الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فِيهِ، حَمْدًا يُرْضِيهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَفِيِّهُ وَخَلِيلُهُ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَفِي هَذا المجْلِسِ - أَيُّها الإِخْوَةُ - نَتَحَدَّثُ عَنْ آيَةِ ذَكَرَها اللهُ تَعالَى في كِتابِهِ فِيها عِلاجُ كَثِيرٍ مِنَ الانْحِرافاتِ الَّتِي وَقَعَ فِيها أَصْحابُ الأَهْواءِ وَأَهْلُ الانْحِرافِ عَلَى شَتَّى صُنُوفِهِمْ، وَتَلَوُّنِ وَتَنوُّعِ طَرائِقِهِمْ، يَقُولُ اللهُ جَلَّ وَعَلا:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فُصِّلَتْ: 40 .
ثُمَّ يَقُولُ جَلَّ في عُلاهُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ فُصِّلَتْ: 41-42.
اللهُ جَلَّ وَعَلا في هَذِهِ الآياتِ أَخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ ضَلُّوا في كِتابِهِ، فَأَلْحَدُوا في آياتِهِ، وَكانَ ذَلِكَ سَبَبًا لانْحِرافِهِمْ في الاعْتِقادِ وَالعَمَلِ، فَإِنَّ الإِلْحادَ - وَهُوَ الميْلُ عَنِ الجادَّةِ، وَالخُرُوجُ عَنِ الصِّراطِ المسْتَقِيمِ - هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ الزَّيْغِ وَالضَّلالِ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ كَثِيرٌ مِنَ الانْحِرافاتِ العَقَدِيَّةِ وَالعَمَلِيَّةِ عَلَى مَرِّ العُصُورِ وَتَتابُعِ الدُّهُورِ.
فَالإِلحْادُ هُوَ الميْلُ وَالعُدُولُ عَنِ الصِّراطِ المسْتَقِيمِ، وَالخُرُوجُ عَنْ نَهْجِ سَيِّدِ المرْسَلِينَ - صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ - وَما كانَ عَلَيْهِ الصَّحابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتابِعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنِ الجَمِيعِ.
هَذَا هُوَ الإِلْحادُ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ تَعالَى في هَذِهِ الآيَةِ عَنْ عُقُوبَةِ أَصْحابِهِ، وَهَدَّدَهُمْ بِاطِّلاعِهِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ قَدْ قالَ جَلَّ في عُلاهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾، ثم قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
فَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ في هَذِهِ الآيَةِ أَخْبَرَ عَنِ الانْحِرافِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ قَوْمٌ مِنَ النَّاسِ، وَفِئَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَهِيَ ضَلالَةُ الإِلْحادِ، تِلْكَ الضَّلالَةِ الَّتِي يَنْشَأُ عَنْها ضَلالاتٌ عِدَّةٌ؛ فَيَقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ أَيْ: يَمِيلُونَ بِآياتٍ الكِتابِ، وَيَنْحَِرِفُونَ عَنْ دِلالاتِها، وَيَنْحَرِفُونَ عَنْ مَعانِيها إِلَى أَنْواعٍ مِنِ الانْحِرافِ وَالضَّلالِ.
يَقُولُ جَلَّ في عُلاهُ: ﴿لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ لَيْسَ فَقَطْ الخَبَرُ بِأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ، أَوْ أَنَّهُ عالِمٌ بِهِمْ، بَلْ إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ، وَهَذا الإِخْبارُ يُفِيدُ إِفادَةً عَظِيمَةً بِأَنَّ اللهَ تَعالَى سَيُحاسِبُهُمْ، فَهُوَ مُحِيطٌ بِأَعْمالِهِمْ، عالِمٌ بِسَرائِرِهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَى ظَواهِرِهِمْ، لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ شَأْنِهِمْ، ثُمَّ هُوَ جَلَّ وَعَلا عَلَيْهِمْ قَدِيرٌ، وَبِهِمْ بَصِيرٌ، فَأَيْنَ يَفِرُّونَ مِنْهُ، وَكَيْفَ يَنْفَكُّونَ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي بِهِمْ مُحِيطٌ، وَعَلَيْهِمْ قَدِيرٌ، جَلَّ في عُلاهُ.
لا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلا: ﴿لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ فِيهِ التَّهْدِيدُ العَظِيمُ لأُولَئِكَ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في آياتِ اللهِ، الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَنِ الصِّراطِ المسْتَقِيمِ في فَهْمِ كِتابِ اللهِ تَعالَى.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَؤُلاءِ يَسْتَحِقُّونَ النَّارَ؛ فَقالَ تَعالَى: ﴿أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ﴾، وَهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في آياتِ اللهِ تَعالَى ﴿خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.
فَالأَمْنُ يَوْمَ القِيامَةِ هُوَ سَبِيلُ أَوْلِياءِ اللهِ تَعالَى، وَهُوَ ثَمَرَةُ إِيمانِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ، وَهُوَ ثَمَرَةُ مُطابَقَتِهِمْ لما جاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الفَهْمِ وَالعَمَلِ وَالمقْصِدِ وَالمرادِ، لا يُحِرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، وَلا يَسْتَدِلُّونَ بِالقُرْآنِ أَوْ بِالسُّنَّةِ في غَيْرِ مَواضِعِها، فَهَذا هُوَ عُنْوانُ الأَمْنِ، فَعُنْوانُ الأَمْنِ هُوَ سَلامَةُ الاعْتِقادِ مَعَ صَلاحِ العَمَلِ.
قالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا في مُحْكَمِ كِتابِهِ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ الأنعام: 82، فَأَخْبَرَ اللهُ تَعالَى في مُحْكَمِ كِتابِهِ أَنَّ الأَمْنَ نَصِيبُ أُولَئِكَ الَّذِينَ آمَنُوا فَصَدَقُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَقَرُّوا بِهِ، وَأَقَرُّوا بِما جاءَ بِهِ شَرْعُهُ، وَما جاءَ بِهِ نَبِيُّهُ، فَهُمْ في الأَخْبارِ مُسْلِمُونَ مُقِرُّونَ قابَلُونَ، وَفِيما يَتَعَلَّقُ بِالأَحْكامِ قَابِلُونَ مُنْقادُونَ مُذْعِنُونَ، وَهُمْ سالِمُونَ في الظُّلْمِ وَفي الاعْتِقادِ وَالعَمَلِ، فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ وَعَدَهُمُ اللهُ تَعالَى بِالأَمْنِ التَّامِّ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ الأَنْعام: 82 أَيْ: لَمْ يَخْلِطُوا إِيمانَهُمْ بِشِرْكٍ وَلا بِنِفاقٍ وَلا بِبِدْعَةٍ وَلا بِمَعْصِيَةٍ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ يَنالُونَ الأَمْنَ التَّامَّ الكامِلَ، أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ جَزاءً وَثَوابًا مِنَ اللهِ تَعالَى، ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ فَهَذِهِ شَهادَةٌ مِنَ اللهِ تَعالَى لَهُمْ عَلَىَ ما هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الاسْتَقامَةِ في العَقائِدِ وَالأَعْمالِ.
إِنّ اللهَ - جَلَّ في عُلاهُ - قالَ في أُولَئِكَ المنْحَرِفِينَ في فَهْمِ آياتِ كِتابِهِ، وَالمضِلِّينَ وَالمحَرِّفِينَ لآياتِ الكِتابِ وَالملْحِدِينَ فِيها؛ قالَ جَلَّ وَعَلا: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ أَيْ: افْعَلُوا ما شِئْتُمْ مِنَ الضَّلالِ وَالانْحِرافِ، وَهَذا لَيْسَ إِذْنًا لَهُمْ في ذَلِكَ، بَلْ هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ، أَيْ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فَإِنَّكُمْ مَجْزِيُّونَ بِهِ، اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فَإِنَّ اللهَ مَحْصِيَّةٌ عَلَيْكُمْ، اعْمَلوُا ما شِئْتُمْ فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ في صحائِفِ أَعْمالِكُمْ، اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فَإِنَّ نَصِيبَكُمْ مِنَ العَذابِ وَسُوءَ المآبِ، بِقَدْرِ ما يَكُونُ مَعَكُمْ مِنَ الإِلْحادِ في آياتِ اللهِ تَعالَى وَالخُرُوجِ عَنْ صِراطِهِ المسْتَقِيمِ ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
وَهُوَ - جَلَّ في عُلاهُ - يُخْبِرُ في هَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ بِعَمَلِهِمْ بَصِيرٌ مُطَّلِعٌ، إِضافَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾، أَكَّدَ اطِّلاعَهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ يَراهُمْ جَلَّ في عُلاهُ، وَفي هَذا زَجْرٌ لَهُمْ عَنِ المضِيِّ في الضَّلالِ، وَتَحْذِيرٌ لَهُمْ مِنَ الاسْتِمْرارِ في الانْحِرافِ، وَزَجْرٌ لِكُلِّ مَنْ وَضَعَ الكِتابَ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. إِنَّ الانْحِرافَ في فَهْمِ الكِتابِ وَالإِلْحادِ في آياتِهِ يَكُونُ بِالميْلِ بِها، وَالخُرُوجِ عَنِ الصِّراطِ المسْتَقِيمِ، عَنِ الوَسَطِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ تَعالَى سِمَةَ هَذِهِ الأُمَّةِ ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ آل عمران: 110 إِلَى أَلْوانٍ مِنَ الضَّلالاتِ وَالانْحِرافاتِ.
