المُقَدِّم: أهلًا ومرحبًا بكم مسمعينا الكرام في هذه الحلقة المباشرة من برنامج "الدين والحياة".
مستمعينا الكرام ربنا -سبحانه وتعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- قد جاء عنهما الأمر بحفظ اللسان، هذا العضو السريع الحركة، أسرع الأعضاء حركةً وأنْشَطُها، لا يَكَّلُ ولا يَمَل من كثرة الاستعمال، قال -سبحانه وتعالى- في كتابه العزيز: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ق:18 .
فكلُّما خرج من هذا اللسان يُكْتَب ويُرْصَد ويُحْفَظ ويُجْمَع؛ ليُنْشَر يوم الدين.
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»صحيح البخاري (1618)، ومسلم (47) .
حديثنا مُستمعينا الكرام في هذه الحلقة عن:
"حِفْظِ اللِّسَان"
سنكون معكم بإذن الله -تعالى- في هذه الحلقة مع العديد من المحاور التي سوف تكون تحت هذا الموضوع الرئيس عن "حفظ اللسان"، وما ينبغي أن يكون مِنْ قِبَلِنا في هذا الموضوع المهم، خصوصًا في هذه الأزمنة التي تتطاير فيها الكلمات ويُحْجِم فيها بعض الناس عن الالتزام بمثل هذه الوصايا المهمة.
شيخ خالد عندما نتحدث عن "حفظ اللسان" ولَرُبما قد أتينا في وقتٍ سابق في الموضوعات ربما أحيانًا قد تتقاطع مع هذا الموضوع المُهم وتحت هذا الإطار الهام، لكن عندما يتعلق الأمر بحفظ اللسان نَطَّلِع إلى الكتاب والسُنَّة ونجد أن فيهما الكثير من النصوص التي وردت للتحذير أو في التحذير من إطلاق اللسان، إطلاق العنان لهذا اللسان، هذا العضو الذي أيضًا رُبما هو الذي كان يستعيذُ من شرِّه الصحابة والتابعون وخِيَاُر الأمة -رضي الله عنهم ورحمهم-.
لو في البداية تعطينا يا شيخ خالد ربما لمحة عن سبب هذا التشنيع على مسألة "إطلاق العنان لهذا اللسان"، وربما بعض الناس لا يُدْرِك عندما يتحدث لا يُدْرِك مصير أو عاقبة هذا الحديث الذي يتحدث به، ويظن أنه بمرور هذه الأيام أو بمرور السنوات ينقضي أو يُمْحَى هذا الكلام الذي أطلقه.
الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المُقَدِّم: وعليكم السلام ورحمة الله.
الشيخ: أسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يجعل هذا اللقاء نافعًا مباركًا.
المُقَدِّم: اللهم آمين.
الشيخ: وأن يرزقنا فيه القول السديد، والرأي الرشيد، والبيان المفيد.
وأسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يجعلني وإياكم ممن استعملهم في طاعته، ووقاهم معاصيه وسيئاته.
المُقَدِّم: اللهم آمين.
الشيخ: فيما يتعلق باللسان، اللسان له منزلة كبيرة في أعضاء الإنسان؛ لأن اللسان هو المُبِين عما في الجَنَان، وميَّز الله تعالى به الإنسان وامتنَّ عليه بما يَسَّرَهُ له من البيان، يقول الله -جلَّ في عُلاه-: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾الرحمن:1-4 .
فمِما امتنَّ الله تعالى به على الإنسان بعد نعمة القرآن -وهي من أعظم النعم- ذَكَر الله -جلَّ وعلا- نعمة البيان، وهي نعمة الحديث والكلام، وهو أن يُبِين الإنسان عما في ضميره، وما في خاطره، وما يجول في نفسه.
فمن أَجَلِّ النعم التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان هذا النُطْق الذي هو من مزايا الإنسان، ومما تميَّز به عن سائر الخلق.
الخلق بشتى صنوفهم لهم من البيان ما يقضون به حوائجهم؛ ولذلك ذكر الله تعالى فيما خَصَّ الله تعالى به داود -عليه السلام- أنه علَّمَه مَنْطِق الطير، فللطير منطق.
قال الله تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾النمل:16 .
لكن بيان الإنسان مختلف عن سائر ما يكون من أوجه البيان التي تكون عند سائر الحيوان أو سائر الخلق، إنه بيانٌ كاملٌ وافٍ يشمل مصالح المعاش، ومصالح المعاش: مصالح الدنيا، ومصالح الآخرة.
ولما كان البيان على هذه المنزلة؛ فإن الله تعالى ذكره مُمتنًّا به على الإنسان في هذا السياق: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾الرحمن:1-4 .
فذكره الله تعالى في سياق المِنن التي مَنَّ بها على الإنسان.
وكذلك قال -جلَّ وعلا- فيما امتنَّ به على الإنسان من المنن والعطايا: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾البلد:8-9 .
واللسان المذكور هنا أو الممتن به هنا هو اللسان الذي يحصل به البيان والإيضاح، وليس مجرد اللسان الذي يتحرك في الفم دون بيانٍ وإيضاح.
كذلك جاء في القرآن بيان خطورة اللسان بأوجه عديدة، فالله -عزَّ وجلَّ- ذكر في مُحْكَم كتابه أنه يرصد على الإنسان كل ما يكون من قوله وبيانه.
