المبحثُ الثالثُ: الأصلُ في هدايا العمالِ والموظفينَ
الأصلُ في هدايا العمَّالِ والموظَّفينَ على اختلافِ مراتِبِهم، وجهاتِ عملِهم، المنعُ والتحريمُ، تضافرتْ على ذلكَ الأدلةُ، ولجلاءِ شرِّها وصَفَها بعضُ أهلِ العلمِ بأنها أصلُ فسادِ العالمِإعلام الموقعين (3/114).. وقدْ تواطأتِ الدلالاتُ المتنوِّعَةُ على أنَّ الأصلَ في كلِ ما يستفيدُهُ العامِلُ أوِ الموظَّفُ مِنَ التمليكاتِ العَيْنِيَّةِ، أوِ النقدِيَّةِ، وما يُمْنَحهُ منَ التسهيلاتِ، أو الخدماتِ، لأجلِ عملهِ منْ غيرِ ربِّ العملِ عدمُ الجوازِينظر: مواهب الجليل (4/253)، طرح التثريب (3/217)، تحفة المحتاج (6/296).، فمِنْ ذلكَ ما يأتي:
الأولُ: قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ»رواه أحمد (5/425) عن أبي حُميدٍ السَّاعِديِّ. قال في التلخيص الحبير (4/189): "إسناده ضعيف"، وأكَّدَ ذلك ببيان سبب الضعف في فتح الباري (13/164)، وقال في خلاصة البدر المنير (2/430):"إسناده حسن"..
ومثلُهُ وفي معناهُ ما رواهُ عدِيُّ بنُ عَمِيرةَ الكِنْدِيُّ، قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يقولُ: «مَنِ استَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مَخِيطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا، يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، رقم (3415)..
فقدْ جعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلمأَخْذَ هدايا العمَّالِ وأصحابِ الولاياتِ والوظائفِ من الغلولِ والخيانةِ، وفي هذا إبطالُ كلِّ طريقٍ يوصِّلُ إلى تضييعِ الأمانةِ بمحاباةِ المُهدِي؛ لأجلِ هَديَّتِهِينظر: الذخيرة للقرافي (10/80)، فتح الباري (63/167)..
الثاني: ما روى أبو حميدٍ رضي الله عنه قالَ: استعملَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا منَ الأزدِ يقالُ لهُ: ابنُ اللُّتْبِيَةِ على الصدقةِ، فلمَّا قدِمَ قالَ: هذا لكمْ، وهذا أُهديَ لي، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَوْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ»متفق عليه؛ البخاري (7174) كتاب الأحكام، باب هدايا العمال، ومسلم (1832) كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، من حديث أبي حميد الساعدي، واللفظ للبخاري..
فعابَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ابنِ اللُّتْبِيَةِ قبولَهُ الهديةَ التي أُهديتْ إليهِ؛ لكونهِ كانَ عاملًاينظر: فتح الباري (5/231)، أدب القاضي (2/110-111)، المعتصر من المختصر (1/352)..
الثالثُ: ما روى عبدُ اللهِ بنُ عمروٍ رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعنَ الراشيَ والمرتشيَرواه أبو داود (3580) كتاب الأقضية، باب في كراهية الرشوة، والترمذي (1337) كتاب أبواب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (2313) كتاب الأحكام باب باب التغليظ في الحيف والرشوة..
فالهديةُ إذا كانَ سببُها العملَ والولايةَ فهيَ داخلةٌ في معنى الرِّشْوةِ التي لَعَنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم آخِذَها وباذِلَها، ويمكنُ أنْ يشهدَ لهذا أنَّ عُمَرَ بنَ عبدِ العزيزِ أُهدِيَتْ إليهِ هَدِيَّةٌ فردَّها، فقيلَ لهُ: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يقبلُ الهديةَ، فقالَ: "كانتْ الهديةُ في زمنِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هديةً، واليومَ رِشوةٌ"رواه البخاري معلقًا مجزومًا به في كتاب الهبة، باب من لم يقبل الهدية لعلة، (2/235)..
