بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ.
المقدمة
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدهُ، ونستعينهُ، ونستغفرهُ، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدهِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ، ومنْ يضللْ فلا هاديَ لهْ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهَ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أرسلهُ اللهُ بالهدى ودينِ الحقِ؛ ليظهرَهُ على الدينِ كلِّهِ, وكفى باللهِ شهيدًا, صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ وسلمَ تسليمًا.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ عمليةَ التنميةِ تُعدُّ منْ أكبرِ تحدياتِ دولِ العالمِ المعاصرِ، لها تعُدُّ الخططُ والدراساتُ وتبذلُ الجهودُ وترصدُ الميزانياتُ. ولا غَرْوَ فإنَّ سباقَ الدولِ اليومَ وتبوُّأها المكانةَ العليا في المدنيةِ الحضاريةِ إنَّما هوَ بقدرِ نجاحِها في إدارةِ التنميةِ والبناءِ، وبقدرِ ما تحققهُ منَ التقدمِ والنهضةِ والاستقرارِ السياسيِ والاقتصادِي.
ومما لا خلافَ عليهِ بينَ أهلِ الاختصاصِ أنَّ مِنْ أكبرِ معوقاتِ عمليةِ التنميةِ فشوَّ الفسادِ الإدارِيِ؛ وهوَ ما يعرفُ بإساءةِ استعمالِ السلطةِ لتحقيقِ مكاسبَ خاصةٍالفساد الإداري للجريش ص (9)..
وهذا الفسادُ يتجلى في صورٍ عديدةٍ؛ منها ما يتصلُ بإساءةِ استعمالِ السلطةِ لاكتسابِ المالِ. ومنْ أبرزِ ذلكَ ما يتلقاهُ كثيرٌ منْ منسوبي المؤسساتِ العامةِ أوِ الخاصةِ منْ عمالٍ وموظفينَ على اختلافِ طبقاتِهمُ الوظيفيةِ منْ الأموالِ والفوائدِ ، سواءٌ كانتْ بمسمَّى الهدايا أوْ الامتيازاتِ أوِ العمولاتِ أوِ الخدماتِ أوْ غيرِ ذلكَ منَ المسمياتِ، ولخطورةِ الموضوعِ وكونِها قضيةً عالميةً تشغلُ الدولَ والمجتمعاتِ فقدْ عُنيتْ بها التشريعاتُ والقوانينُ والأنظمةُ في الدولِ، بلْ تطوَّرَ إلى سَنِّ اتفاقيةٍ دوليةٍ لمكافحةِ الفسادِ عمومًا والفسادِ المتصلِ بالرِّشوة وأخذِ المالِ بسببِ الوظائفِ عامَ 2003ماتفاقية الأمم المتحدة لمـكافحة الفساد، الدورة الثامنة والخمسون، البند (108)، ص (7-8)..
فكانَ بحثُ أحكامِ هذا الموضوعِ منَ المهماتِ التي تحتاجُ إلى توضيحٍ وبيانِ ما يحلُ منها وما يحرمُ؛ لاسيَّما وأنَّ البحوثَ الشرعيةَ فيهِ قليلةٌ لا تتناسبُ معَ حجمِ الموضوعِ وخطورته على تنميةِ الدولِ واقتصادياتِها، ولا يلبي الحاجةَ إلى بيانِ جوانبِ الموضوعِ وتفصيلاتِهِ.
فهذا إسهامٌ متواضعٌ سألقي فيهِ بعضَ الضوءِ على هذا الموضوعِ، وقدْ حرصتُ على تحريرهِ والعنايةِ بالضوابطِ التي تميِّزُ ما يجوزُ قبولهُ منْ هذهِ الهدايا ونحوها مما لا يجوزُ، كما حرصتُ على التطبيقاتِ المعاصرةِ التي تنزلُ عليها تلكَ الضوابطُ؛ ليتبينَ حكمها وتُعرَفَ نظائرُها. وقدْ عنونت هذهِ الورقاتِ بـ: «هدايا العمالِ والموظفينَ وتطبيقاتها المعاصرةُ».