يقول الله تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ق:17-18 .
وقوله: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ﴾ق:18 أي: ما يصدر عنه من كلام قليل أو كثير.
بل حتى إن بعض أهل العلم قال: "يُكْتَبُ على الإنسان حتى الأنين"، فهو ليس قولًا، ولا بيانًا، ولكنه صوتٌ صادر.
فقال بعضهم: الأنين يُكْتَب على الإنسان؛ ولهذا الإمام أحمد -رحمه الله- لما قيل له: إنَّ طاووس يقول: "يُكْتَب على الإنسان حتى الأنين"، امتنع -رحمه الله- من الأنين من المرض الذي كان نزل به في موته أو في سياق موته -رحمه الله-؛ لأنه يُكْتَب عليه ويُسَّجَل فأحبَّ ألا يُسَّجَل في صحيفته ما قد يُؤاخذ به.[تفسير ابن كثير:7/399]
فالله تعالى يقول: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ق:18 .
وهذا التنبيه الإلهي أنه يُسَّجل على الإنسان كل ما يقوله وما يصدر عنه، وهو تسجيل لا يُفَوِّت شيئًا، ولا يغادر صغيرةً ولا كبيرة.
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾الزلزلة:7-8 .
يُبَيِّن أن هذه الإحاطة لا يفوت منها شيء، فينبغي للإنسان أن يكون رقيبًا على قوله، ويُؤْتَى الإنسان عندما يغيب عنه استحضار هذه الرقابة، عندما يَظُن أنَّ كلامه ليس من عمله فإنه لن يحفظ قوله؛ ولهذا لما كَتَبَه عمر بن عبد العزيز لبعض أصحابه قال:
"أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ رَضِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ"، ثم قال: "وَمَنْ عَدَّ كَلامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلامه إلا فيما يعنيه"الصمت لابن أبي الدنيا(35) .
"وَمَنْ عَدَّ كَلامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلامه إلا فيما يعنيه"، أي: أنَّ من اعتبر ما يصدر عنه وحَسِب ما يصدر عنه من جُملة ما يُحاسَب عليه ومما سيعرض عليه يوم القيامة فإنه سيقل كلامه؛ لأن الحساب شديد، وهو عسير، وهو دقيق، لا يُفَوِّت شيئًا صغيرًا كان أو كبيرًا، ولم يتكلم إلا فيما يعنيه.
"فَمَنْ عَدَّ كَلامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلامه إلا فيما يعنيه".
فعندما يغيب على الإنسان هذا المعنى فإنه لا يُبَالي، وقد يَتَوَرَّط بقول قولٍ رديءٍ وسيء؛ ولهذا يقول الله تعالى عن أولئك الذين أطلقوا ألسنتهم في الردى والسوء من الكفر والفسوق والعصيان وفاحش القول، من تزيين الباطل والكذب والبهتان وسائر ما يكون من سيء القول، قال: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾الزخرف:80 .
يكتبون ماذا؟ يكتبون ما يكون من أقوالهم سِرًّا وإعلانا.
وهذا التحذير الإلهي والتنبيه إلى أنه يُسَجَّل كل ما يكون من الإنسان هو لفت نظره إلى ضرورة العناية بما يصدر منه، فإنه سيسأل عن ذلك.
هذه الكتابة ليست كتابة للتدوين والتسجيل فقط، بل هي كتابة، وتدوين؛ لأجل الحساب؛ لذلك قال تعالى: ﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾الزخرف:19 .
أي: يُسْأَلون عن هذه الشهادة، عما صدر من أقوالهم، وعما صدر من شهاداتهم، وعما صدر من كلامهم، فإنه سيسأل عن ذلك.
﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾الزخرف:19 .
ويقول الله تعالى: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾آل عمران:181 .
ويوم القيامة تشهد على الإنسان أعضاؤه، وإنَّ من أول ما يشهد على الإنسان من الأعضاء فيما ذكره الله اللسانَ، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾النور:24
فذكر اللسان في أول الشهود.
﴿وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾النور:24
ولهذا من الضروري أن يعتني الإنسان بلفظه.
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لمعاذ عندما قال: وَإِنَّا لَمُحَاسَبُون بما نَقُول؟ قَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ!»، يعني كيف يخطر عليك؟!
«ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»سنن الترمذي (2616) وقال حديث حسن صحيح .
فحصائد اللسان هي التي تورد الناس المهالك؛ ولذلك جاء في حديث سهل بن سعد: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ يدخل الْجَنَّةَ»، أو «أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ»صحيح البخاري (6474) .
وهذا يدل على: أنَّ الإنسان ينبغي له أن يحفظ قوله عن الرَّدَى، أنَّ يحفظ قوله عما يسوؤه يوم القيامة.
وأحيانًا أخي عبد الله وأيها الإخوة والأخوات يتكلم الإنسان بكلام لكثرة ما يصدر عنه لا يُبالي، فتجده يتوسع في الكلمات، ويتوسع في التعليقات، ويتكلم في الخاص والعام، يتكلم في الغائبين، وقد يبرر لنفسه ألوانًا من التبرير، وقد يتكلم في دين الله بما ليس له فيه علم، في مثلًا بيان أحكام شرعية أو ما أشبه ذلك، أو يتكلم في قضايا عامة ومسائل تتعلق بأمر البلد، أو باقتصادها، أو بما إلى ذلك من غير روِيَّة.