فَاللهُ تَعالَى ذَكَرَ الإِلْحادَ في آياتِهِ، وَالإِلْحادُ في آياتِهِ مِنْ مَعانِيهِ أَنْ يَكُونَ بِتَحْرِيفِ الكَلِمِ عَنْ مَواضِعِهِ، بِأَنْ يُوضَعَ كَلامُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَيُفَسَّرُ بِغَيْرِ مَعْناهُ، وَيُبيَّنُ بِغَيْرِ مُرادِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهُنا يَقَعُ الإِلْحادُ في آياتِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَعِنْدَما يُوضَعُ كَلامُ اللهِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى باطِلٍ، ويُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ضِلالَةٍ، وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى انحْرِافٍ، وَيُؤْتَى بِهِ في غَيْرِ مَقْصُودِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ قَدْ أَلْحَدَ الإِنْسانُ في آياتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ ذَكَرَ العُلَماءُ في الإِلْحادِ بِآياتِ اللهِ تَعالَى عِدَّةُ أَوْجُهٍ فَقالُوا: إِنَّ مِنَ الإِلْحادِ في آياتِ اللهِ التَّكْذِيبُ، وَقالُوا: إِنَّ الإِلْحادَ في آياتِ اللهِ الجُحُودُ، وَقالُوا: إِنَّ مِنَ الإِلْحادِ في آياتِ اللهِ المعانَدَةُ وَالمشاقَّةُ، وَقالُوا: إِنَّ مِنَ الإِلحْادِ في آياتِ اللهِ الكُفْرَ وَالشِّرْكَ، وَقالُوا: إِنَّ مِنَ الإِلْحادِ في آياتِ اللهِ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِها في غَيْرِ مَوْضِعِها، بِأَنْ تُوضَعَ في غَيْرِ ما أَرادَ اللهُ تَعالَى وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَبِالتَّأْكِيدِ إِنَّ كُلَّ هَذِهِ الصُّوُرِ هِيَ مِنَ الإِلْحادِ في آياتِ اللهِ، فَإِنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ آياتِ اللهِ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتضاها مِنْ دِلالَتِها عَلَى الِإيمانِ بِاللهِ، وَالإِيمانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ، وَالإِيمانِ بِأُصُولِ الإِيمانِ، فَإِنَّهُ مُلْحِدٌ في آياتِ اللهِ.
فَمَنْ شاقَّ شَرْعَ اللهِ، وَحادَّ دِينَهُ، وَلَمْ يَقْبَلْ أَحْكامَهُ، فَهَذا أَيْضًا مُلْحِدٌ بِآياتِ اللهِ؛ لأَنَّ حَقَّ هَذِهِ الآياتِ أَنْ يُؤْمَنَ بِها، وَأَنْ تُقْبَلَ، وَأَنْ يُذْعَنَ لَها، وَكَذَلِكَ مَنْ وَضَعَ الآياتِ في غَيْرِ مَوْضِعِها وَاسْتَدَلَّ بِها في غَيْرِ مَحِلِّها، فَإِنَّهُ أَلْحَدَ في آياتِ اللهِ حَيْثُ مالَ بِها عَنْ دِلالَتِها، وَعَنْ مَعْناها، وَعَنْ مَقْصُودِها، إِلَى ما يَشْتَهِيهِ، أَوْ إِلَى ما يَهْواهُ، أَوْ إِلَى ما يُحِبُّ، وَكُلُّ هَذا مُنْدَرِجٌ في الِإلْحادِ في آياتِ اللهِ، الَّذِي ذَكَرَ اللهُ وَعِيدَهُ في هَذِهِ الآيَةِ.
فالإِلحْادُ في آياتِ اللهِ هُوَ الميْلُ بِها عَنِ الحَقِّ، وَهُوَ الإِعْراضُ عَنْها، وَهُوَ عَدَمُ العَمَلِ بِها، وَهُوَ مُحادَّتُها وَمُعارَضَتُها وَمُعانَدَتُها، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الإِلْحادِ في آياتِ اللهِ.
وَاعْلَمْ - بارَكَ اللهُ فِيكَ - أَنَّ اللهَ تَوَعَّدَ الملْحِدِينَ بِوَعِيدٍ شَدِيدٍ، فَأَخْبَرَ بِاطِّلاعِهِ عَلَيْهِمْ فَقالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِالنَّارِ فَقالَ تَعالَى: ﴿أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، فَذَكَرَ عُقُوبَتَهُمْ في النَّارِ، وَانْتِفاءَ الأَمْنِ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ جَلَّ في عُلاهُ بِأَنْ أَمْلَى لَهُمْ، وَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فَإِنَّكُمْ لا تَضُرُّونَ إِلَّا أَنْفُسَكُمْ، وَاعَمْلُوا ما شِئْتُمْ فَإِنَّكُمْ مَجْزِيُّونَ بِأَعْمالَكِمْ، وَاعْمَلُوا ما شِئْتِمُ فَإِنِّي مُطَّلِعٌ عَلَى ما يَكُونُ مِنْكُمْ، لا يَخْفَى عَلَيَّ مِنْ شَأْنِكُمْ شَأْنٌ، وَلِذَلِكَ قالَ: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وَكُلُّ هَذا التَّهْدِيدِ الَّذِي يُخْبِرُ فِيهِ اللهُ تَعالَى بِإِحاطَتِهِ وَعِلْمِهِ هُوَ لِرَدْعِ هَؤُلاءِ عَنْ ضَلالِهِمْ وَانْحِرافِهِمْ وَزَيْغِهِمْ عَنِ الهُدَى القَوِيمِ وَالصِّراطِ المسْتَقِيمِ.
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. إِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ وَبِحَمْدِهِ حَفِظَ هَذا الكِتابَ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِعِبادِهِ أَنِّ حِفْظَهُ لَفْظًا وَمَعْنًى؛ فَإِنَّ اللهَ تَعالَى أَنْزَلَ الكتِابَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ صَلَواتِ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وَأَوْكَلَ إِلَيْهِ مُهِمَّةَ البَيانِ، فَبَيْنَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ، كَما بَيْنَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَمَلِهِ، كَما قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ النَّحْلُ: 44 فَكانَ بَيانُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لِلكِتابِ الحَكِيمِ مُتَضَمِّنًا البيانَ القَوْلِيَّ بِتفْسِيرِهِ، وَالبَيانِ العَمَلِيِّ بِتَرْجَمَتِهِ وَتَطْبِيقِهِ.
وَلِذَلِكَ لما سُئِلَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْها عَنْ خُلُقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَتْ: «كانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ».
وَفي هَذا قَطْعٌ لِكُلِّ مُعارَضَةٍ، وَكُلِّ انْحِرافٍ؛ فَإِنَّ الحاكِمَ في فَهْمِ القُرْآنِ هُوَ ما جاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَما جاءَ عَنِ الصَّحابَةِ الكِرامِ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُمْ، الَّذِينَ نَقَلُوا بَيانَ القُرْآنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيَّنُوا ما يَحْتاجُ النَّاسُ إِلَى بَيانِهِ مِنْ ذَلِكَ.
