المطلبُ الثاني: مشروعيةُ قبولِ الهديةِ:
اتَّفقَ أهلُ العلمِ على مشروعيَّةِ قَبولِ الهدايا إذا لمْ يقُمْ مانعٌ شرعيٌّ، إلاَّ إنهمْ انقسمُوا في وجوبِ قَبولِ الهديَّةِ إلى قولينِ:
القولُ الأولُ: أنَّ قَبولَ الهديةِ مستحَبٌّ، مندوبٌ إليهِ، غيرُ واجبٍ. وهذا مذهبُ الجمهورِ مِنَ الحنفيَّةِينظر: بدائع الصنائع (6/117)، الدرُّ المختار (8/422).، والمالكيةِينظر: التمهيد لابن عبد البر (21/18).، والشافعيَّةِينظر: روضة الطالبين (5/365).، وروايةٌ في مذهبِ أحمدَينظر: الفروع (4/638)، الإنصاف (7/165)، مطالب أولي النهى (4/397)..
القولُ الثاني: أنَّ قَبولَ الهديَّةِ واجبٌ إذا كانتْ منْ غيرِ مسألةٍ، ولا إشرافِ نفسٍ. وهذا القولُ روايةٌ عنْ أحمدَينظر: الإنصاف (7/165).، وهوَ قولُ ابْنِ حزمٍ مِنَ الظاهريَّةِينظر: المحلَّى (9/152)..
أدلَّةُ القولِ الأولِ:
استدلَّ أصحابُ هذا القولِ بأدلَّةٍ مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ، أقتَصِرُ على الصريحِ منها.
الأولُ: قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُراعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ»رواه البخاري في كتاب الهبة-باب القليل من الهبة-، رقم (2568)، (2/227)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
وفي هذا بيانُ هَدْيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلممِنْ قَبولِ الهديَّةِ، سواءٌ عظُمَتْ أوْ حَقُرَتْ، فدلَّ ذلكَ على مشروعيتهِ واستحبابهِينظر: فتح الباري (4/199-200)..
الثاني: قولُ عائشةَ رضي الله عنها: «كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ، ويُثيبُ عَلَيْها»رواه البخاري في كتاب الهبة - باب المكافأة على الهبة -، رقم (2585)، (2/232)..
أدلةُ القولِ الثاني:
الأولُ: قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَرَدُّوا الْهَدِيَّةَ»رواه أحمد (1/404). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد (4/146):"رجال أحمد رجال الصحيح"، وقال عنه أحمد شاكر في تحقيق المسند (5/322)، رقم (3838):"إسناده صحيح".، فنهْيُهُ صلى الله عليه وسلمدالٌّ على وجوبِ قَبولِهاينظر: شرح مشكل الآثار (8/29)، روضة العقلاء لابن حبان ص (242)..
وقدْ نوقشَ هذا الاستدلالُ بأنَّ النهْيَ في هذا الحديثِ ليسَ للتحريمِ، بلْ هوَ للكراهةِ؛ لأنَّ مقصودَهُ حصولُ الأُلْفَةِ والمحبَّةِ،كما هوَ قولُ جمهورِ أهلِ العلمِينظر: التمهيد لابن عبد البر (1/273)..
ونوقشَ أيضًا بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أقرَّ حكيمَ بنَ حزامٍ على ألَّا يقبلَ من أحدٍ شيئًا، لمَّا قالَ: «وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُالرُّزْءُ: النَّقْصُ، فقوله: «لَا أَرْزَأ أَحَدًا) أي: لَا أَنْقُصُ.[النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (رزأ)، (2/82)].أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا»رواه البخاري في كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة ، رقم (1472)، (1/456)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب بيان أنَّ اليدَ العليا خيرٌ من اليد السُّفلى، رقم (1035)، (2/717)..
ففي هذا الحديثِ ((حجةٌ في جوازِ الردِ، وإنْ كانَ منْ غيرِ مسألةٍ، ولا إشرافٍ))مجموع الفتاوى (31/97)..
الثاني: نهيُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عنْ ردِّ بعضِ أنواعِ الهداياينظر: عارضة الأحوذي (10/236)، فتح الباري (5/209).؛ كقولهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ لَا تُرَدُ: الْوَسَائِدُ، وَالدُّهْنُ، وَاللَّبَنُ»رواه الترمذي في كتاب الأدب - باب ما جاء في كراهية رد الطيب -، رقم (2790)، (5/108). من حديث ابن عمر رضي الله عنه. وقال عنه الترمذي: "هذا حديث غريب"، وقال عنه في فتح الباري (5/209)، (إسناده حسن).، وما روى أنسٌ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ لا يَرُدُّ الطِّيبَرواه البخاري في كتاب الهبة - باب ما لا يُرَدُّ من الهدية -، رقم (2582)، (2/232)..
ونوقِشَ هذا بأنَّ نهيَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ردِّ المذكوراتِ لا يفيدُ تخصيصَ النهيِ العامِّ؛ لأنَّ ذكرَ بعضِ أفرادِ العامِّ بحكمٍ لا يخالفُ العامَّ لا يُعَدُّ تخصيصًا على الصحيحِينظر بحث هذه القاعدة: في المحصول في علم الأصول (3/129-131)، شرح الكوكب المنير (3/386-387)..
الثالثُ: ما روى عمرُ رضي الله عنه، قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاءَ، فأقولُ: أعطِهِ مَنْ هوَ أفقرُ إليهِ مِنِّي، فقالَ: «خُذْهُ؛ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍمُشْرِف: أي متطلع بتحقيق النظر والتعرض له.[ النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (شرف)، (2/462)].وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ»رواه البخاري في كتاب الزكاة-باب من أعطاه الله شيئًا من غير مسألة-، رقم (1473)، (1/56)، ومسلم في كتاب الزكاة - باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف-، رقم (1045)، (2/173)..
فهذا يفيدُ وجوبَ القبولِينظر: التمهيد لابن عبد البر (5/84)، المحلى (9/152-153)..
ونوقشَ بأنَّ هذا الأمرَ أمرُ نَدْبٍ لا أمرُ إيجابٍ، أوْ أنَّ هذا الحكمَ إنما هوَ في العطايا التي منْ بيتِ المالِينظر: مجموع الفتاوى (31/95)، فتح الباري (3/338).، أوْ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلمأمرهُ بأخذِ المالِ؛ لكونهِ عملًا فأعطاهُ عمالتهُينظر: مجموع الفتاوى (31/95)..
الترجيحُ:
الراجحُ أنَّ قَبولَ الهديَّةِ مستحَبٌّ استحبابًا مُؤكَّدًا؛ جمعًا بينَ الأدلةِ، ولما في الردِّ الذي ليسَ لهُ سببٌ ظاهرٌ منَ الإساءةِ للمُهْدِي، وقدْ قالَ اللهُ تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} الرحمن: 60.