قد يتكلم في أشخاص بما لم يُحط به علمًا، أو بما يَحْرُم عليه أن يتكلم به حتى لو أحاط به علمًا، فلا يُبالي بالكلام ويسترسل في البيان فيقع فيما ذكره سيد الخلق -صلوات الله وسلامه عليه- فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة قال: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا -أي: لا يتبين بها ولا يتهم، يظن أنها كلمة عادية- يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»صحيح البخاري (6478) .
وفي الحديث الآخر عند مسلم قال: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا» يعني ما يتأملها، ولا يقف عندها للمحاسبة -«يهْوي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ و المَغْرِب»صحيح البخاري (6477)، ومسلم (2988) .
لهذا من الضروري أن يقف الإنسان عند الكلام وأن يُحاسب نفسه على ما يكون من الكلام.
وقد يبدو للإنسان أنها كلمة ليست ذات بال ولا تأثير لها، أو أنها لا تؤثِّر هذا التأثير الذي قد يُفْسِد عليه كثيرًا من أمر دينه ودنياه والأمر على خلاف ذلك.
وإليك هذا النموذج النبوي في بيان خطورة الكلام فيما يتعلق بالحديث عن الغائبين: عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن إحدى زوجاته وهي صفية: "حَسْبُك من صفية أنها" وقالت بيدها، أشارت بيدها لم تنطق إنما أشارت بيدها، يعني: يكفيك من صفية أنها كذا، وأشارت بيدها تريد أنها قصيرة -رضي الله تعالى عن الجميع-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعليقه على ما صدر من عائشة من هذا القول الذي يكون بين الضرائر، قال: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ»سنن أبي داود (4875)، وصححه الألباني .
وكم من كلامٍ يقوله الناس في حق الغائبين هو أخطر من هذا الذي قالته عائشة.
فإذا كانت هذه الكلمة التي هي توصيف بواقع لكن ساقه المتكلم به في مساق التَنَّقُص على هذا النحو من المنزلة، «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ»، فكيف بالذين يتكلمون بما لا يعلمون، ويفترون على الخلق ما لا يصدر منهم، وينسبون إليهم ما هم منهم بُرَآَء؟! وقد يتكلمون في وقائع حقيقة لكنها مما يجب السكوت عنه والصمت عنه وستره ولا يجوز الحديث عنه، فهذا كله أخطر من هذا الذي وصفه النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الوصف: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ».
فلذلك جدير بنا أيها الإخوة والأخوات أن نكون على ألسنتنا رُقَباء، وأن نتنبَّه لما يصدر منها، وصدق ابن مسعود عندما قال: "ليس ثمَّة شيء أحق بطول السجن من اللسان"جامع معمر بن راشد (19528)، وشعب الإيمان (4649) .
ما هناك شيء أحق بأن يُطال حبسه ويُمْسَك مُددًا متطاولة من اللسان؛ لأنه إذا أُطْلِق وقع فيما قال عمر -رضي الله تعالى عنه-: "مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ كَثُرَت ذنوبه، ومن كَثُرَت ذنوبه فالنار أَوْلَى به"الحلم لابن أبي الدنيا (126)، وشعب الإيمان (4640) .
هذا التسلسل الواقع، عندما تُكْثِر من الكلام سيكثر السقط، وعندما يكثر السقط تكثر الذنوب، وعندما تكثر الذنوب فالنار هي المأوى والمآل والمصير فالنار أولى به؛ لذلك ينبغي أن نحتاط في أمر اللسان، وأن نعي أن هذا البيان الذي ذكره القرآن، وذكرته السُنَّة، وتناقلته أو تواردت عليه كلمات الأئمة وسلف الأمة، إنما هو لبيان الخطورة أمرٍ خطير، يُدرك الناس عواقبه وعظيم شؤمه، إذا أُطْلِق وأُهْمِل.
المقدم: جزاكم الله.
متواصلين معكم مستمعينا الكرام في هذا الحديث الشيِّق والماتع مع فضيلة الشيخ الدكتور خالد المُصْلِح، وحديثنا عن: "حفظ اللسان" في برنامج "الدين والحياة"، والذي يتهادى إلى أسماعكم عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة.
أرقام التواصل لمن أراد مشاركتنا بمداخلة أو بسؤال حول هذا الموضوع:
الرقم 0126477117 و 0126493028
أما الرسائل النصية الواتس أب فتكون على الرقم: 0582824040
أو عبر هاشتاج البرنامج "الدين والحياة" وحساب الإذاعة على تويتر "نداء الإسلام".
شيخ خالد تحدثنا في هذه المقدمة عن مسألة (حفظ اللسان) وأنه خير ما ينبغي للمسلم أن يتجنب الحديث فيما لا يعنيه، لكن ربما بعض الناس يحصر هذا الأمر وهذا الوعيد الشديد الوارد في مسألة "إطلاق العنان لهذا اللسان" للحديث في كل فيما يعنيه وما لا يعنيه، فيما ينفع وما يضره، يحصره في صورةٍ واحدة ألا وهي: مسألة الكلام الذي يخرج ويصدر عن اللسان فقط، دون أن يستحضر بقية الصورة التي يمكن ربما أن تدخل في هذا الإطار الذي حذَّرت منه الشريعة الإسلامية.