اللهُ - جَلَّ في عُلاهُ - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الإِلْحادَ، سَجَّلَ حُكْمًا عَلَى الملْحِدِينَ عَلَى وَجْهِ العُمُومِ، فَقالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ﴾ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ هُمُ الملْحِدُونَ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ فَلَمْ يَقْبَلُوا بِهِ وَلَمْ يُذْعِنُوا لَهُ، وَلَمْ يَسْتَسْلِمُوا لَهُ، وَلَمْ يَنْقادُوا إِلَيْهِ، بَلْ أَلْحَدُوا بِهِ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ اللهُ أَكْبَرُ
أَخْبَرَ اللهُ بِإِلحْادِ قَوْمٍ في آياتِهِ، وَأَخْبَرَ بِكُفْرِ بَعْضِ الخَلْقِ بِذِكْرِهِ الَّذِي جاءَ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ القُرْآنُ الحَكِيمُ، ثُمَّ قالَ جَلَّ في عُلاهُ لِطَمْأَنَةِ أَهْلِ الإِسْلامِ: إِنَّ دِينَ اللهِ مَحْفُوظٌ، لا يَضُرُهُّ تَحْرِيفُ الغالِينَ، وَلا انْتِحالُ المبْطِلِينَ، وَلا إِفْسادُ المفْسِدينَ، الَّذِينَ يَسْعَوْنَ لِتَحْرِيفِ الدِّينِ عَمَّا جاءَ بِهِ الرَّسُولُ الكَرِيم صَلَواتُ اللهِ وَسلامُهُ عَلَيْهِ، فَقالَ: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ أَيِ: القُرْآنُ كِتابٌ مُمْتِنِعٌ عَنْ أَنْ يَضِلَّ بِهِ أَحَدُ النَّاسِ.
فَالقُرْآنُ مِنْ عِزَّةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ جَعَلَهُ عَزِيزًا، أَيْ: مُمْتَنِعًا عَنْ كُلِّ مُرادٍ باطِلٍ، فَإِنَّ القُرْآنَ مَحْمِيٌّ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى باطِلٍ، وَأَنْ يُقامَ بِهِ ضَلالَةٌ، بَلْ لا يَهْدِي إِلَّا إِلَى الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، كَما قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ الإسراء: 9 فَهُوَ كِتابُ هِدايَةٍ، وَهُوَ كِتابُ نُورٍ، وَهُوَ كِتابُ بَصِيرَةٍ، وَلَكِنَّ هَذا لَيْسَ فَقَطْ بِحُرُوفِهِ وَآياتِهِ، بَلْ هُوَ بِبَيانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَما جاءَ عَنْ سَلَفِ الأُمَّةِ، الَّذِينَ كَشَفُوا الضَّلالاتِ في آياتِ الكِتابِ. وَمِنْ عِزَّةِ هَذا الكِتابِ أَنَّهُ لا يَأْتِي مُبْطِلٌ - وَانْتَبِهْ إِلَى هَذا - أَنَّهُ لا يَأْتِي مُبْطِلٌ يَسْتَدِلُّ بِالقُرْآنِ عَلَى باطِلِهِ، إِلَّا وَفِيما اسْتَدَلَّ بِهِ ما يَرُدُّ عَلَى ضَلالَتِهِ.
أُعِيدُ هَذِهِ الكَلِمَةِ؛ لأَنَّها تُبَيِّنُ عِزَّةَ القُرْآنِ، الَّذِي قالَ فِيهِ رَبُّنا: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ أيْ: يَمْتَنِعُ عَنْ مُراداتِ الضَّالِّينَ، وَيَمْتَنِعُ عَنْ أَنْ يَكُونَ سَبِيلًا لِتَقْرِيرِ ضَلالَةٍ، أَوِ الدَّعْوَةِ إِلَى بِدْعَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الانْحِرافاتِ.. يَقُولُ جَلَّ وَعَلا: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ أَيْ: كِتابٌ مُمْتَنِعٌ مِنْ أَنْ يُسْتَعْمَلَ في ضَلالَةٍ، أَوْ أَنْ يُضِلَّ أَحَدًا عَنِ الصِّراطِ المسْتَقِيمِ وَهُوَ يَرْغَبُ في الهِدايَةِ. كَيْفَ ذَلِكَ؟
القُرْآنُ يَسْتَدِلُّ بِهِ أَهْلُ البِدَعِ وَأَهْلُ الضَّلالاتِ في شَتَّى صُنُوفِهِمْ، عَلَى أَنْواعٍ مِنْ ضَلالاتِهِمْ، لَكِنْ مَنْ فَتَحَ اللهُ بَصِيرَتَهُ، وَأَنارَ قَلْبَهُ، لا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَقِرَّ اسْتِدْلالُهُ بِالقُرْآنِ عَلَى باطِلٍ، بَلْ إِنَّ كُلَّ مُبْطِلٍ يَسْتَدِلُّ بِالقُرْآنِ عَلَى ضَلالَةٍ، مِنْ عِزَّةِ القُرْآنِ، وَمِنْ إِحْكامِهِ وَإِتْقانِهِ، أَنْ جَعَلَ اللهُ فِيما اسْتَدَلَّ بِهِ ما يُبْطِلُ ضَلالَتَهُ، وَما يُبِينُ كَذِبَ دَعْواهُ، وَما يَرُدُّ عَلَى انْحِرافِهِ، وَهَذا مِنْ عِزَّةِ القُرْآنِ، وَهَذا تَصْدِيقٌ قَوْلِهِ تَعالَى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾، فَما اسْتَدَلَّ مُبْطِلٌ بِالقُرْآنِ إِلَّا وَكانَ فِيما اسْتَدَلَّ بِهِ رَدٌّ عَلَيْهِ، وَإِبْطالٌ لِدَعْواهُ، وَبَيانٌ لِضَلالَتِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لا يَتَبَيَّنُ إِلَّا لأُولِي البَصائِرِ، وَأَهْلِ المعْرِفةِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ مَعانِي كَلامِ اللهِ، وَيَتَلَقَّوْنَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَلْزُمُونَ ما كانَ عَلَيْهِ الصَّحابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتابِعُوهُمْ بِإِحْسانٍ مِنْ تابِعِي التَّابِعِينَ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنِ الجَمِيعِ.
اللهُ -جَلَّ وَعَلا- يُبَيِّنُ عَظَمَةَ هَذا الكِتابِ، وَأَنَّهُ عَزِيزٌ، فَقالَ: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾، فَلا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ القُرْآنُ دَالا عَلَى ضَلالَةٍ، فَلا يَأْتِيهِ باطِلٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلا مِنْ خَلْفِهِ، فَهُوَ مُحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللهِ عِزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ كَلامُ العَلِيمِ الخَبِيرِ جَلَّ في عُلاهُ، الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ سُبْحانَهُ، وَهُوَ المحْكِمُ المتْقِنُ لآياتِهِ؛ كَما قالَ جَلَّ في عُلاهُ: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ أَيْ: أُتْقِنَتْ ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ أَيْ: بُيِّنَتْ وَوُضِّحَتْ ﴿مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ هود: 1.
وفي هَذِهِ الآيَةِ يَقُولُ: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ﴾ أَيْ: مُحْكَمٌ ما أُنْزِلَ ﴿حَمِيدٍ﴾ أَيْ: يَسْتَحِقُّ الحَمْدَ، وَالثَّناءَ، وَالمدْحَ عَلَى إِتْقانِهِ لما أَنْزَلَهُ مِنْ كِتابٍ مُحْكَمٍ، لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ.
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. إِنَّ الانْحِرافَ عَنِ الصِّراطِ المسْتَقِيمِ، وَالإِلْحادِ في آياتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، تَوَرَّطَ فِيهِ فِئامٌ كَثِيرَةٌ مِنَ النَّاسِ، في القَدِيمِ وَالحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّ أَوَّلَ أَنْواعِ الانْحرافِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ مَنْ وَقَعَ مِمَّنْ ضَلَّ قَلْبُهُ وَعَمِيَ هُوَ إِلْحادُ الخَوارِجِ في آياتِ الكِتابِ الحَكِيمِ؛ فَالخَوارِجُ هُمْ أَقْدمُ الفِرَقِ ظُهُورًا، فَقَدْ ظَهَرُوا زَمَنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُمْ، وَالصَّحابَةُ مُتَوافِرُونَ وَحاضِرُونَ، وَهُمْ كُثُرٌ، فَخَرَجَ هَؤُلاءِ في أَصْحابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالحَقِّ مِنْ أَصْحابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوْلَى بِفَهْمِ القُرْآنِ وَبَيانِهِ، وَإِقامَةِ الدِّينِ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُمْ وَأَرْضاهُمْ.
