الفرعُ الأولُ: تأصيلُ الضابطِ
كلُّ ما يستفيدهُ العاملُ أوِ الموظَّفُ منْ الهدايا بأنواعِها، والتي ليسَ العملُ أوِ الوظيفةُ سببًا في حصولِها، فهيَ جائزةٌ لا تدخلُ فيما يمنعُ منْ هدايا العمالِ والموظَّفينَ.
وهذا الضابطُ مستفادٌ منَ المعنى الذي منْ أجْلهِ تواردتِ النصوصُ في منعِ هدايا العمالِ والموظَّفينَ. ومنْ أصرحِها ما قالهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لابنِ اللُّتْبِيَةِ حينَ قالَ: ((هذا لكمْ وهذا أُهدي إلي)): «فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أوْ لا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ»متفق عليه؛ البخاري (7174) كتاب الأحكام، باب هدايا العمال، ومسلم (1832) كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، من حديث أبي حميد الساعدي، واللفظ للبخاري..
فهذا بيانٌ جليٌّ أنهُ لما كانَ قدْ أُهْدِيَ إلى ابْنِ اللُّتْبِيَةِ بسببِ الولايةِ والعملِ لمْ يكنْ لهُ أنْ يقبلَ الهديةَ لنفسهِينظر: أحكام القرآن للجصاص (6/51)، فتح الباري (5/231)، أدب القاضي (2/110)، المعتصر (1/352).، فإنَّ الأسبابَ معتبرةٌ في التمليكاتِينظر: قواعد ابن رجب ص (321).، ولهذا قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَوْ لَا؟»ينظر: فتح القدير (7/272)، الذخيرة (10/83)، حاشية البجيرمي (4/330)، مجموع الفتاوى (31/286)..
أما إنْ كانَ أُهديَ إلى الموظفِ أوِ العاملِ لأجلِ قرابةٍ أوْ صداقةٍ أوْ موادَّةٍ أوْ غيرِ ذلكَ منْ البواعثِ والأسبابِ، فإنهُ لا وجهَ لمنعِ ذلكَ وتحريمهِ، بلْ هيَ حلالٌ؛ إعمالًا للأصلِ العامِ في الهدايا بذلًا وقبولًا. وقدْ تواطأتْ كلماتُ أهلِ العلمِ على اختلافِ مذاهبِهمْ في تقريرِ هذا المعنَى.
قالَ ابنُ عابدينَ معلِّقًا على حديثِ ابنِ اللُّتْبِيَةِ: ((وتعليلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم دليلٌ على تحريمِ الهديةِ التي سببها الولايةِ))حاشية رد المحتار (5/513)..
وقالَ الجَصَّاصُ: ((وقدْ دلَّ على هذا المعنى قولُ النبيِّ: «هَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا»! فأخبرَ أنهُ إنما أُهدِيَ لهُ؛ لأنهُ عاملٌ, ولولا أنهُ عاملٌ لمْ يُهْدَ لهُ, وأنهُ لا يحلُّ لهُ، وأما منْ كانَ يُهاديهِ قبلَ القضاءِ وقدْ علمَ أنهُ لمْ يُهدَهِ إليهِ لأجلِ القضاءِ, فجائزٌ لهُ قبولهُ على حسبِ ما كانَ يقبلهُ قبلَ ذلكَ))أحكام القرآن للجصاص (2/609)..
وقالَ ابنُ العربيِّ: ((وأمَّا الهديةُ المطلقةُ للتحبُّبِ والتواصلِ فإنها جائزةٌ منْ كلِّ واحدٍ، وعلى كلِ حالٍ))أحكام القرآن (3/478)..
وقالَ ابنُ عبدِ البَرِّ أيضًا: ((العاملُ لا يجوزُ أنْ يستأثرَ بهديةٍ أُهديتْ إليهِ بسببِ ولايتهِ))الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار (5/78)..
وقالَ الإمامُ الشافعِيُّ أيضًا: ((فيحتملُ قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلمفي ابنِ اللُّتْبِيَةِ تحريمُ الهديةِ إذا لمْ تكنْ الهديةُ لهُ إلا بسببِ السلطانِ.
ويحتملُ أنَّ الهديةُ لأهلِ الصدقاتِ إذا كانتْ بسببِ الولايةِ لأهلِ الصدقاتِ كما يكونُ ما تطوَّعَ بهِ أهلُ الأموالِ مما ليسَ عليهمْ لأهلِ الصدقاتِ، لا لوالي الصدقاتِ))(2/63)..
وقالَ الغزالِيُّ أيضًا: ((وما يعلمُ -أيْ العاملُ أوِ الموظفُ- أنهُ، إنما يعطاهُ لولايتهِ فحرامٌ أخذهُ))إحياء علوم الدين (2/4)..
وقالَ ابنُ تيميةَ كذلكَ: (( فوجهُ الدلالةِ أنَّ الهديةَ هيَ عطيةٌ يبتغي بها وجهَ المعطي وكرامتهُ فلمْ ينظرْ النبيُّ صلى الله عليه وسلمإلى ظاهرِ الإعطاءِ قولًا وفعلًا، ولكنْ نظرَ إلى قصدِ المعطينَ ونيَّاتِهم التي تُعلَمُ بدلالةِ الحالِ، فإنْ كانَ الرجلُ بحيثُ لوْ نُزِعَ عنْ تلكَ الولايةِ أُهديَ لهُ تلكَ الهديةُ لمْ تكنْ الولايةُ هيَ الداعيةُ للناسِ إلى عطيتهِ، وإلا فالمقصودُ بالعطيةِ إنما هيَ ولايتهُ؛ إما ليكرمهمْ فيها، أوْ ليخفِّفَ عنهمْ، أوْ يقدِّمَهمْ على غيرِهم، أوْ نحوِ ذلكَ مما يقصدونَ بهِ الانتفاعَ بولايتهِ أوْ نفعَهُ لأجلِ ولايتهِ))الفتاوى الكبرى (6/157)..
وقالَ أيضًا في اعتبارِ الأسبابِ في الهدايا: ((هذا المنصوصُ جارٍ على أصولِ المذهبِ الموافقةِ لأصولِ الشريعةِ، وهوَ أنَّ كلَّ منْ أُهديَ أوْ وُهِبَ له شيءٌ بسببٍ يثبُتُ بثبوتهِ، ويزولُ بزوالهِ، ويحرُمُ بحرمتهِ، ويحلُّ بحلّهِ، حيثُ جازَ في تولِّي الهديةِ مثلُ مَنْ أهدى لهُ للقرضِ, فإنهُ يثبتُ فيهِ حكمُ بدلِ القرضِ. وكذلكَ منْ أهدى لهُ لولايةٍ مشتركةٍ بينهُ وبينَ غيرهِ كالإمامِ، وأميرِ الجيشِ وساعِي الصدقاتِ فإنهُ يثبتُ في الهديةِ حكمُ ذلكَ الاشتراكِ))الفتاوى الكبرى (5/472)..