هل هناك شيخ خالد أمور يُحَذَّر منها ضمن هذا الإطار الحديث عن ضرورة حفظ اللسان في صورٍ أخرى ربما قد لا تخطر على بال كثير من الناس؟
الشيخ: يعني يا أخي هو الكلام ليس فقط على اللسان يعني بالحصر، اللسان هو وسيلة بيان؛ ولذلك وسيلة البيان أخذت هذا الحجم من المكانة والخطورة وليس قصرًا لها على هذه الصورة، بل ما يكون من الكتابة، وما يكون من حركة البنان بالبيان، لا تقل خطورة عن اللسان؛ ولذلك ينبغي للإنسان أن يحفظ بنانه لاسيما ونحن اليوم في عالم التواصل، وكما تعرف التواصل الاجتماعي وما أشبه ذلك، الكتابة حاضرة وبقوة في حياة الناس ومعاشهم وتعاملاتهم، فهذا الذي على سبيل المثال يكتب تغريدةً أو يُرْسل عَبْر وسائل التواصل هذه الرسائل، أو عَبْر ما يكون من النقل المرئي الذي ينقل فيه كلامًا أو اللفظ الصوتي كل هذه في مساقٍ واحد، كلها تجري في مجرى واحد في وجوب صيانة أن يصون الإنسان نفسه عن أن يقع في زورٍ من قولٍ أو عمل، سواءً كان القول ملفوظًا أو كان القول مكتوبًا؛ ولذلك الله -عز وجلَّ- لم يَقْصر التهديد في حق المُسيئين على المتحدثين فقط، بل حتى في أوجه التعبير الأخرى جعل فيها الوعيد، فالله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾البقرة:79 ، يقول: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾البقرة:79
هذا الوعيد في حق من كتب بيده قولًا رديئًا، فالوعيد الوارد في حق اللسان ليس قصرًا له؛ وإنما لأنه الوسيلة الأغلب في الاستعمال، لكن إذا أبان ما في ضميره بكتابة أو بإشارة كما جاء في حديث عائشة: "حسبك من صفية أنها كذا"سنن الترمذي (2553)، وقال: هذا حديث حسن صحيح وأشارت بيدها تشير أنها قصيرة فإن المعنى واحد، ولهذا بعض الناس قد لا يأتي في باله ما جاء من النصوص في وجوب حفظ اللسان ما يتعلق بالكتابة، فتجده يكتب عبر وسائل التواصل فيما يتعلق بنشر الشائعات، أو بما يتعلق بانتهاك الأعراض، أو بما يتعلق بالمُحرَّمات من القول البذيء.
المقدم: أو إثارة الفتنة يا شيخ.
الشيخ: أو ما يتعلق بالفتن، والشرور، وترويج الباطل والزور، وما إلى ذلك من أوجه الشر والفساد، ويظن أن هذا قد لا يبلغ هذه المرتبة التي جاءت في شأن اللسان.
المقدم: لو كان تحت اسم مستعار يا شيخ خالد؟
الشيخ: لا فرق، المستعار تتخفى به على الناس لكنك لا تخفى به عن الله -عزَّ وجلَّ-، كما قال الله -جلَّ وعلا- في مُحْكَّم كتابه: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾النساء:108
وهذا هو حال أصحاب الأسماء المستعارة والمجهولة، أو حتى الأرقام أحيانًا يأتون بأرقام عبر وسائل التواصل مثلًا واتس أب وما إلى ذلك بأرقام مجهولة لا تُعْلم إما من طريق الأرقام الخفية، أو بأرقام مستعارة، أو بأرقام لغير أهلها يريدون أن يستخفوا من الناس بهذا التمويه، أو ينسبون بأسماء غير حقيقية، لكن هؤلاء إن خفوا عن الناس فإنهم لا يخفون عن الله -عزَّ وجلَّ-.
﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾النساء:108
بل من الضروري أن يتقي الإنسان ربه، وأن يعرف أن الله بالمرصاد، وأنه لا يخفى عليه شيءٌ من شأن العباد، بل الدقيق والجليل والصغير والكبير كله في كتاب لا يَضِل ربي ولا يَنْسى.
المقدم: أحسن الله إليكم.
متواصلين معكم مستمعينا الكرام في هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم "الدين والحياة"، وحديثنا أيضًا مستمر حول هذا الموضوع المهم عن "حفظ اللسان".
شاركونا بالاتصال على الرقم: 0126477117 و0126493028
رقم الواتس أب: 0582824040
هاشتاج البرنامج "الدين والحياة"، أو حساب الإذاعة على تويتر نداء الإسلام.
نأخذ الاتصال الأول من عبد العزيز الشريف، تفضل يا عبد العزيز.
المتصل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: حياكم الله يا أستاذ عبد الله، كيف حالك؟
المقدم: أهلًا وسهلًا، حياك الله، تفضل.
المتصل: أحييك وأحيي فضيلة الشيخ، وبارك الله فيكم جميعًا.
المقدم: مرحبًا.