وَكانَ ظُهُورُهُمْ بَلِيَّةً عُظْمَى عَلَى الإِسْلامِ، وَلِعَظِيمِ شَرِّهِمْ وَتَجَدُّدِ ضَرَرَهِمْ، وَاسْتِمْرارِ إِفْكِهِمْ في الأُمَّةِ، حَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ تَحْذِيرًا لَمْ يَأْتِ نَظِيرُهُ في كُلِّ الفِرَقِ الضَّالَّةِ المنْحَرِفَةِ، وَذَلِكَ لِعَظِيمِ خُطُورَةِ هَؤُلاءِ وَانْحِرافِهِمْ، فَقَدْ نَشَأَتْ نَشْأَتُهُمْ وَظَهَرَتْ بَوادِرُهُمْ زَمَنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ في قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي جاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحابِهِ، وَقَدْ قَسَّمَ مالًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الغَنِيمَةِ، حَسْبَ ما أَراهُ اللهُ، وَوَفْقَ ما هَداهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِرَبِّهِ، وَأَعْلَمُ الخَلْقِ بِرَبِّهِ، وَأَتْقاهُمْ لَهُ، وَأَعْلَمُهُمْ بِمواضِعِ صَرْفِ المالِ، جاءَ إِِلَيْهِ فَقالَ لَهُ: يا مُحَمَّدُ، هَذِهِ قِسْمَةٌ لَمْ يُبْتَغَ بِها وَجْهُ اللهِ.
وَفِي رِوايَةٍ جاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ. هَكَذا جاءَ آمِرًا بِالمعْرُوفِ، ناهِيًا عَنِ المنْكَرِ، مُتَدَثِّرًا بِثِيابِ التَّقْوَى وَالصَّلاحِ، وَزاعِمًا الاهْتِداءِ، وَإِقامَةِ الحَقِّ، فَكانَ هَذا مَبْدَأُ تِلْكَ الفِرْقَةِ الضَّالَّةِ، الَّتِي انْحَرَفَتْ عَنِ الهُدَى، وَوَقَعَتْ في الرَّدَى، وَاتَّهَمَتْ سَيِّدَ الوَرَى بِأَنَّهُ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ قَدْ ظَلَمَ وَلَمْ يَعْدِلْ، فَقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟». لا يَعْدِلُ أَحَدُ إِنْ لَمْ يَعْدِلْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ» صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ في لَحْظَتِها بِإِبْطالِ شُبْهَتِهِ، وَبَيانِ ضَلالَتِهِ، وَرَدِّ انْحِرافِهِ، وَأَنَّ ما فَعَلَهُ هُوَ العدْلُ الَّذِي أَمَرَ اللهُ تَعالَى بِهِ، وَهُوَ امْتِثالٌ لأَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، الَّذِي اسْتَأْمَنَهُ عَلَى أَعْظَمِ مِنَ الدَّراهِمِ وَالدَّنانِيرِ وَالماشِيَةِ وَالأَنْعامِ، اسْتَأْمَنَهُ عَلَى الوَحْيِ فَجَعَلَهُ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الخَلْقِ، يُبَيِّنُ دِينَ اللهِ وَيُبَلِّغُ رِسالاتِهِ، وَيُقِيمُ شَرْعَهُ، وَيَدُلُّ الخَلْقَ عَلَى رَبِّهِمْ، فَمَنِ اسْتَأْمَنَهُ اللهُ عَلَى هَذِهِ الأَمانَةِ العُظْمَى أَلا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُؤَمَّنَ عَلَى شِياهٍ تُوَزَّعُ أَوْ أَمْوالٍ تُفَرَّقُ، حَسْبَ ما أَراهُ اللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى، وَحَسْبَ اجْتِهادِهِ الَّذِي فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ فِيهِ.
لا شَكَّ أَنَّ ذاكَ قَدْ أَلْحَدَ في آياتِ اللهِ، فَأَنْزَلَ آياتِ الأَمْرِ بِالعَدْلِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الظُّلْمِ في غَيْرِ مَوْضِعِها، حَيْثُ اتَّهَمَ حُكْمَ سَيِّدِ الوَرَى، وَإِمامِ أَهْلِ التُّقْى، وَالَّذِي هُوَ أَعْلَمُ الخَلْقِ بِرَبِّهِ، وَأَعْلَمُ الخَلْقِ بِشَرْعِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَما يُرْضِيهِ، وَهُوَ أَتْقاهُمْ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، اتَّهَمَهُ بِعَدَمِ العَدْلِ، وَأَنَّ هَذِهِ القِسْمَةَ لَمْ يُبْتَغَ بِها وَجْهُ اللهِ.
أَيُّها الإِخْوَةُ، هُنا يُبْرِزُ وَيُظْهِرُ أَنَّ هَؤُلاءِ الخَوارِجِ مُنْذُ نَشْأَتَهُمْ الأُولَى وَقَعُوا في الإِلحْادِ بِآياتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَلا تَعْجَبُ فَإِنَّ هَذا قَدْ سَجَلَّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوائِلِ ظُهُورِهِمْ، فَما قُتِلِ عُثْمانُ خَلِيفَةُ المسْلِمِينَ، وَاسْتُبِيحَ دَمُهُ إِلَّا بِتَأْوِيلاتِ الخَوارِجِ المنْحَرِفِينَ، وَما قُتِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ، وَاسْتُبِيحَ دَمُهُ، وَاسْتُبِيحَ دَمُ أَصْحابِهِ، إِلَّا بِآفَةِ الخَوارِجِ الَّذِينَ أَفْسَدُوا فِي الأَرْضِ زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُرِيدُونَ الدَّارَ الآخِرَةَ، وَهُمْ كَذَبَةٌ ضُلَّالٌ، إِنَّما يَنْتَصِرُونَ لأَهْوائِهِمْ، وَيُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، وَيُلْحِدُونَ في آياتِ اللهِ، فَلا لِلإِسْلامِ نَصَرُوا، وَلا لِأَهْلِ الكُفْرِ وَالشَّرِّ دَحَرُوا، بَلْ كانُوا شَوْكَةً مُنْذُ نَشْأَتِهِمْ وَظُهُورِهِمْ في خاصِرَة الإِسْلامِ، يَتَأَذَّى بِهِمْ أَهْلُ الإِيمانِ، وَيَفْرَحُ بِهِمْ أَهْلُ الكُفْرِ وَأَعْداءُ الإِسْلامِ.
وَلِذَلِكَ قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَؤُلاءِ: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ». فَهُمْ سِلْمٌ عَلَى أَعْداءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَرْبٌ عَلَى أَوْلِيائِهِ، حَرْبٌ عَلَى مَنْ أَقامُوا الشَّرِيعَةِ، وَدانُوا بِالإِسْلامِ عَلَى نَحْوِ ما كانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحابُهُ، لَكِنَّهُمْ مِنْ ضَلالَةِ قُلُوبِهِمْ وَانْطِماسِ بَصائِرِهِمْ، يُبَرِّرُونَ ما يَفْعَلُونَهُ بِآياتٍ مِنَ الكِتابِ، وَهَذا مِنْ إِلْحادِهِمْ بِآياتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْ ضَلالاتِهِمْ في فَهْمِ الكِتابِ، وَفي تَحْرِيفِهِ وَإِنْزالِهِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَهُمْ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُلْحِدُونَ في آياتِ اللهِ، كَما قالَ اللهُ تَعالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾، فَهُمْ مِنَ الملْحِدينَ في آياتِ اللهِ.
اسْتَمِعْ إِلَى ما قالَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُما، وَقَدْ شَهِدَ الخَوارِجُ، وَعَرَّفَهُمْ، وَعَرَفَ طَرائِقَهُمْ وَعَمَلِهِمْ، قالَ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُما في عَمَلِهِمْ حَيْثُ تَسَلَّطُوا عَلَى أَهْلِ الإِسْلامِ بِالقَتْلِ وَالتَّكْفِيرِ، وَاسْتِباحَةِ الدِّماءِ وَالأَمْوالِ، قالَ: «انْطَلِقُوا إِلَى آياتٍ نَزَلَتْ في الكُفَّارِ» أيْ: أَنْزَلَها اللهُ تَعالَى في شَأْنِ الَّذِينَ قاتَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ، وَكَفَرُوا بِما جاءَ بِهِ مِنَ الهُدَى وَدِينِ الحَقِّ، «فجعلوها على المؤمنين»، فَأَخَذُوا الآياتِ الَّتِي جاءَتْ في أَهْلِ الكُفْرِ، فَأَنْزَلُوها عَلَى أَهْلِ الإِسْلامِ، هَكَذا يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَهُوَ شَيْخُ الإِسْلامِ، وَهُوَ مِنْ عُلَماءِ الأُمَّةِ في صَدْرِها الأَوَّلِ.
عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ مِنْ كُبَراءِ أَصْحابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُلَمائِهِمْ الأَفْذاذِ، قَدْ أَفْتَى رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ في الإِسْلامِ سِتِّينَ سَنَّةً، هَذا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَدْ خَبَرَ شَأْنَهُمْ، وَعَلِمَ حالَهُمْ، فَقالَ في بَيانِ ضَلالَتِهِمْ: «انْطَلِقُوا إِلَى آياتٍ نَزَلَتْ في الكُفَّارِ فَجَعَلُوها عَلَى المؤْمِنِينَ» أَيْ: أَنْزَلُوها في غَيْرِ مَوْضِعِها، فَأَنْزَلُوها عَلَى أَهْلِ الإِيمانِ.
وَقَدْ تَفَطَّنَ لِهَذا عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ، وَهُوَ مِمَّنِ ابْتَلاهُ اللهُ بِالخَوارِجِ، فَكَفَّرُوهُ، وَقاتلُوهُ، وَآذَوْهُ، حَتَّى قَتَلُوهُ رَضِيَ اللهُ تَعالَىَ عَنْهُ، فَالَّذِي قَتَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ هُمُ الخَوارِجُ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ رَسُولُ اللهِ، وَبَيْنَ ضَلالَتِهِمٍ، وَقالَ فِيهمُ المقُولاتُ الَّتي تُبَيِّنُ عَظِيمَ ما هُمْ عَلَيْهِ مِنْ ضَلالَةٍ وَانْحِرافٍ.
يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنِ الخَوارِجِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا التَّحْكِيمَ بَيْنَ الصَّحابَةِ عِنْدما اخْتَلَفُوا.. فَإِنَّ الصَّحابَةَ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُمْ لما نَشَبَ بَيْنَهُمُ الخِلافُ عَنِ اجْتِهادٍ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنِ الجَمِيعِ، اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَحُكِّمُوا بَيْنَهُمْ مِنْ يَفْصِلُ النِّزاعَ، وَيْجَمَعُ الكَلِمَةِ، وَيَلُمَّ شَعْثَ الأُمَّةِ، فانْعَزَلَ مِنْ جُنْدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ جَماعَةٌ قالُوا: لا حُكْمَ إِلَّا للهِ، وَكانُوا يَرْفَعُونَ المصاحِفَ وَيَقُولُونَ: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ يوسف: 67 أَيْ: ما الحُكْمُ إِلَّا للهِ، وَهَذا بِالتَّأْكِيدِ حَقٌّ، لَكِنَّهُ حَقٌّ أُرِيدَ بِهِ باطِلٌ، هَذا حَقٌّ وَلَكِنَّهُ وُضِعَ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ؛ فَإِنَّ عَلِيًّا وَمُعاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُمْ لَمْ يَعْدِلُوا عَنْ حُكْمِ اللهِ، وَلَمْ يُحَكِّمُوا غَيْرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ سَعَوْا في الصُّلْحِ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ، بِتَحْكِيمِ مَنْ يَنْتَدِبُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، لِفَصْلِ النِّزاعِ، وَحَسْمِ الخِلافِ، وَجَمْعِ الكَلِمَةِ، وَرَأْبِ الصَّدْعِ بَيْنَ أَهْلِ الإِسْلامِ في ذَلِكَ الوَقْتِ، لَكِنَّ هَؤُلاءِ الجُهَّالِ الَّذِينَ أَعْمَى اللهُ بَصِيرَتَهُمْ عَدَوْا ذَلِكَ خُرُوجًا عَنْ قَوْلِ اللهِ تعالَى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾ يوسف:67 وَهَذا مِنْ صُوَرِ إِلْحادِهِمْ.
يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيما يَحْدُثُ عَنْ هَذِهِ الحادِثَةِ، وَما جَرَىَ: «فاعْتَزَلَ مِنْهُمْ اثْنا عَشَرَ أَلْفًا» مِمَّنْ كانُوا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّحابَةِ، انْعَزَلُوا هَؤُلاءِ وَعَدَدُهُمْ ما ذَكَرَ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُما، قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فَدعانِي عَلِيُّ» أَيْ: دَعا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، «فَقالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ» اذْهَبْ إِلَى هَؤُلاءِ الَّذِينَ انْحازُوا وَانْفَصَلُوا عَنْ أَهْلِ الإِسْلامِ، وَكَفَّرُوا الفَرِيقَيْنِ؛ كَفَّرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طالِبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّحابَةِ، وَكَفَّرُوا مُعاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّحابَةِ، كَفَّرُوا الجَمِيعِ، رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
«اذْهَبْ إِلَيْهِمْ، وَخاصَمَهُمْ» أَيْ: حاجَجَهُمْ «وَادْعُهُمْ إِلَى الكِتابِ وَالسُّنَّةِ» ثُمَّ انْتَبِهْ، قالَ لَهُ عَلِيٌ وَهُوَ الخَبِيرُ بِهِمْ وَبِانْحِرافاتِهِمْ وَضَلالاتِهِمْ: «وَلا تُحاجِجْهُمْ بِالقُرْآنِ» يَعْنِي: لا تَجْعَلِ القُرْآنَ هُوَ الحُجَّةُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، «فَإِنَّهُ حَمَّالُ وُجُوهٍ، وَلَكِنْ خاصِمْهُمْ بِالسُّنَّةِ» لماذا قالَ: خاصِمْهُمْ بِالسُّنَّة؟ِ لأَنَّ السُّنَّةَ بَيانُ القُرْآنِ؛ قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ النَّحْل: 44 فَما أُبْهِمَ في القُرْآنِ مِمَّا لَمْ يَتَبَيَّنْ مَعْناهُ، أَوْ لمَ ْيَتَّضِحْ مَدْلُولُهُ، فَإِنَّ بَيانَهُ وَإِيضاحَهُ يَكُونُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجاءَ عَنْ عَلِيٍ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ.. لِتَعْرِفَ عَظِيمَ مَهارَةِ هَؤُلاءِ في الاستدلال بالآيات في غير موضعها، جاء رجل إلى علي رضي الله تعالى عنه يسأله عن صدر آية الأنعام: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ الأنعام: 1 أَيْ: ثُمَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِرَبِّهمِ ْيُسَوُّونَ وَيُمَثِّلُونَ وَيُنَظِّرُونَ وَيُنَدِّدُونَ، قالَ: أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ هَذا الرَّجُلُ يَسْأَلُ عَلِيًّا عَنِ الآيَةِ فَيَقُولُ: أَلَيْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ؟ قالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ: نَعَمْ، فانْصَرَفَ الرَّجُلُ، أَخَذَ الكَلِمَةَ مِنْ عَلِيٍّ فانْصَرَفَ، ثُمَّ نُبِّهَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنَ الخَوارِجِ، أَوْ تَنَبَّهَ، فَقالَ: ارْجِعْ، إِنَّما نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أَهْلِ الكِتابِ أَوْ في المشْرِكِينَ الَّذِينَ قاتَلَهُمْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَبَيَّنَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ أَنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِآياتِ الكِتابِ، هَؤُلاءَ الخَوارِجُ وَالضُّلالُ وَغَيْرُهُمْ، لَكِنَّنا نَتَكَلَّمُ عَنِ انْحِرافِ الخَوارِجِ في الإِلْحادِ بِآياتِ اللهِ، هَؤُلاءِ وَغَيْرِهِمْ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، وَيُنَزِّلُونَ الآياتِ عَلَى غَيْرَ مَحالِّها، وَيَتَّبِعُونَ المتَشابِهِ وَيَذَرُونَ المحْكَمَ؛ كَما قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ أَيُّ: ضَلالَةٍ وَانْحِرافٍ ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ آل عمران: 7 أَيْ: يَتَمَسَّكُونَ بِما لا دَلالَةَ فِيهِ وَاضِحَةً، بِما دِلالَتُهُ مُحْتَمَلَةٌ، بِما لَمْ يَتَبَيَّنْ مَعْناهُ، وَيَذَرُونَ المحْكَمَ.
أَمَّا أَهْلُ البَصِيرَةِ فَهُمْ كَما قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ آل عمران: 7.
وقد فسر عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه هذه الآية في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ آل عمران: 7 قالَ: هَؤُلاءِ الخَوارِجُ.
وَقالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ: لا أَحْسِبُ الخَوارِجَ إِلَّا مِنْهُمْ. يَعْنِي مِمَّنْ يَتِّبِعُونَ المتَشابِهَ، وَيَذَرُونَ المحْكَمَ عَمَلًا بِما لا دِلالَةَ فِيهِ، وَسَعْيًا لِتَنْزِيلِ الكَلامِ في غَيْرِ مَواضِعِهِ، وَتَحْرِيفِ الكَلِمِ عَنْ مَواضِعِهِ.