أهميةُ البحثِ:
تبرزُ أهميةُ البحثِ في هذا الموضوعِ منْ خلالِ ما يلي:
- أنّهُ إسهامٌ في معالجةِ صورةٍ منْ أهمِّ صورِ الفسادِ الإداري وأكثرِها انتشارًا، والذي تسعى الدولُ والحكوماتُ والمؤسساتُ الجادةُ إلى محاصرتهِ والقضاءِ عليهِ.
- إنَّ الأنظمةَ والقوانينَ المختلفةَ عُنِيَتْ بأنظمةٍ وتشريعاتٍ عديدةٍ لمعالجةِ هذا النوعِ من الفسادِ الإداريِ، وهذا البحثُ إسهامٌ لبيانِ التدابيرِ الشرعيةِ لمعالجةِ هذهِ القضيةِ.
- تجليةُ جوانبِ هذا الموضوعِ فيكونُ المسلمُ على درايةٍ بأحكامِ هدايا الموظفينَ ما يجوزُ منها وما لا يجوزُ.
- بيانُ شمولِ سموِّ الشريعةِ الإسلاميةِ المباركةِ وسعيِها فيما يعودُ على المجتمعِ الإنسانِي بالصلاحِ.
منهجُ البحثِ:
وقدْ راعيتُ في كتابةِ هذا البحثِ المنهجَ التاليَ:
- سأقتصرُ في مسائلِ البحثِ على ذكرِ أقوالِ المذاهبِ المشهورةِ. وقدْ أذكرُ قولَ بعضِ السلفِ، أوْ أنَّ هذا القولَ اختيارُ أحدِ أهلِ العلمِ منْ أهلِ التحقيقِ.
- عندَ ذكرِ القولِ في المسألةِ سأذكرُ أقوالَ المذاهبِ الأربعةِ مُرتبةً حسبَ تاريخها الزمنيِ، مبتدئًا بمذهبِ الحنفيةِ، ثمَّ المالكيةِ، ثمَّ الشافعيةِ، ثمَّ الحنابلةِ. فإنْ كانَ هذا القولُ لبعضِ أتباعِ هذهِ المذاهبِ، فإننيِ سأذكرُهُ بعدَ ذكرِ المذاهبِ.
- سأوثِّقُ كلَّ مذهبٍ منَ المذاهبِ بالإحالةِ إلى كتبهِ الأصيلةِ دونَ نقلِ كلامِهمْ، إلَّا إنْ دعتْ إلى ذلكَ حاجةٌ. كما سأبينُ ما ترجَّحَ لي ذاكرًا وجهَ الترجيحِ.
- سأخرِّجُ الأحاديثَ والآثارَ الواردةَ في البحثِ، فإنْ كانتْ في الصحيحينِ أوْ أحدهما لمْ أذكرْ غيرَهما. وإنْ كانتْ في الكتبِ الخمسةِ فسأخرجُها منها أوْ ممنْ أخرجهُ منها، وسأبينُ ما قالهُ أهلُ العلمِ فيها. فإنْ لمْ تكنْ في شيءٍ مما تقدمَ فسأخرجُها منْ كتبِ السنةِ حسبَ الطاقةِ معَ بيانِ درجتِها.
خطةُ البحثِ:
وقدْ جعلتُهُ في مقدِّمَةٍ، وعدةِ مباحثَ على النحوِ التالي:
المبحثُ الأولُ: حقيقةُ هدايا العمالِ والموظفينَ.. وفيهِ مطالبُ.
المبحثُ الثاني: الأصلُ في الهدايا.
المبحثُ الثالثُ: الأصلُ في هدايا العمالِ والموظفينَ.
المبحثُ الرابعُ: ضوابطُ جوازِ هدايا العمالِ والموظفينَ.
واللهَ أسألُ أنْ يسددَنيِ في القولِ والعملِ وأنْ ينفعَ بهذا البحثِ.