المتصل: فضيلة الشيخ بارك الله فيك، الآن النبي -صلى الله عليه وسلم- حذَّر من خُطَباء الفتنة، الذين يظهرون في الفتن فيتكلمون وينطقون بهذا اللسان الذي يجب أن يحفظوه في هذا الوقت العصيب ألا وهو وقت الفتن، وقد حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، فما هو توجيهكم لمثل هؤلاء الخطباء الذين نجدهم بين الفينة والأخرى يحاولون مسَّ هذا الاستقرار، ودرء الفتنة، ودرء الشر فما توجيهك؟
السؤال الثاني: النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنما أخشى عليكم كُلَّ مُنَافِقٍ عَلِيم اللِّسَانِ»مسند أحمد (143)، وقال محققو المسند: إسناده قوي .
والله يقول: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾المنافقون:4 .
ما تفسير هذه الآية؟ وما واقعها في واقعنا المعاصر في هذا اليوم؟
الأمر الثالث والأخير: بعض الناس يقول: أنا أكتب، والكتابة أهون من النُطْق. فهل الكتابة أهون من النطق، أو أنها مثل اللسان سواءً بسواء؟
وجزاكم الله كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
شكرًا لك عبد العزيز.
الاتصال الثاني من عبد العزيز الزيد، تفضل يا عبد العزيز.
المتصل: ألو، سلام عليكم.
المقدم: وعليكم السلام.
تسمعنا من الهاتف. تخفض صوت المذياع.
المتصل: مساك الله بالخير يا شيخ عبد الله، وأمسي عليك وأمسي على الشيخ.
المتصل: أهلًا وسهلًا بأخينا عبد العزيز العبيد، حياك الله.
المتصل: الله يسعدك، شيخ في الوقت الحالي أو من بعض المستمعات الآن يا شيخ وكل اللي لاحظها لما تكون أنك تتكلم أو تغتاب يحوطلك كده على بلاطة أو بالعامية في صدر المجلس، ولما تدافع عنهم ما تدافع قالوا: توكل على الله ما عدنا الكلام هذا، وهذا المجتمع بعضهم أنا ما أقول الأغلبية أقول بعض المجتمعات، وأنا أبغى توجيها من الشيخ خاصة فيه كبار وصغار في المجتمع.
المُقَدِّم: طيب أبشر إن شاء الله، في سؤال ثاني يا عبد العزيز؟
المتصل: الله يعطيكم العافية، شاكر لكم.
المقدم: يا مرحبا. أهلًا وسهلًا.
طيب شيخ خالد ربما سؤال الأخ عبد العزيز كان حول لا نتحدث فقط عن الخطباء، وهم -إن شاء الله- في مكانة الثقة وفي مكان القدوة، لكن ربما لما توسعنا في هذا الحديث ربما نأتي إلى من يؤثرون في المجتمع أو من لهم تأثير، سواءً بأثير سواءً على الواقع، أو في الشأن الافتراضي، أو في المجال الافتراضي، كالحسابات التي ربما يزيد أصحابها في متابعيه بالملايين والأعداد الغفيرة، دور هؤلاء في مسألة درء الفتنة والتحذير في نفس الوقت تحذير أفراد المجتمع من الإصغاء لأمثال هؤلاء، وعدم إعطائهم الفرصة للتأثير على هذا المجتمع، وبث سمومهم عبر المنابر المختلفة.
الشيخ: أخي الكريم! الله أمر هذه الأُمَّة بضرورة العناية بالقول على وجه العموم، وفي أزمنة الفتن، وفي موقع الارتباك يتأكد الأمر؛ لأجل ألا يقع الإنسان فيما يعود على نفسه وعلى أمته بالسوء والشر.
يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾النساء:83
هذا حال أهل النفاق الذين يسيرون بالشائعات وينشرون كل ما يفضي إلى تشتيت أهل الإسلام، وإلى تفريق جمعهم، وإلى ضعضعة وحدتهم، وإلى النيل منهم بكل سبيل. ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾النساء:83
دون روِّية، ودون توصل لمواقع المصلحة والنفع، وإنما غرضهم وهمُّهُم هو إما السبق الإعلامي.
المقدم: زيادة المتابعين.
الشيخ: وإما الزيادة فيمن يسمع إليهم، وأنهم يأتون بأخبار، وقد يكون لهم أهداف رديئة من إضعاف أهل الإسلام وتفريقهم.
والواجب: أن ما ذكره الله تعالى بقوله: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾النساء:83 .
فجعل هذه الإشاعات والسَيْر في سياقها هو مما يُذمُّ عليه صاحبه؛ لأن الله -عزَّ وجلَّ- جعل ذلك من اتباع الشيطان.
فالجدير بالمؤمن أن يحفظ لسانه عن أن يتكلم بكل ما يسمع، وأن يتحرى، جدير بالمؤمن أن يتحرى فيما ينقله وفيما يقوله؛ لأجل ألا يتسبب في شر على نفسه أو على أمته.
ولا يُعْذَر الإنسان أن يقول: والله الناس يقولون كذا، أو الناس يتكلمون بكذا، فقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قيل وقال، كما جاء ذلك فيما رواه المغيرة بن شعبة في الصحيح: "أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يَنْهَى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".[أخرجه البخاري في صحيحه:ح1477]
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كفى بالمرء كَذِبًا أن يُحَدِّث بكل ما سَمِع»أخرجه مسلم في مقدمة الصحيح (1/10)، وأبو داود (4992)، وصححه الألباني .