وَقَدْ جَرَّ هَذا التَأْوِيلُ وَذَلِكَ الانْحِرافُ وَهَذا الإِلْحادُ شَرًّا عَظِيمًا عَلَى الأُمَّةِ. وَحَتَّى تَتَبَيَّنُ لَكَ صُوَرٌ مِنَ انْحِرافِ الخَوارِجِ في الاسْتدْلالِ بِالقُرْآنِ في غَيْرِ مَواضِعِهِ؛ قالَ اللهُ تَعالَى في مُحْكَمِ كِتابِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ التغابن: 2 هَذَهِ الآيَةِ تَقْتَضِي أَنَّهُ مَنْ لا يَكُونُ مُؤْمِنًا فَهُوَ كافِرٌ، هَكَذا يَقُولُونَ: مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَهُوَ كافِرٌ. وَالمؤْمِنُ عِنْدَهُمْ هُوَ مَنْ لا مَعْصِيَةَ لَهُ، وَلا يَقَعُ في كَبِيرَةٍ مِنَ الكَبائِرِ، وَلا يَغْشَى عَظِيمَةً مِنْ عَظائِمِ الإِثْمِ، فَإِنَّ غَشْيَ عَظِيمَةٍ مِنْ عَظائِمِ الإِثْمِ، ارْتَفَعَ عَنْهُ وَصْفَ الإِيمانِ، والْتَحَقَ بِالكُفْرِ، فَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ وَهِيَ أَنَّ اللهَ تَعالَى قَسَّمَ النَّاسَ إِلَى قِسْمَيْنِ في قَوْلِهِ: ﴿فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ التغابن: 2 عَلَى تَكْفِيرِ كُلِّ مَنْ وَقَعَ في كَبِيرَةٍ مِنَ الذُّنُوبِ، أَوْ عَظِيمَةٍ مِنَ الإِثْمِ، وَهَذا مِنَ انْحِرافِهِمْ وضَلَالِهِمْ وعَدَمِ قِيامِهِمْ بِحَقِّ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في فَهْمِ كَلامِهِ وَإِنْزالِ الكَلامِ في مَواضِعِهِ.
احْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِ اللهِ تَعالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ آل عمران: 97 اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلَى كُفْرِ تارِكِ الحَجِّ، وَأَنَّهُ كافِرٌ بِاللهِ العَظِيمِ. وَهَذا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الخَوارِجُ، وَاخْتُصُّوا بِهِ دُونَ سائِرِ طَوائِفِ الأُمَّةِ.
وَمِنْ أَبْرَزِ اسْتِدْلالاتِهِمْ في غَيْرِ مَواضِعِها، قَوْلُهُمْ في قَوْلِهِ تَعالَى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ المائدة: 44 قالُوا: إِنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَإِنَّهُ كافِرٌ، وَهَذا مِنْ أَقْوَى ما يَسْتَدِلُّ بِهِ الخَوارِجُ المعاصِرُونَ عَلَى تَكْفِيرِ الحُكَّامِ، وَعَلَى تَكْفِيرِ العُلَماءِ، وَعَلَى تَكْفِيرِ المجْتَمَعاتِ، وَعَلَى تَكْفِيرِ الأُمَمِ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ، بناءً عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ، فَكَفَّرُوا أَهْلَ الإِسْلام ِحُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ، وَالسَّبَبُ في ذَلِكَ عَدَمُ فَهْمِهِمْ أَنَّ الحُكْمَ بِغَيْرِ ما أَنْزَلَ اللهُ لَيْسَ عَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلا عَلَىَ دَرَجَةٍ واحِدَةٍ، بَلْ مِنْهُ ما هُوَ كُفْرٌ مخُرِْجٌ عَنِ الملَّةِ، وَمِنْهُ ما هُوَ مَعْصِيَةٌ، وَمِنْهُ ما هُوَ نِفاقٌ، فَلَيْسَ عَلَىَ دَرَجَةٍ واحِدَةٍ، بَلْ هُوَ دَرَجاتٌ وَمَراتِبُ.
وَإِنَّما يُمَيِّزُ ذَلِكَ أَهْل ُالعِلْمِ وَالبَصِيرَةِ، وَهَؤُلاءِ لما كانَ لا عِلْمَ لَهُمْ وَلا بَصِيرَةَ لَدَيْهِمْ، نَزَّلُوا هَذِهِ الآيَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ الشَّرِيعَةِ، سَواءٌ كانَ ذَلِكَ لَهَوَى، أَوْ كانَ ذَلِكَ اتِّباعًا لِمَصْلَحَةِ، أَوْ كانَ ذَلِكَ لاقْتِناعِ بِغَيْرِ الشَّرِيعَةِ، أَوْ لِتَفْضِيلِ لِغَيْرِ الشَّرِيعَةِ، فَسُوُّوا بَيْنَ الأَحْوالِ كُلُّها، وَلاشَكَّ أَنَّ هَذِهِ الأَحْوالَ لا تَسْتَوِي، بَلِ الحُكْمُ بِغَيْرِ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنْهُ ما هُوَ كُفْرٌ، كَما لَوِ اعْتَقَدَ أَنَّ حُكْمَ غَيْرِ اللهِ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا؛ كَما قالَ تَعالَى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ المائدة: 50 أَوِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِ ما أَنْزَلَ اللهُ. فَكُلُّ هَذا مِنَ الكُفْرِ، لَكِنْ مَنْ حَكَمَ لِهَوَى، لِمَصْلَحَةٍ، لِشَهْوَةٍ، حَكَمَ لِضَرُورَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ، وَلا يَكُونُ كافِرًا، قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا، وَقَدْ يَكُونُ مَأْزُورًا، لَكِنَّهُ لا يَكُونُ كافِرًا.
وَهَؤُلاءِ لا يُمَيِّزُونَ، يَأْتُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الآياتِ الَّتِي فِيها إِجْمالٌ، وَتَحْتَاجُ إِلَى بَيانٍ وَتَفْصِيلٍ، وَيَعْزِلُونَ عَنْها بِقِيَّةَ الآياتِ الَّتِي تُوَضِّحُها، وَالنُّصُوصُ في السُّنَّةُ الَّتِي تُبَيِّنُها.
وَلا تَعْجَبْ.. إِذا ساءَ فَهْمُ العَبْدِ ساءَ عَمَلُهُ، وَإِذا ساءَ عِلْمُهُ وَقَلَّ نَصِيبُهُ مِنَ المعْرِفَةِ فَإِنَّكَ تَتَوَقَّعُ مِنْهُ كُلَّ فَسادٍ.
وَإِلَيْكُمْ هَذِهِ القِصَّةُ الَّتِي ذَكَرَها أَصْحابُ السِّيَرِ وَأَهْلُ العِلْمِ عَنْ نافِعِ بْنِ الأَزْرَقِ، وَهُوَ مِنْ كِبارِ الخَوارِجِ في زَمَنِ الصَّحابَةِ، فَقَدْ ناظَرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ في مَواضِعَ عَدِيدَةٍ، هَذا المجْرِمُ -وَهُوَ نافِعُ بْنُ الأَزْرَقِ- مِنْ رُؤَساءِ الخَوارِجِ، أَقامَ في طَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ مَعَ السُّرَّاقِ وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ، وَأَهْلِ الأَهْواءِ، أَقامَ فَأَثْخَنَ القَتْلَ في النَّاسِ، فَمَنْ مَرَّ بِهِ قَتَلَهُ مِنَ النِّساءِ وَالصِّغارِ وَالصِّبْيانِ وَالشُّيُوخِ وَالرِّجالِ، فَلا يَتْرُكُ أَحَدًا يَمُرُّ بِهِ إِلَّا قَتَلَهُ، أَتَدْرُونَ بِماذا كانَ يُسْتَدَل على قتْل هؤلاء؟ يستدل بقوله: ﴿لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ نوح: 26 وَهَذا مِنَ الإِلْحادِ بِآياتِ اللهِ.
وَإِذا نَظَرْتَ إِلَى ما تَفْعَلُهُ الجَماعاتُ المتَطَرِّفَةُ عَلَى اخْتِلافِ مُسَمَّياتِها؛ مِنْ دَاعِشَ أَوِ القاعِدَةِ أَوْ مَنْ نحَا نَحْوَهُمْ مِنَ الفِرَقِ، وَجَدْتَ أَنَّ ما يَفْعَلُونَهُ مُطابِقٌ تَمامًا لما يَفْعَلُهُ أَسْلافُهُمْ مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالضَّلالِ وَالانْحِرافِ؛ فَإِنَّهُمْ عَلَى طَرِيقِهِمْ سائِرُونَ ﴿لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ نوح: 26 بَلْ يَبْدَؤُونَ بِأَهْلِ الإِسْلامِ قَبْلَ غَيْرِهِمْ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِالقُرْآنِ وَبِالآياتِ المحْكَمَةِ عَلَى ضَلالاتِهِمْ وَانْحِرافاتِهِمْ، وَالقُرْآنُ مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَهُمْ مِنْهُ بَرآءٌ، وَإِنَّما أُتُوا مِنْ سُوءِ فَهْمِهِمْ وَعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِما دَلَّتْ عَلَيْهِ الآياتُ في الكِتابِ، وَما بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ الَّتِي جاءَ بِها رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُرْجُمانًا لِلقُرْآنِ وَبَيانًا لَهُ.
