الطعام أسبابًا تعود إلى عمل الإنسان، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ سورة الأعراف، آية: 96.. وجاء في السنة ما يوضح أثر البركة في حجم الثمار ووفرة نتاج الحيوان، ففي صحيح مسلم (5228) من حديث النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ يُرسِل اللهُ مَطَرًا لا يَكُنُّ منهأي: لا يمنع نزول مائه. بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، فيَغْسِلُ الأرضَ حتى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَقَةِ ورُوي كذلك "الزلفة" بالفاء، قيل: هي المرآة المجلوة في صفائها ونظافتها، وقيل غير ذلك. ، ثم يُقالُ لِلأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَكِ وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا أي: مقعر قشرها، شبهها بقحف الرأس، وهو الذي فوق الدماغ.، ويُبَارَكُ في الرِّسْلِ أي: اللبن. حتى إِنِّ اللِّقْحَةَهي القريبة العهد بالولادة، وجمعها: لِقَح، كبركة وبرك. المعاني والتوضيحات في هذه الحاشية وما سبقها مأخوذة من شرح محمد فؤاد عبد الباقي لصحيح مسلم 4/2250. مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ». فدل ذلك على أن الأصل جواز العمل على تكثير الأطعمة بالأسباب المباحة؛ لأن ما جاز سؤاله وطلبه، جاز بذل السبب لتحصيله.
ومما يرجح القول بجواز إجراء عمليات التعديل الوراثي في مجال الأطعمة الحيوانية والنباتية، أن منافع هذه التقنية وفوائدها متحققة ملموسة، من حيث زيادة القدرة الإنتاجية للحيوانات والنباتات التي خضعت لتطبيقات التعديل الوراثي، ومن جهة تحسينها للمنتجات، وكذلك وقايتها من الآفات، بل والعمل على رفع قيمتها الغذائية، أما المضار والمفاسد فما تحقق منها إنما هو نزر يسير لا يقاوم تلك المصالح الكبرى لهذه التقنية. هذا فضلًا عن أن غالب ما يثار من قبل المعارضين لعمليات التعديل الوراثي في الأطعمة الحيوانية والنباتية إنما هو مخاوف لا ترقى إلى درجة الظن الغالب، ولعل القول بجوازها بالضوابط المعتبرة يدرأ القول بالتحريم مطلقًا، فتدرك المصالح وبذلك تتوقى المفاسد.