وهذا يُؤكِّد ضرورة التمييز فيما ينقله الإنسان، وألا يكون إمَّعةً ليس له هم إلا النقل دون روِّية ولا تمييز، بل ينبغي له إذا وصله من العلم حتى لو كان مُتَحققًا من صحته أن يتأمل في المصلحة من نشره، لاسيما ونحن أيها الإخوة والأخوات نعيش في زمن الأخطار تحيط بنا من كل جانب، والأخطار والمتربصون بهذه الأمة كُثُر، والأعداء يتصيدون كل شاردة وواردة؛ لينالوا بها من الأمة، ويصيبوا بها شيئًا من أهدافهم وأغراضهم التي يخططون لها ويسعون إليها.
«كفى بالمرء إثْمًا أن يُحَدِث بكل ما سَمِع».
فلا تكن أُذُنًا تنقل كل ما يصل إليها دون روِّية ولا نظر، بل كن مُميزًا بصيرًا فيما تتكلم، بصيرًا فيما تسكت عنه، ولتتق الله تعالى، ولتحذر من أن تكون سببًا لشرٍّ ينال أهل الإسلام، سواءٌ كان ذلك على وجه العموم أو كان ذلك على وجه الانفراد، بمعنى أنه كان فيما يتعلق بالمصالح العامة، أو كان ذلك فيما يتعلق بالمصالح الخاصة والأمور الخاصة، فينبغي أن يعتني الإنسان بكف لسانه عن أن يُحَدِّث بكل ما سمع، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أن عَدَد ما كان عليك كافيًا من الإثم إذا وقع فيه الإنسان «كفى بالمرء كَذِبًا أن يُحَدِث بكل ما سَمِع»، ومعنى هذا: أنه يكفيه من الكذب الذي يُحاسَب عليه ويلحقه به وزر وإثم أن ينقل كل ما سمع.
فينبغي له أن يتحرى، وأن يقف عند ما ينقل، وألا ينقل شيئًا إلا وهو على يقينٍ بصحته، وتكون المصلحة مقتضية لبيانه وإيضاحه.
المقدم: نعم، قد يكون الكلام أحيانًا صحيحًا ومتثبَّتًا يعني هذا الشخص ربما يتثبَّت قبل أن ينقل، لكن في الجانب الآخر ربما هناك شيخ خالد ضوابط نضعها فيما يتعلق بحفظ اللسان، ربما بعض الناس يقول: أنا تأكدت من هذا الحديث، أو هذا الكلام، أو هذا الخبر الذي أنقله، لكن في نفس الوقت قد لا يتوافق نقل هذا الخبر أو إشاعته لا يتوافق مع المصلحة العامة مثلًا، أو ربما يُحْدِثُ فتنةً أو غير ذلك، هل يكفي فقط بمجرد تثَبُّت الإنسان من صحة ما ينقل أن ينقل مباشرةً، أو أن هناك أمورًا ينبغي مراعاتها؟
الشيخ: لا بالتأكيد ليس الشأن في أن تكون المعلومة صحيحة، أحيانًا تكون المعلومة صحيحة وفي غاية الدقة والثقة، لكن ليس من المصلحة نشرها، ليس من المصلحة نشرها بل الواجب كتمها، وإذا كان هذا في علوم الشريعة فكيف بالأخبار؟!
هذا أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- في صحيح البخاري في "كتاب العلم" "باب حفظ العلم" يقول -رضي الله تعالى عنه-: "حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وِعَاءَيْنِ -يعني نوعين من العلم وصِنْفَيْنِ من المعرفة- فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ -أي: نشرته، وأذعته بين الناس-، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا البلعوم"صحيح البخاري (120) .
ويقصد بذلك: أنه ترتب عليه من الفِتَن، والشرور، والمفاسد، ما يكون سببًا لوقوع القتل بين الناس، والفساد بين الناس؛ فأمسك عنه -رضي الله تعالى عنه- ولم يُذِعْه، ولم يبَيِّنه، وليس هذا من كتمان العلم الذي ذمَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل هذا من الفقه في البيان والإيضاح، كما قال عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: "مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ؛ إِلا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ"مقدمة صحيح مسلم (1/11) .
فينبغي للإنسان أن يتروَّى وأن يكون على بصيرة فيما يتكلم به، فلا تكن ناقلًا لكل ما يبْلُغُك، ولا تكن سريعًا في إشاعة الأخبار والأقوال، لاسيما الآن يا أخي نحن في محيط ملتهب فنحن في حربٍ جنوب البلاد، وكذلك الأخطار تُحيط بنا من جهاتٍ عديدة، وسائل الإعلام تصب كمًّا هائلًا من الكذب، والتزوير، والتشويه لواقع بلادنا ولمكتسباتنا.
أعداؤها يتميزون غيظًا مما ننعم به من أُلْفَةٍ واجتماع ووحدة وائتلاف؛ ولذلك يحاولون أن ينفذوا من كل سبيل وطريق؛ للنيل من هذه المكتسبات، فينبغي لنا أن نحرص على قطع الطريق على كل هؤلاء مهما رفعوا من شعار، بعضهم يرفع ذلك بشعار نصحٍ، وبعضهم يرفع ذلك بشعار تفصيل الدين، وبعضهم يرفع ذلك على وجه التحذير من أخطاء مُحْدِقَة، ويأتي هؤلاء بمبررات عديدة ليسوغوا ما ينشرونه ويبثونه من كلام؛ لأجل تسويق ما يشيعونه من رديء القول وفاسده، سواءً كان ذلك كذبًا وتزويرًا، أو كان ذلك كلامًا واقعًا لكنه غُيِّر وصُرِف إلى غير وجهه، أو كان ذلك مما يترتب على إشاعته مفاسد، ولو كان حقًّا كأن يؤدي إلى أخطار أمنِيَّة أو أخطار اقتصادية أو أخطار مجتمعية، كل هذا ينبغي أن يكون حاضرًا في ذهن الإنسان، وألا يكون فتنةً للناس فيما يُبِينُهُ ويوضحه.