وكذلك من انحرافاتهم التي يزعمون بها تكفير الحكّام في سابق العصر، وفي العصر الحديث، قوله جل وعلا: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ الأنعام: 121، يستدلون بهذه الآية على أن طاعة الأمراء -وهذا في السير القديمة- على أن طاعة الأمراء كفر وشرك، فمن أطاع أميره فإنه داخل في هذه الآية؛ في قول الله عز وجل ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾.
وقد كذبوا بالقرآن وأنزلوه في غير مواضعه؛ فإن هذه الآية جاءت في بيان حال المشركين، الذين خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الميتة، فنهى الله تعالى أهل الإيمان عن طاعتهم، أي: عن طاعة المشركين المكذبين بالقرآن، الرادين لرسالة النبي الأمين، صلوات الله وسلامه عليه، فقال جل وعلا: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ الأنعام: 121.
فَالشَّياطِينُ الَّذِينَ يُوحُونَ لأَوْلِيائِهِمْ هُمُ الَّذِينَ يُجادِلُونَ المسْلِمِينَ في حِلِّ الميْتَةِ، وَأَنَّهُ لماذا لا تَأْكُلُونَ الميْتَةَ وَاللهُ تَعالَى قَدْ قَتَلَها، وَتَأْكُلُونَ ما تَقْتُلُونَ بِأَيْدِيكُمْ؟ فَجاءَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ حاسِمًا في الآيَةِ الحَكِيمَةِ؛ حَيْثُ قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ﴾ أَيْ: اتَّبَعْتُمُوهُمْ في إِباحَةِ أَكْلِ الميْتَةِ، وَهَذا تَحْلِيلُ ما حَرَّمَ اللهُ ﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ الأنعام: 121.
فَكَيْفُ يُنَزَّلُ هَذا النَّصُّ عَلَى أَهْلِ الإِسْلامِ في طاعَتِهِمْ لأُمَرائِهِمْ وَرُؤَسائِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ وَمُقَدَّمِيهِمْ، «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» لَكِنَّ الطَّاعَةَ في المعْرُوفِ وَاجِبَةٌ؛ فَقَدْ قالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ النساء: 59 فَهِيَ عِبادَةٌ وَطاعَةٌ.
وَقَدْ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَطَاعَ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي».
أَيْ: مَنْ أَطاعَهُ في غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللهِ مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ طاعَةِ اللهِ، أَوْ ما يَأْمُرُ بِهِ مِنْ مَصالِحِ النَّاسِ، وَإِصْلاحِ دُنْياهُمْ، كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ الإِنْسانُ، وَيُثابُ عَلَيْهِ في مِيزانِ الحَسناتِ وَالسَّيِّئاتِ، وَأَمَّا الطَّاعَةُ في المعْصِيَةِ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ، وَلا يَبْلُغُ بِها الإِنْسانُ حَدَّ الكُفْرِ، إِلَّا إِذا كانَ أَطاعَ في تَحْرِيمِ ما أَحَلَّ اللهُ، أَوْ تَحْلِيلِ ما حَرَّمَ اللهُ، أَمَّا لَوْ أَطاعَ أَمِيرًا أَوْ رَئِيسًا أَوْ مَُقدَّمًا في أَمْرٍ مُحَرَّمَ، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِذَلِكَ، وَلِكَنِّهُ لا يُكَفِّرُ. وَهَؤُلاءِ الخَوارِجُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ ما يُعْرَفُ بِالفِسْقِ وَالعِصْيانِ، إِنَّما إِمَّا إِيمانٌ وَإِمَّا كُفْرٌ، وَلِذَلِكَ يَحْمِلُونَ مِثْلُ هَذِهِ الآياتِ عَلَى أَنَّ مِنْ أَطاعَ الأَمِيرَ فَقَدْ كَفَرَ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذا كَذِبٌ وَضَلالٌ.
ومن أعظم ما يَستدل به هؤلاء فيما يتعلق بتكفيرهم للحكام والعلماء وعامة المسلمين؛ من أعظم ما يستدلون به في العصر الحديث موضوع الموالاة، وأن هؤلاء يوالون الكفار، وموالاةُ الكفار كفرٌ، وهذا ليس بصحيح على إطلاقه؛ لأن الموالاة التي تقتضي المحبة والنصرة، باختيار وإرادة، هذه التي تقتضي الكفرَ؛ كما دلت النصوص.
أما ما كان من الموافقة، أو المعاشرة الحسنة، أو المحبة الطبيعية التي تكون بين الناس لما يكون بينهم من إحسان، فإن هذا لا ينهى الله تعالى عنه؛ لذلك قال الله عز وجل: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ﴾ وهذه مرتبة الإحسان ﴿وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ وهذه المرتبة مرتبة العدل ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ الممتحنة: 8.
فلذلك استدلالاتهم بآيات الموالاة على تكفير المسلمين، لإقامتهم العلاقات مع الكفار، وإقامتهم العلاقات والمصالح مع غير المسلمين؛ في غير موضعها، بل إن الله تعالى أثبت محبة بين المسلم والكافر فيما إذا كانت محبة طبيعية؛ إما بسبب قربى، أو بسبب زواج؛ الله تعالى يقول: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ الروم: 21 أليس للمسلم أن يتزوج كافرة، وإذا تزوج كافرة أليس يحبها ويأنس بها، ويكون بينه وبينها ود؟ بلى، هذا لم ينهَ الله تعالى عنه، بل هذا من آيات الله عز وجل، وقد قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ المائدة: 5 الآيةَ.
فدلت الآية الكريمة على حل نكاح نساء أهل الكتاب، وبمقتضى الحال يقوم بين الرجل وامرأته من الود والمحبة ما هو طبيعي، ولا يلام عليه الإنسان، ولو كان هذا الود وهذا الحب محرمًا لَمَا أذن الله تعالى في النكاح.
ومعلوم أن صلة الرجل بالمرأة صلة وثيقة ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ البقرة: 187 فليس ثمة أقرب للرجل من امرأته، ولا أقرب للمرأة من زوجها.
وبالتالي ينبغي أن يُفهم أن ما يتعلق بالموالاة له تفصيلات، وفيه بيان، يتبين ذلك من معرفة النصوص بمجموعها من الكتاب والسنة، وما قاله الأئمة والعلماء، وليس أن يطلق الإنسان أن الموالاة كفر، ثم يأتي وينزل ذلك على أهل الإسلام فيحكم بكفر ولاة الأمر، ويحكم بكفر العلماء، ويحكم بكفر المجتمعات بناء على تنزيل الآيات في غير موضعها، والاستدلالِ بها في غير محالّها، وكل هذا من الإلحاد في آيات الله.
ما المخرج أيها الإخوة من هذه الانحرافات؟ كيف يُواجَه مثل هذا الانحراف العظيم الذي تصطلي الأمة بشره وضره منذ أزمنة بعيدة، وقد زاد ذلك في الآونة الأخيرة مع هذا التغوُّل، واستغلال أعداء الإسلام لهذه الطرق المنحرفة، والأحزاب الضالة، والجماعات المتطرفة التي لا تخدم دينًا، ولا تنصر حقًّا، إنما توافق أهواء أصحابها، وتسير في ركاب أعداء الأمة، كيف يُواجَه هؤلاء؟ كيف يواجه إلحادهم؟
يواجه إلحادهم أولا: بنشر العقيدة الصحيحة، فبقدر ما نتمكن من نشر العقائد الصحيحة، والعلوم النافعة بين الناس؛ نقضي على جهل هؤلاء.
ولهذا علي رضي الله تعالى عنه لما انفرد هذا العدد من الناس، وهم الخوارج، اثنا عشر ألفًا؛ بعث إليهم عالِمًا من علماء الصحابة، وهو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ليِحاججهم، ويناقشهم، ويقيم الحجة عليهم، فتكلم معهم، وإن كانوا قد روجوا عدم قبول مناقشته قبل أن يأتيهم، فقالوا: لا تحاجوا هؤلاء -يقصد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- فقد قال الله تعالى عنهم ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ الزخرف: 58 يعني قريشًا، ومن كان ضد النبي صلى الله عليه وسلم.