فهذهِ النصوصُ بمجموعِها تدلُ على أنَّ الأصلَ في الهدايا التي تمنحُ للعمالِ والموظفينَ سواءٌ أكانُوا في القطاعِ العامِ كموظفِي الدولةِ، أمْ في القطاعِ الخاصِ كموظفِي الشركاتِ والمؤسساتِ، المنعُ والتحريمُ بذلًا وقبولًا؛ لكونِهمْ يعملونَ في هذهِ الجهاتِ.
والأصلُ أنَّ هذا الحكمَ يعَمُّ كلَّ هديةٍ يكونُ سببها ولايةُ المهدَى إليهِ، وأنْ يكونَ عملُهُ سببًا لحصولِهاينظر: شرح فتح القدير (7/272)، الذخيرة للقرافي (10/83)، حاشية البجيرمي (4/330)..
وضابطُ ذلكَ ما ذكرهُ ابنُ تيميةَ - رحمهُ اللهُ - : «فإنْ كانَ الرجلُ بحيثُ لوْ نزعَ عنْ تلكَ الوِلايةِ أُهديَ لهُ تلكَ الهديةُ لمْ تكنْ الولايةُ هيَ الداعيةُ للناسِ إلى عطيتهِ، وإلا فالمقصودُ بالعطيةِ إنما هيَ ولايتهُ، إمَّا ليكرمهمْ فيها، أوْ ليخففَ عنهمْ، أوْ يقدمهمْ على غيرهمْ، أوْ نحوِ ذلكَ مما يقصدونَ بهِ الانتفاعَ بولايتهِ، أوْ نفعهِ لأجلِ ولايتهِ»الفتاوى الكبرى (6/157). وينظر: مجموع الفتاوى (31/286).، وسيأتي مزيدُ تفصيلٍ وإيضاحٍ لهذهِ المسألةِ.
ولا غرْوَ فإنَّ قبولَ تلكَ الهدايا منْ أكبرِ أسبابِ ضياعِ الأمانةِ وفتحِ بابِ الاتجارِ بمصالحِ الناسِ، والإخلالِ بالواجباتِ والتورطِ في أنواعِ الفسادِ الإداريِّ والوظيفيِّ.
ولهذا جاءتِ الأنظمةُ والتشريعاتُ في النظمِ والقوانينِ حازمةً في منعِ الموظفِ منْ كلِّ تكسُّبٍ بسلطةِ ولايتهِ وعملهِ. فعلى سبيلِ المثالِ جاءَ في نظامِ مكافحةِ الرِّشوةِ السعودِي في أُولى موادِّهِ ما يلي: «كلُّ موظفٍ عامٍّ طلبَ لنفسهِ، أوْ لغيرهِ، أوْ قَبِلَ، أوْ أخذَ وعدًا، أوْ عطيةً لأداءِ عملٍ منَ أعمالِ وظيفتهِ، أوْ يزعمُ أنهُ منْ أعمالِ وظيفتهِ، ولوْ كانَ هذا العملُ مشروعًا- يُعَدُّ مرتشيًا، ويعاقبُ بالسجنِ مدةً لا تتجاوزُ عشرَ سنواتٍ، وبغرامةٍ لا تزيدُ عنْ مليونِ ريالٍ، أوْ بإحدى هاتينِ العقوبتينِ.
ولا يؤثِّرُ في قيامِ الجريمةِ اتجاهُ قصدِ الموظفِ إلى عدمِ القيامِ بالعملِ الذي وعدَ بهِ»نظام مكافحة الرشوة السعودي ص (1)..
وقدْ توافقَ على هذا المعني وتجريمِ هذا الفعلِ العديدُ من تشريعاتِ الدولِ العربيةِ التي اطَّلعتُ عليها، وإنْ كانتْ قدْ تختلفُ في تفاصيلِ العقوباتِ والأحكامِينظر: قانون العقوبات المصري مادة (105)، قانون الجزاء العماني ص (231)، قانون عقوبات قطر ص(75)..