الفرعُ الأولُ: تأصيلُ الضابطِ
كلُّما يستفيدهُ العاملُ أوِ الموظفُ منَ الهدايا بأنواعِها، فإنهُ إذا أذنتْ فيها جهةُ الوظيفةِ والعملُ لمْ تدخلْ فيما يمنعُ منْ هدايا العمالِ والموظفينَ.
وهذا الضابطُ مستفادٌ منْ جملةٍ منَ الأحاديثِ النبويةِ؛ منْ ذلكَ ما رواهُ مسلمٌ منْ حديثِ قيسِ بنِ أبي حازمٍ عنْ عَدِيِّ بنِ عَمِيرَةِ الكِنْديِّ، قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ يقولُ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مَخِيطًا فَمَا فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، قالَ: فقامَ إليه رجلٌ أسودُ منَ الأنصارِ كأني أنظرُ إليهِ، فقالَ: يا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، اقبلْ عني عملَكَ، قالَ: «وَمَا لَكَ؟!» قالَ: سمعْتُكَ، تقولُ: كذا وكذا، قالَ صلى الله عليه وسلم: «وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى»كتاب الأمارة، باب تحريم هدايا العمال، رقم (3415)..
وهذا صريحٌ في جوازِ أخذِ العاملِ أوِ الموظَّفِ شيئًا بسببِ ما استُعْمِلَ فيهِ إذا كان بإذنٍ ممنْ استعمَلَهُ أوْ وظَّفَهُينظر: الفروع (4/325)..
وقدْ نصَّ على جوازِ هدايا الموظفينَ إذا أذِنَتْ جهةُ العملِ جماعةٌ منْ أهلِ العلمِ، قالَ ابنُ بطَّالٍ في شرحهِ على البُخاري: ((وفى حديثِ ابنِ اللتبيةِ: أنَّ هدايا العمالِ يجبُ أنْ تُجْعَلَ في بيتِ المالِ، وأنهُ ليسَ لهمْ منها شيءٌ إلا أنْ يستأذِنُوا الإمامَ في ذلكَ))(13/110)..
وذلكَ لأنَّهُ : ((إنما أُهدِيَتْ إليه بسببِ ولايتهِ، فاستحالَ أنْ تكونَ لهُ دونَ المسلمينَ))التمهيد لابن عبد البر (2/15).، بلْ النظرُ فيها إلى وليهمْ.
ولذلكَ أوْجبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على مَنِ استعملَ في عمالةٍ أوْ ولايةٍ منْ عاملٍ أوْ موظفٍ أنْ يأتي بكلِّ ما حصَّلهُ بسببِ ولايتهِ منْ قليلٍ أوْ كثيرٍ، ثمَّ إنْ أُعطي منهُ شيئًا أخذهُ وإلا امتنعَ منهُ.
وقدْ جاءَ هذا المعنى مُصرَّحًا بهِ فيما رواهُ الترمذيُّ منْ حديثِ قيسِ بنِ أبي حازمٍ، عنْ معاذِ بنِ جبلٍ قالَ: بعثني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى اليمنِ، فلما سِرْتُ أرسلَ في أثري، فرددتُ. فقالَ صلى الله عليه وسلم: «أَتَدْرِي لِمَ بَعَثْتُ إِلَيْكَ؟ لَا تُصِيبَنَّ شيئًا بِغَيْرِ إذْنِي؛ فَإِنَّهُ غُلُولٌ {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}سورة آل عمران، آية رقم: (161).؛ لِهَذَا دَعَوْتُكَ، فَامْضِ لِعَمَلِكَ»كتاب الأحكام، ما جاء في هدايا الأمراء، رقم (1255). قال الترمذي: حديث غريب..
قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ فيما يمنعُ منْ هدايا العمالِ: «ومحلُّ ذلكَ إذا لمْ يأذنْ لهُ الإمامُ»فتح الباري (13/167).. وقالَ المُهَلّبُ معلِّقًا على حديثِ معاذٍ: ((فيهِ أنها إذا أُخِذَتْ تجعَلُ في بيتِ المالِ، ولا يختصُّ العاملُ منها إلا بما أَذِنَ لهُ فيهِ الإمامُ))فتح الباري (13/167)..
وبهذا قالَ غيرُ واحدٍ منْ أهلِ العلمِفتح الباري (13/167). وينظر: شرح السنة للبغوي (10/89)، التمهيد لابن عبد البر (2/13-15)..
وقريبٌ منْ هذا المعنى ما ذهبَ إليهِ الطبريُّ في توجيهِ ما جاءَ منْ إذنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلملمعاذٍ لما بعثهُ إلى اليمنِ أنْ يقبلَ هديةَ منْ أهداهُ، حيثُ قالَ في توجيهِ ذلكَ الإذنِ: ((أنْ يكونَ صلى الله عليه وسلم جعلَ ما أُهدي لهُ منْ هديةٍ في عملهِ لهُ، مكانَ ما كانَ يستحقهُ منْ الرزقِ على عملهِ، إذْ كانَ كلُّ مشغولٍ عنْ التصرفِ في خاصةِ نفسهِ وعارَضَ حاجاتهُ منَ المكاسبِ وغيرِها مما هوَ لها نظيرٌ، فإنهُ مستحقٌّ منْ مالِ الفيءِ ما فيهِ لهُ ولمنْ تلزمهُ مؤونتهُ الكفايةَ))تهذيب الآثار للطبري (4/350)..
ومما يؤكدُ أنَّ كلَّ هديةٍ أذنتْ بها جهةُ العملِ فلا محذورَ على العاملِ أوِ الموظفِ في قبولها، وأنها لا تدخلُ فيما جاءَ النهيُ عنهُ منْ هدايا العمالِ، أنهُ إنما نهي عنْ ذلكَ؛ لأجلِ قطعِ أسبابِ الخيانةِ ومنعِ أسبابِ فسادِ الوظائفِ والأعمالِ والولاياتِ، فإذا علمتْ جهةُ العملِ وأذنتْ فقدْ حصلَ الأمنُ منَ الخيانةِ والفسادِ غالبًا.
وقدْ جاءَ عنِ الصحابةِ - رضيَ اللهُ عنهمْ - ما يفيدُ هذا المعنى، فعنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعود رضي الله عنهقالَ: لما قُبِضَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، واستخلفوا أبا بكرٍ رضي الله عنه، وكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلمبعثَ معاذًا إلى اليمنِ فاستعملَ أبو بكرٍ عمرَ على الموسمِ، فلقيَ معاذًا بمكةَ ومعهُ رقيقٌ، فقالَ: ما هؤلاءِ؟ فقالَ: هؤلاءِ أُهْدُوا لي، وهؤلاءِ لأبي بكرٍ. فقالَ لهُ عمرُ: إني أرى لكَ أنْ تأتيَ بهمْ أبا بكرٍ، قالَ: فلقيهُ منَ الغدِّ، فقالَ: يا ابنَ الخطابِ، لقدْ رأيتني البارحةَ، وأنا أنزو إلى النارِ، وأنتَ آخذٌ بحجزتي، وما أراني إلا مطيعكَ. قالَ: فأتى بهمْ أبا بكرٍ، فقالَ: هؤلاءِ أهدوا لي، وهؤلاءِ لكَ. قالَ: فإنا قدْ سلمْنا لكَ هديتكَ. رواهُ الحاكمُأخرجه في المستدرك على الصحيحين (12/81)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/228)، والخطيب في تاريخ دمشق (58/429-433). وقال عنه الحاكم: صحيح على شرط الشيخين..