وبعض الناس يا أخي يشارك من خلال إعادة التغريد، من خلال إعادة النشر في مثل وسائل التواصل، وكل هذا يكون له نصيب من الإثم؛ ولهذا جاء فيما يتعلق بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن من نَقَلَ قولا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يَرَى أنه كذب فهو أحد الكاذبين، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينِ»مسند أحمد (13240) وقال محققو المسند: حديث صحيح .
فلا يُغْني أن يقول الإنسان: والله أنا ناقل، أنت ناقل لكنك تتحمل مسؤولية النقل إذا كان هذا النقل يترتب عليه نسبة للشريعة غلط، أو يترتب عليه نسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليست بصحيحة، أو يترتب عليه نسبة لولاة الأمر، أو للدُول، أو للحكومات، أو للأفراد، أو للمجتمع، ما يكون فسادًا؛ ولهذا لا يقول الإنسان: والله أنا لم أقل هذا الكلام إنما أنا نقلته، وقد يقول بعضهم: "ناقل الكُفْر ليس بكافر"، لا هذا ليس بصحيح "ناقل الكفر ليس بكافر" إذا كان النقل تقتضيه المصلحة للبيان والإيضاح، أما أن ينقل الإنسان زورًا وشرًّا وفسادًا وبُهتانًا ثم يقول: أنا لست مسئولًا إنما أنا ناقل؛ يقال له: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينِ».
واجبٌ على المؤمن أن يحفظ لسانه، وأن يتحرى في قوله، فإنه ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ق:18 .
المقدم: يا شيخ خالد انتشرت يعني في فترة سابقة وُسوم أو وَسْم يعني انتشر، وعنوان يطرح فيه من يُغَرِّد فيه أو يُشارك فيه بعض الأسئلة التي للأسف تحمل التشكيك في الثوابت، وهذا الوَسْم عنوانه يعني يقول لك: "لا أَحَد يكَفِّرني"، ويضع ما يشاء من أسئلة للأسف أحيانًا يا شيخ تقدح في أصول لا ينبغي أن يتناقش فيها اثنان، صراحةً يعني، هل طرح مثل هذه الأمور يا شيخ تكون أحيانًا من باب قد يكون من باب أن الإنسان ربما يطرحها بشكل بريء، أو بما لا يتيح له الأمر مهما كان هذا السؤال كنوع من البحث عن الحقيقة أو غير ذلك لا يُتيح له، أو لا يجيز، أو لا يسوغ له، أن ينقل مثل هذه أو يكتب هذه الكلمات؟
الشيخ: أخي ليس ثمَّة شُبهة ليس عنها جواب، كل الشبه الواردة على قلوب الناس ثمَّة لها جواب عنها يمكن أن يدركه الإنسان من الطرق التي يصل بها إلى ما يبتغي من كشف الشبهة وإزالة الملتبس.
يعني فالذي يأتي ويبُث شكوكه على الناس، وينشر مرض قلبه على الخلق، ويقول: لا تُكَفِّروني، أو يأتي بأي لفظ آخر يبيِّن أنه إنما هو طالب الهداية والحق، ويرغب في حل إشكال وقع عنده، هؤلاء يُقال لهم: الله -جلَّ وعلا- قد حذَّر منكم في كتابه، وأنا أحذِّر كل مؤمن ومؤمنة أن يستمع لهؤلاء، إذا كان هؤلاء مرضى فينبغي الفرار منهم لا الإقبال عليهم والمشاركة في منتدياتهم، ولا في أوسمتهم، ولا في تغريداتهم، فإن الله تعالى قال في مُحْكمِ كتابه: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾آل عمران:7 ، يعني: فيها عدم وضوح.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾آل عمران:7 ، وهؤلاء هم الذين ينشرون هذه التشكيكات والتشبيهات.
﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾آل عمران:7 ، ليش؟
﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾آل عمران:7
هؤلاء قال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما نزلت هذه الآية قال: «فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ -أي ذكرهم الله في هذه الآية- فَاحْذَرُوهُمْ»صحيح البخاري (4547)، ومسلم (2665) .
هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «فَاحْذَرُوهُمْ».
فيجب على المؤمن أن يحذر هؤلاء الذين يأتون بمثل هذه المداخل، التي يتظاهرون فيها بطلب الهداية، وبأنهم يحتاجون إلى بيان وإيضاح.
يا أخي الآن أنا أسألُك: من كان عنده مرض ومرض بدني ويشكوا من آلام، أيأتي إلى تويتر، أو إلى فيسبوك، أو إلى الواتس أب، وينشر مرضه وأنا أعاني من كذا وكذا وكذا على عامة الناس ويطلب العلاج؟ أم أنه يذهب إلى المشافي ويبذل المال القليل والكثير؛ لأجل أن يخرج من هذا المأزق الذي أصابه من مرض؟
أكيد أنه سيطلب أفضل المشافي، وأفضل المستشفيات؛ لعلاج المرض البدني، يا أخي المرض القلبي أخطر بكثير من المرض البدني.
