الفرعُ الأولُ: تأصيلُ الضابطِ
كلُّ ما يجوزُ للعاملِ أوِ الموظفِ منَ الهدايا بأنواعِها سواءٌ الأعيانُ أوِ المنافعُ فجوازها مقيَّدٌ بألَّا تؤديَ إلى خيانةٍ، وألَّا تكونَ مظنةَ تهمةٍ وريبةٍ، سواءٌ في ذلكَ أصلُ الإهداءِ أو قدرهُ أوْ جنسه أو صفته.
هذا الضابطُ مستندٌ إلى الغايةِ والعلةِ التي منْ أجلها منعتْ الشريعةُ هدايا العمالِ والموظفينَ، وهيَ كونُ الهدايا مظنةَ تهمةٍ تفضي غالبًا إلى ضياعِ الأمانةِ وفسادِ الولايةِ.
قالَ ابنُ حجرِ الهيتمي: «الهدايا متى لمْ يقصدْ بها معنى الرشوةِ، ولا كانتْ في وقتِ خصومةٍ، ولا تضمنت إزراء بمنصبِ القضاءِ، ولا تهمةً، أوْ ميلًا، بلْ كانتْ مكارمةً بينَ الأكفاءِ- أنهُ لا يمتنعُ قبولها، ولكنهُ ينظرُ معَ ذلكَ إلى المعنى الباعثِ لصاحبِها على الإهداءِ»إيضاح الأحكام لما يأخذه العمال والحكام ص (65)..
ولهذا المعنى نصَّ جماعةٌ من الفقهاءِ على منعِ الحاكمِ والقاضي منْ قبولِ الهديةِ دفعًا للتهمةِ ونفيًا للريبةِ، يقولُ السبكي في فتاواهُ: ((الحاصلُ أنَّ الهديةَ لا يملكُها الحاكمُ باتفاقِ أكثرِ العلماءِ أوْ كلِّهم, وأما تحريمُ أخذِها فحيثُ أوجبتْ ريبةً حَرُمَ عليهِ قبولها))(1/206)..
وقالَ الكاساني: ((لا يقبلُ- أيْ القاضي- الهديةُ منْ أحدِهما- أيْ الخصمينِ- إلا إذا كانَ لا يلحقهُ بهِ تُهْمَةٌ))بدائع الصنائع (7/9)..
وقالَ الهيتميُّ في قبولِ القاضي عطايا الملوكِ: ((وبحثَ التاجُ السبكيُّ أنَّ خلعَ الملوكِخلع جمع خلعة، وهي في اللغة ما يعطيه الإنسان غيره من الثياب. فخلع الملوك هي عطايا معروفة من اللباس. يخلعها السلاطين على من يولونه كأنها شعار وعلامة على الولاية والكرامة، ولهذا يسمونها تشريفًا. ينظر: المصباح المنير ص (95)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/195)، حاشية قليوبي (1/349 ،3/112). أيْ التي منْ أموالهمْ كما هوَ ظاهرٌ ليستْ كالهديةِ، بشرطِ اعتيادها لمثلهِ، وألَّا يتغيرَ بها قلبهُ عنْ التصميمِ على الحقِ))تحفة المحتاج (10/138)..
وقالَ في المبدعِ فيمنْ يقبلُ القاضي هديتهُ: ((إلا ممنْ كانَ يهدي إليهِ قبلَ ولايتهِ بشرطِ ألَّا تكونَ لهُ حكومةٌ؛ لأنَّ التهمةَ منتفيةٌ؛ لأنَّ المنعَ إنما جاءَ منْ أجلِ الاستمالةِ أوْ منْ أجلِ الحكومةِ، وكلاهما منتفٍ))(10/40)..
ولقدْ وسعَ ابنُ القيمِ دائرةَ اشتراطِ انتفاءِ التهمةِ في جوازِ قبولِ الهديةِ؛ ليشملَ كلَّ منْ يمنعُ منْ قبولِ الهديةِ التي سببها العملُ، فقالَ: ((الوالي والقاضي والشافعُ ممنوعٌ منْ قبولِ الهديةِ، وهوَ أصلُ فسادِ العالمِ، وإسنادِ الأمرِ إلى غيرِ أهلهِ, وتوليةِ الخونةِ والضعفاءِ والعاجزينَ, وقدْ دخلَ بذلكَ منْ الفسادِ ما لا يحصِيه إلا اللهُ، وما ذاكَ إلا لأنَّ قبولَ الهديةِ ممنْ لمْ تجرِ عادتهُ بمهاداتهِ ذريعةٌ إلى قضاءِ حاجتهِ, وحُبُّكَ الشيءَ يعمي ويصمُّ، فيقومُ عندهُ شهوةٌ لقضاءِ حاجتهِ؛ مكافأةً لهُ مقرونةً بِشَرِّهٍ وإغماض عنْ كونهِ لا يصلحُ))إعلام الموقعين (3/114)..
ومثلهُ في المعنى من اعتبارِ مظنةِ التهمةِ في منعِ قبولِ الهديةِ والإذنِ فيما لا تهمةَ فيهِ ما علَّلَ بهِ بعضُ أهلِ العلمِ جوازَ قبولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الهديةَ معَ كونهِ كانَ واليًا على المسلمينَ؛ حيثُ قالوا: ((وتحلُّ لهُ الهديةَ مطلقًا بخلافِ غيرهِ منَ الحكامِ، وولاةِ الأمورِ؛ لانتفاءِ التهمةِ عنهُ دونهمْ))أسنى المطالب (3/106)..
ومنْ ذلكَ أيضًا ما ذكرهُ بعضُ الفقهاءِ منْ إباحةِ الضيافةِ للقاضي ممنْ ليسَ لهُ خصومةٌ منظورةٌ قالَ في "دررِ الحكامِ شرحِ مجلةِ الأحكامِ": (( للقاضي أنْ يذهبَ إلى ضيافةِ غيرِ المتخاصمينَ إذا كانتْ عامةً؛ لأنهُ ليسَ فيها تهمةٌ))(4/592). وينظر: المبسوط (16/76)..
ومثلهُ في المعنى منِ اعتبارِ مظنةِ التهمةِ في منعِ قبولِ الهديةِ والإذنِ فيما لا تهمةَ فيهِ، قالَ ابنُ تيميةَ رحمهُ اللهُ: ((وأمَّا الرجلُ المسموعُ الكلامُ, فإذا أكلَ قدرًا زائدًا عنْ الضيافةِ الشرعيةِ, فلا بدَّ لهُ أنْ يكافئَ المُطعِمَ بمثلِ ذلكَ, أوْ لا يأكلُ القدرَ الزائدَ, وإلا فقبولهُ الضيافةَ الزائدةَ مثلَ قبولهِ للهديةِ, وهوَ منْ جنسِ الشاهدِ والشافعِ إذا أدَّى الشهادةَ وأقامَ بالشفاعةِ لضيافةٍ أوْ جعلَ, فإنَّ هذا منْ أسبابِ الفسادِ))الفتاوى الكبرى (4/174-175)..