المبحثُ الرابعُ: ضوابطُ جوازِ هدايا العمالِ والموظفينَ
تقدمَ أنَّ الأصلَ مشروعيةُ الهدايا بذلًا وقبولًا على وجهِ العمومِ، وأنَّ الأصلَ أيضًا تحريمُ هدايا العمالِ والموظفينَ بذلًا وقبولًا، ومما يجدُر لفتُ النظرِ إليهِ أنَّ غالبَ المذكورِ في كلامِ الفقهاءِ في هذا البابِ إنما هوَ في شأنِ القضاةِ على وجهِ الخصوصِ، وليسَ هذا حصرًا للأحكامِ فيهمْ، بلْ لكونهمْ أغلظَ منْ غيرِهمْ وأخطرَينظر: تحفة المحتاج (10/138).، قالَ الماورديُّ: «قضاةُ الأحكامِ، فالهدايا في حقِّهمْ أغلظُ مأثمًا وأشدُّ تحريمًا؛ لأنهمْ مندوبونَ لحفظِ الحقوقِ على أهلِها دونَ أخذِها، يأمرونَ فيها بالمعروفِ، وينهونَ فيها عن المنكرِ، وعنِ أبي هريرةَ - رضيَ اللهُ عنهُ - قالَ: «لعنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الراشيَ والمرتشيَ في الحكمِ»أخرجه الترمذي (1336). وقال:«حسن صحيح». فخصَّ الحكمَ بالذكرِ؛ لاختصاصهِ بالتغليظِ»الحاوي الكبير (16/286). وينظر: الذخيرة (10/80)..
وسائرُ أصحابِ الولاياتِ والأعمالِ والوظائفِ ملحقونَ بالقضاةِ في حكمِ الهدايا، وقد نصَّ على العمومِ جماعةٌ منَ الفقهاءِ.
بلْ نقلَ عدمَ الخلافِ فيهِ ابنُ فرحونَ في تبصرةِ الحكامِ: ((قالَ ابنُ حبيبٍ: لمْ تختلفِ العلماءُ في كراهيةِ الهديةِ إلى السلطانِ الأكبرِ، وإلى القضاةِ، والعمالِ، وجُبَاةِ المالِ, وهذا قولُ مالكٍ، ومَنْ قَبْلَهُ منْ أهلِ العلمِ والسنةِ))(1/33)..
وفي سياقِ تقريرِ عمومِ الحكمِ لأصحابِ الوظائفِ والولاياتِ جاءتْ كلماتُ العلماءِ صريحةً. قالَ في دررِ الحكامِ في شرحِ مجلةِ الأحكامِ: ((إنَّ كلَّ هديةٍ يأخذُها موظفٌ في وظائفِ الحكومةِ هيَ بمثابةِ الهديةِ التي يأخذُها القاضِي))(4/588)..
وقالَ الشربينيُّ في "مُغني المحتاجِ" في سياقِ ذكرِ أسبابِ عدمِ جوازِ قبولِ الهدايا قالَ: ((منها الهبةُ لأربابِ الولاياتِ والعمالِ؛ فإنهُ يحرُمُ عليهم قَبولُ الهديةِ منْ أهلِ ولاياتِهمْ ممنْ ليستْ لهُ عادةٌ بذلكِ قبْلَ الولايةِ كما هوَ محرَّرٌ في محلهِ))(3/558)..
ومما ينبغِي أنْ يستحضرَ أنهُ في حالِ الاشتباهِ في توافرِ ضوابطِ الإباحةِ فإنهُ يجبُ الرجوعُ إلى الأصلِ الخاصِ في هدايا العمالِ والموظفينَ، وهوَ المنعُ والتحريمُ؛ لأنَّ اليقينَ لا يزولُ بالشكِ واليقينُ هوَ التحريمُ، فلا يرتفعُ حالُ الشكِ في وجودِ شروطِ الإباحةِ. وقدْ نصَّ على ذلكَ الغزاليُّ منْ فقهاءِ الشافعيةِ فقالَ في أقسامِ عمومِ الهديةِ: «الخامسُ: أنْ يطلبَ التقربَ إلى قلبهِ وتحصيلَ محبتهِ، لا لمحبتهِ ولا للأنسِ بهِ منْ حيثُ إنَّهُ أنسٌ فقطْ، بلْ ليتوصلَ بجاههِ إلى أغراضٍ لهُ...فإنْ كانَ جاهُهُ بولايةٍ تولاها: من قضاءٍ، أوْ عملٍ، أوْ ولايةِ صدقةٍ، أوْ جبايةِ مالٍ، أوْ غيرهِ من الأعمالِ السلطانيّةِ، ... وكانَ لولا تلكَ الولايةُ لكانَ لا يُهدي إليهِ، فهذهِ رِشوةٌ عُرِضَتْ في معرضِ الهديةِ... فهذا مما اتفقُوا على أنَّ الكراهةَ فيهِ شديدةٌ، واختلفُوا في كونهِ حرامًا، والمعنى فيهِ متعارضٌ؛ فإنَّهُ دائرٌ بينَ الهديةِ المحضةِ، وبينَ الرِّشوةِ المبذولةِ في مقابلِ جاهٍ محضٍ في غرضٍ معينٍ. وإذا تعارضتِ المشابهةِ القياسيةِ، وعضدتِ الأخبارُ والآثارُ أحدَهما، تعينَ الميلُ إليهِ. وقدْ دلتِ الأخبارُ على تشديدِ الأمرِ في ذلكَ»إحياء علوم الدين 2/153، 154..
وقالَ أيضًا: «وإذا ثبَتَتْ هذهِ التشديداتُ، فالقاضِي والوالِي ينبغِي أنْ يقدِّرَ نفسَهُ في بيتِ أمهِ وأبيهِ، فما كانَ يُعطى بعدَ العزلِ وهوَ في بيتِ أمهِ، يجوزُ لهُ أنْ يأخذَهُ في ولايتهِ، وما يعلمُ أنَّهُ إنما يعطاهُ لولايتهِ، فحرامٌ أخذهُ، وما أشكلَ عليهِ في هدايا أصدقائهِ؛ أنهمْ هلْ كانُوا يعطونهُ لوْ كانَ معزولًا، فهوَ شُبهةٌ، فليَجْتَنِبْهُ»إحياء علوم الدين 2/154..
ولما كانَ منْ أنواعِ هدايا العمالِ والموظفينَ وصورِها ما قدْ يتجاذبهُ هذانِ الأصلانِ: إباحةُ الهدايا وحلُّها، وتحريمُ هدايا العمالِ وحظرُها؛ فيخرجُ عنِ الأصلِ الخاصِ في هدايا العمالِ والموظفينَ، وهوَ المنعُ والتحريمُ، إلى الأصلِ العامِ في الهدايا، وهوَ الإذنُ والمشروعيةُ، فإنَّنِي سأحاولُ حصرَ تلكَ الصورِ والأحوالِ التي تكونُ فيها هدايا العمالِ والموظفينَ جائزةٌ في ضوابطَ جامعةٍ؛ ليتميزَ ما جاءَ الشرعُ بالإذنِ فيهِ منْ تلكِ الهدايا، وما هوَ ممنوعٌ منها. وهذا ما سأتناولهُ في المطالبِ التاليةِ.