المرض البدني بمجرد أن يُؤْذَى الإنسان فيما يصيبه من مرض فيُؤجر إن صبر، وقد يرفع الله تعالى به درجته فيما نزل به من بلاء، لكن المرض القلبي خطورته أنه يُفسد الدنيا والآخرة، وأنه يعمي البصيرة، وأنه سبب لتعاسة الدارين، فكيف يرضى في مرضه القلبي بأن يكتفي منه بالبث على الخلق؟! فهذا مشاركٌ لشكوكه.
وأنا أحذِّر إخواني وأخواتي وأبنائي وبناتي من أن يركنوا إلى هؤلاء، أو إلى مواقعهم، أو إلى تشكيكاتهم، الله سلمكم فاحمدوا الله على السلامة في قلوبكم، ولا تستمعوا لهؤلاء المرضى الذين يبتغون الفتنة ويتبعون ما تشابه منه، في قلوبهم زيغ ومرض ويعملون على إشاعته ونشره.
المقدم: أحسن الله إليكم.
ربما السؤال الثاني والثالث للأخ عبد العزيز أتينا عليه عندما ساويتم الأخطار الكتابة بمسألة أو أن الكتابة مشمولة أيضًا بضرورة حفظ اللسان في نفس إطار حديثنا وسياقه.
لكن سؤال الأخ عبد العزيز العبيد ولو في أقل من دقيقة يا شيخ، مسألة تصدير بعض الناس الذين يشتهرون بمسألة أنهم يغتابون ويُضْحِكُون الناس بما يُسخِط الله -عزَّ وجلَّ-، يصدروهم في المجالس ولربما هذه المجالس كذلك أيضًا تضم الكبار والصغار، فيكون هناك من الإثم العظيم؟
الشيخ: يعني يضحِّك الناس، وإقبالهم على من يضحكم بالكذب والزور والشر ليس مسوغًا لقبول مثل هذه الانحرافات، بل ينبغي الحذر من مسلك السوء، والبُعد عن طرق الردى، ويعلم أن هذا الذي يُضْحِك الناس بالزور والباطل ويُصَدَّر في المجالس إنما يقتطع من حسناته، فقد جاء في ما رواه بَهْزُ بن حكيم، عن أبيه، عن جده: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ويلٌ للذي يحدِّثُ بالحديثِ ليُضحكَ بهِ القومَ فيكذِبُ»سنن الترمذي (2315)، وقال: هذا حديث حسن .
«ويلٌ للذي يحدِّثُ بالحديثِ»: يتكلم بالكلام.
«ليُضحكَ بهِ القومَ»: هذا غَرَضُه.
المقدِّم: كذب، أو غيبة، أو. نعم.
الشيخ: «فيكذِبُ»، أي: يأتي بكذب أو بغير ذلك مما يقصد به إدخال السرور على الناس بالزور.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ويلٌ لهُ، ويلٌ لهُ».
فيكرر النبي -صلى الله عليه وسلم- الوعيد على هذا، فجدير بالمؤمن أن يحفظ نفسه عن مثل هذا، وأن يُبْعِد عن أن يتكلم بزورٍ أو باطل فإن ذلك مما يعود شؤمه عليه.
المقدِّم: بالتأكيد أيضًا مسألة الأمر بالمعروف أو الحديث بالكلام الطيب لا يدخل ضمن مسألة حفظ اللسان؛ لأن بعض الناس ربما يتعذَّر بمسألة حفظ اللسان ويقول: لا أتحدث أحفظ لساني، وبالتالي هو يُحْجِم عما أمر الله -عزَّ وجلَّ- به في الحديث، وهذا يمكن ربما أيضًا نُحذِّر منه لعله يا شيخ خالد.
الشيخ: بالتأكيد يا أخي، ولاشك أن هذا ليس مقصوده، حفظ اللسان عما يوقع الإنسان في الردى، أما حفظ اللسان عما يجب عليه فهذا إضاعة له؛ لأنه كالذي يقول: أنا أحفظ لساني ولا أقرأ الفاتحة في الصلاة، لا تصح صلاته، «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»صحيح البخاري (756)، ومسلم (394) .
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكراً فَلْيغيِّرْهُ بِيَدهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطعْ فبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبقَلبهِ وَذَلَكَ أَضْعَفُ الإِيمانِ»صحيح مسلم (49) .
المقدم: ربما يشترك الذي يحفظ لسانه عما أمر الله وكذلك أيضًا الذي يُطْلِق لسانه فيما نهى الله -سبحانه وتعالى-.
الشيخ: ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيَقُل خيرًا»سبق ، فقول الخير من مقتضيات الإيمان.
«أو لِيَصْمُت»، كالإمساك عن موارد الردى من الإيمان أيضًا.
المقدم: أحسن الله إليكم.
شكر الله لكم فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد بن عبد الله المُصْلِح أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة القصيم، والمُشرف العام على فرع الأسئلة العامة للبحوث العلمية والإفتاء في منطقة القصيم.
شكر الله لكم، وبارك الله فيكم وفي علمكم يا شيخ خالد.