الفرعُ الأولُ: تأصيلُ الضابطِ
كلُّ ما يستفيدهُ العاملُ أوِ الموظَّفُ منْ الهدايا بأنواعِها لا تدخلُ فيما يمنعُ منْ هدايا العمالِ والموظفينَ إذا كافأَ العاملُ أوِ الموظفُ المُهدي باذلَها بمثل ِهديتهِ أوْ خيرٌ منها.
ومستندُ ذلكَ أنَّ الثابتَ منْ هدْي النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الهديةِ أنهُ كانَ يقبلُ الهديةَ ويكافئُ عليها بالإثابةِ، ففي الصحيحينِرواه البخاري في كتاب الهبة - باب المكافأة على الهبة ، رقم (2585)، (2/232). عنْ عائشةَ رضيَ اللهَ عنها أنها قالتْ: "كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقبلُ الهديةِ، ويُثيبُ عليها".
وهذا هوَ الأصلُ المشروعُ مراعاتهِ في الهدايا عمومًا أنْ يقابلَ الإحسانُ بالإحسانِ، لا خلافَ في ذلكَ بينَ أهلِ العلمِ رحمهمُ اللهُينظر: الحاوي الكبير (7/549)، البيان للعمراني (8/132)، المغني (5/397)، كشاف القناع (4/321)، شرح صحيح البخاري لابن بطال (7/95)، نيل الأوطار (6/8)..
وهذهِ الإثابةُ والمجازاةُ قدْ تكونُ واجبةً في بعضِ الأحوالِ عندَ بعضِ أهلِ العلمِ كما في هبةِ الثوابِ مثلًاينظر: البيان والتحصيل (18/162)..
ومنَ الصورِ التي قيلَ بوجوبِ الإثابةِ والمجازاةِ فيها مكافأةُ الموظَّفِ أوِ العاملِ منْ أهدى إليهِ هديةً بسببِ ولايتهِ، فقدْ جعلَ بعضُ أهلِ العلمِ ذلكَ شرطًا لجوازِ قبولها، وذلكَ أنهُ إذا كافأَ عليها المُهدي فقدْ أبطلَ سلطانَ الهديةِ ومحا سطوتَها التي منْ أجلِها حرمتْ هدايا العمالِ, وبهذا قالَ الشافعيُّ رحمهُ اللهُ: "وإنْ أهدى لهُ منْ غيرِ هذينِ الوجهينِ أحدٌ منْ أهلِ ولايتهِ فكانتْ تفضُّلًا عليهِ، أوْ شكْرَ الحسنِ في المعاملةِ فلا يقبلها، وإنْ قبلها كانتْ في الصدقاتِ، لا يسعهُ عندي غيره إلا أنْ يكافئهُ عليهِ بقدرها فيسعهُ أنْ يتمولَها"الأم للشافعي (2/63)، الحاوي الكبير (16/284)..
وهوَ قولٌ عندَ الحنابلةِالفروع (6/448).، وهوَ أيضًا تخريجٌ على قولهم بجوازِ قبولِ الهديةِ على الواجبِ فيما إذا كوفئَ المُهدِيينظر: مطالب أولي النهى(6/481). وقال في الآداب الشرعية (1/299):((وقال صالح قلت لأبي: رجل أودع رجلا وديعة فسلمها إلى الذي أودعه فأهدى إليه شيئا يقبله أم لا ؟ فقال أبي : إذا علم أنه إنما أهدى إليه لأداء أمانته فلا يقبل الهدية إلا أن يكافئ بمثلها، وهذا موافق لرواية أبي الحارث السابقة))..
أمَّا المالكيةُ فقدْ ذهبُوا إلى التحريمِ مطلقًا حتى في حالِ المكافأةِ، وقالُوا في علةِ المنعِ: ((لركون النفوسِ لمنْ أهدى إليها، ولأنَّ قبولها يطفئُ نورَ الحكمةِ))منح الجليل (8/298)..
والقولُ بجوازِ الهديةِ للموظفِ إذا كافأَ عليها أقربُ إلى الراجحِ، واللهُ أعلمُ.
وذلكَ أنَّ المكافأةَ على الهديةِ يستوي بهِ المهدي معَ المهدى إليهِ، فيزولُ ما يخشى منْ تأثيرِ الهدايا.
فإنَّ علَّةَ المنعِ منْ هدايا الموظفينَ والعمالِ وخروجها منَ الإباحةِ والحلِّ إلى الحظرِ والتحريمِ إنما هوَ ما قدْ تفضي إليه منَ الفسادِ.