الفرعُ الأولُ: تأصيلُ الضابطِ
كلُّما يستفيدهُ العاملُ أوِ الموظفُ منَ الهدايا بأنواعِها فإنَّهُ إذا كانتْ مما جرى العرفُ على التسامحِ فيهِ قدرًا ونوعًا، فلا تدخلُ فيما يمنعُ منْ هدايا العمالِ والموظفينَ.
ومستندُ هذا الضابطِ أنَّ ما جرى بهِ العرفُ وحكَمَتْ بهِ العادةُ تنتفي فيهِ العلةُ التي منْ أجلها مُنعتْ هدايا الموظفينَ غالبًا، وإلى هذا أشارَ الشيخُ محمدُ البهيُّ حيثُ قالَ: «ومثلُ العطاءِ للاستحسانِ العطاءُ بحكمِ العادةِ والعرفِ. فالعادةُ، وخصوصًا التي لا تنطوي على ضررٍ، تفضلُ رعايتها عندَ التعاملِ بينَ أصحابِ العرفِ الواحدِ. بلْ قدْ تعتبرُ شرطًا غيرَ مكتوبٍ لصحةِ المعاملةِ»رأي الدين بين السائل والمجيب ص (89)..
ومراعاةً لهذا المعنى ذكرَ الفقهاءُ جوازَ قبولِ العمالِ والموظفينَ كالقضاةِ والولاةِ ونحوهمْ الهدايا التي تُهدى إليهمْ لأسبابٍ وبواعثٍ لا صلةَ لها بأعمالهمْ ووظائفِهمْ وولاياتهمْ؛ كالهديةِ لقرابةٍ، أوْ صداقةٍ، أوْ موادَّةٍ أوْ مكافأةٍ على إحسانٍ أوْ غيرِ ذلكَ؛ إذْ لا وجهَ لمنعِ ذلكَينظر: المبسوط (16/82)، تبصرة الحكام (2/32)، تحفة المحتاج (10/137)، الإنصاف (11/210-211).؛ وعلَّلوا ذلكَ بأنهُ مما جرتْ بهِ العادةُ وسمحَ بهِ العرفُ وانتفتْ منهُ التهمةُغمز عيون البصائر (1/297)، منح الجليل (8/298)، المنثور في القواعد (1/357)، قواعد ابن رجب ص (321)..
قالَ السرخسيُّ فيما يجبُ على القاضي في شأنِ الهدايا: ((قبولُ الهديةِ منَ الرِّشْوةِ إذا كانَ بهذه الصفةِ، ومنْ جملةِ الأكلِ بالقضاءِ، ومما يدخلُ بهِ عليهِ التهمةِ، ويطمعُ فيهِ الناسُ، فليتحرزْ منْ ذلكَ؛ إلا منْ ذي رحمٍ مَحْرَمٍ منهُ فقدْ كانَ التهادي بينهمْ قبلَ ذلكَ عادةً))المبسوط (16/82)..
أما ما لمْ تجرِ بهِ عادةٌ أوْ عرفٌ سواءٌ في الهديةِ أوْ وصفِها أوْ قدرِها فهذا داخلٌ فيما جاءَ النهيُّ عنهُ منْ هدايا العمالِ والموظفينَ.
قالَ السبكي: ((وأما الهديةُ وهيَ التي يقصدُ بها التودُّدُ واستمالةُ القلوبِ فإنْ كانتْ ممنْ لمْ تقدَّمُ لهُ عادةً قبلَ الولايةِ فحرامٌ, وإنْ كانتْ ممنْ لهُ عادةٌ قبلَ الولايةِ فإنْ زادَ فكما لوْ لمْ تكنْ لهُ عادةٌ، وإنْ لمْ يزدْ فإنْ كانتْ لهُ خصومةٌ لمْ يجزَ، وإنْ لمْ تكنْ لهُ خصومةٌ جازَ بقدرِ ما كانتْ عادتهُ قبلَ الولايةِ، والأفضلُ ألَّا يقبلُ; والتشديدُ على القاضي في قبولِ الهديةِ أكثرُ من التشديدِ على غيرهِ منْ ولاةِ الأمورِ؛ لأنهُ نائبٌ عن الشرعِ فيحقُّ لهُ أنْ يسيرَ بسيرتهِ))فتاوى السبكي (1/204)..
وقالَ محمد عليش: ((فإنْ أهدى بعدَ ولايتهِ ممنْ اعتادها قبلها أزيدَ قدرًا أوْ أحسنَ جنسًا أوْ صفةً امتنعَ قبولها اتفاقًا))منح الجليل (8/299)..
وقدْ ذكرَ بعضُ الفقهاءِ أنَّ ما زادَ على المألوفِ منَ الضيافةِ بسببِ الولايةِ ملحقٌ بهدايا الموظفينَ والعمالِ التي لا يجوزُ قبولهُ.
قالَ ابنُ تيميةَ رحمهُ اللهُ: ((وأما الرجلُ المسموعُ الكلامُ, فإذا أكلَ قدرًا زائدًا عنِ الضيافةِ الشرعيةِ, فلا بدَّ لهُ أنْ يكافئَ المطعمَ بمثلِ ذلكَ, أوْ لا يأكلُ القدرَ الزائدَ, وإلا فقبولهِ الضيافةَ الزائدةَ مثلَ قبولهِ للهديةِ, وهوَ منْ جنسِ الشاهدِ والشافعِ إذا أدَّى الشهادةَ وأقامَ بالشفاعةِ لضيافةٍ أوْ جُعْلٍ, فإنَّ هذا منْ أسبابِ الفسادِ))الفتاوى الكبرى (4/174-175)..
ومما يتبينُ به هذا ما مثَّلَ بهِ السرخسيُّ حيثُ قالَ: ((ولوْ أنَّ أميرَ عسكرِ المسلمينَ أهدى إلى ملكِ العدوِ فعوضهُ ملكُ العدوِ نظرَ في هديتهِ، فإنْ كانَ مثلَ هديةِ أميرِ العسكرِ، أوْ فيهِ زيادةٌ بقدرِ ما يتغابنُ الناسُ فيهِ، فهوِ سالمٌ لهُ؛ لأنَّ الجالبَ لهذه الهديةِ ما قدمَ منَ الإهداءِ إليهِ، وقدْ كانَ في ذلكَ عاملًا لنفسهِ.
وإنْ كانَ أكثرَ منْ ذلكَ بما لا يتغابنُ الناسُ في مثلهِ فلهُ منْ ذلكَ مقدارُ قيمةِ هديتهِ، والفضلُ فيءٌ لجماعةِ المسلمينَ الذينَ معهُ، وكذلكَ الحكمُ في القائدِ الذي ممنْ يخافُ ويرجى منهُ إذا كانَ هوَ الذي أهدى إليهمْ، والأصلُ في ذلكَ حديثُ عمرَ رضي الله عنهفإنَّ امرأتهُ أهدتَ إلى امرأةِ ملكِ الرومِ هديةٌ منْ طيبٍ أوْ غيرهِ، فأهدَتْ إليها امرأةُ الملكِ هدايا فأعطاها عمرُ منْ ذلكَ مثلَ هديتها، وأخذَ ما بقي منْ ذلكَ فجعلهُ في بيتِ المالِ، فكلمهُ في ذلكَ عبدُ الرحمنِ بنِ عوفٍ رضي الله عنه، فقالَ لهُ عمرُ رضي الله عنه: قلْ لصاحبتكَ، فلتُهْدِ إليها حتى تنظُرَ أتهدي إليها مثلَ هذا أمْ لا؟))شرح كتاب السير الكبير (1/390)..