هؤلاء نزلوا هذه الآية على عبد الله بن عباس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من نماذج تحريفهم الكلِم عن مواضعه.
لكنه رضي الله تعالى عنه لما جاء إليهم بيَّن لهم بالعلم، والحجة، والبرهان، والدلائل المتنوعة، ضلالَ ما هم عليه، وصحةَ ما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع ثلثاهم.
فالعلم والعقيدة الصحيحة ونشر الهدى بين الناس يقطع الطريق على هؤلاء الضلال الذين يزعمون الغيرة على دين الله، ويزعمون النصرة لشرع الله، ويزعمون صيانة حرمات المسلمين، وهم أول مَن يَستبيح دماء المسلمين، وأول من يكون عتبةً لاستحلال حرماتهم، فنشر العلم الصحيح مما يقطع الطريق على هؤلاء، ويبين ضلالهم، وهو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال له الرجل: اعدل يا محمد، فقال: «وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟». ثم قال: «أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ؟».
أما الطريق الثاني الذي تحصل به صيانة الأمة من شرور هؤلاء وضرهم فهو: بيان خطورة الخوارج، وخطورة هذا الفكر المنحرف.
ولهذا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يبينون ذلك ويجلونه، فقد بين علي رضي الله تعالى عنه ضلالَ هؤلاء في تفسير قوله تعالى ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ فاطر: 8 قال رضي الله تعالى عنه: أحسب أنهم الخوارج. أي: أنه زين لهم سوء عملهم، فهم عندهم نشاط وقوة وإقبال، ولكن في ضلالة وعماء، ليس في هدى وبصيرة وإقامة لدين الله.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم منهم في أحاديث عديدة، منها ما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، في قصة هذا الرجل الذي جاء فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: اعدل يا محمد، لما ولى الرجل بعد أن رد النبي صلى الله عليه وسلم قوله، قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا» أي: من عَقِبِه «قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ»، ثم انتبه إلى أوصافهم، هكذا يبين النبي صلى الله عليه وسلم أوصاف الضلالة، ويحارب هذا الفكر ببيان صفات أهله: «لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» القرآن لا يجاوز حناجرهم، معنى هذا أن نصيبهم من القرآن التلاوةُ فقط، ليس لهم نصيب من فهمه، ولا يؤثر صلاحًا في قلوبهم، وليس عندهم نور يفهمون به كلام الله عز وجل، «يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» ثم قال صلى الله عليه وسلم: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ»، بعد ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ».
وقد جاء عن علي رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر قال: «يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ» أعمارهم صغيرة «سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ» عقولهم ضعيفة «يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ» يستدلون بالقرآن والسنة، هذا قول خير البرية: كتاب الله عز وجل. قال: «يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» لماذا؟ قال: «لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ»، كل دينهم هو في كلامهم، وما يظهرونه من قول، ليس لقلوبهم نصيب من هذا الإيمان، ولا هداية من نور القرآن. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَهُمْ فَلْيُقَاتِلْهُمْ؛ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وقد جاء عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ» أَيْ: تَتَجارَى بِهِمُ الضَّلالاتُ وَالانْحِرافاتُ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ العَوْدَةَ إِلَى الحَقِّ وَالهُدَى، مِنْ شِدَّةٍ تَمَكُّنِ الضَّلالِ في قُلُوبِهِمْ، يَقُولُ: «لَا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ»، قِيلَ: ما سِيماهُمْ؟ - أَيْ: ما عَلاماتُهُمْ؟- قالَ: «سِيمَاهُمُ التَّحليقُ» أَيْ: حَلْقُ الرُّءُوسِ.
هَذا بَيانُ الطَّرِيقِ الثَّانِي مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي يُقابَلُ بِها ضَلالُ هَؤُلاءِ، هُوَ أَنْ تُبَيِّنَ بِها النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةَ وَكَلِماتُ الأَئِمَّةِ في بَيانِ خُطُورَةِ هَذا الانْحِرافِ وَضَلالِهِ، وَأَنَّهُ يَقُودُ إِلَى النَّارِ، وَلا يَهْدِي إِلَى سَبِيلٍ، وَلا إِلَى سَعادَةٍ، وَلا إِلَى بَرٍّ؛ لا في الدُّنْيا، وَلا في الآخِرَةِ.
الطَّرِيقُ الثَّالِثُ مِنْ طُرُقِ رَدِّ ضَلالاتِ هَؤُلاءِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ تَأْوِيلاتِ وَإِلْحادِ الخَوارِجِ في آياتِ اللهِ: الحوار والمناصحة وتفنيد الشبهات، وهذا يحتاج إلى أهل البصائر من أهل العلم؛ أن يجتهدوا وأن يبذلوا، وأن يصبروا وأن يحتسبوا، لن يكون هذا سهلًا؛ فإن هؤلاء عندهم من سلاطة اللسان، وسوء البيان، وقبح الكلام ما يصدُّ كثيرًا من الناس عن أن يبينوا الحق ويدعوا إليه، فتجدهم كل من خالفهم عبيد السلطان، أصحاب الدنيا، أصحاب مصالح، علماء سوء... وما إلى ذلك من قواميس ومفردات السوء والشر التي تطفح بها كتاباتهم، ويُملأ بها أسماع الناس عندما يُرَد على شُبههم، فلا بد من الصبر، وهذا من مهام أهل العلم والبصيرة؛ أن يحتسبوا الأجر عند الله؛ فإن جهاد هؤلاء من أعظم الجهاد، وجهادهم بالعلم والبيان، والسيف والسنان.
أما العلم والبيان فهو مهمة أهل العلم وأهل الفكر وأهل البصيرة وأهل الدراية؛ يجادلونهم بالتي هي أحسن، ويبينون ضلالاتهم، ويعرفونهم انحرافهم، وكل هذا مما يجري الله تعالى به الأجر على أهل الإسلام، وقد فعله رسول الله؛ فهو إمامنا صلوات الله وسلامه عليه وقدوتنا، وقد فعلة خيار الأمة؛ ففعله ابن عباس، وفعله غيره من الصحابة الكرام في رد ضلالات هؤلاء وصد ما كانوا عليه من انحراف.
هؤلاء إذا أظهروا بدعتهم، ونشروا الفساد في الأرض؛ فإنه من سبل معالجتهم ما وجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال بعد أن ذكر ضلالتهم كما في الصحيحين في حديث علي رضي الله تعالى عنه: «فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ؛ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وقد أجمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على قتال الخوارج، وأن قتالهم مما يُؤجَر عليه الإنسان؛ وذلك لعظيم الضرر الحاصل بهم.
ولهذا من حق الأمة، ومن حق كل مسلم على إخوانه أن إذا علِم بانحراف، أو ضلاله، أو تبني هذه الآراء المنحرفة، وهذه الأفكار الضالة، أن يجتهد في إيصال الأمر إلى من له الأمر؛ لأجل أن يُعالَج الانحراف، وأن يبادَر إلى تقويم المنهج، لكن يجب أن يتحرى الصدق والعدل، فإذا علم من أحدٍ تبنيَ هذه الأفكار أو الدعوة إليها أو إيواء أهلها أو دعم هؤلاء بمال، أو دعم بهؤلاء بإيواء، أو بغير ذلك؛ فإن النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم تقتضي أن يبلغ عن هؤلاء، ولو كان أقرب قريب؛ فإنه نصيحة لهذا المنحرف، وهو نصيحة للأمة؛ لأنك تقيه وتحفظه من أن يقع في ضلالة، أو يَمَسّ الأمة بتفجير أو تكفير يكون عواقبه على الأمة سوءًا وشرًّا.
ومن سبل السلامة والوقاية من هذا الانحراف: أن يضرع المؤمن لربه بتمام الافتقار أن يهدي قلبه، وأن يحفظه من الزيغ والضلال؛ فإن الفتن أيها الإخوة خطافة، وسيدُ الورى صلوات الله وسلامه عليه كان يقول في قيامه لليل: « «اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ ».
سل الله الهداية بصدق، وسله جل وعلا أن يثبتك على الصراط المستقيم، وأن يقيك الانحراف والضلال، وألا يزيغ قلبك بعد الهدى؛ فإن الشُّبَهَ خطافة، والقلوب ضعيفة، وكلما قلت بضاعة الإنسان في العلم زلت قدمه في أنواع الضلال والانحراف.
لهذا يجب علينا أن نجتمع على علمائنا، وأن نعرف عمن نأخذ ديننا؛ فإن هذا العلم دين، لا يؤخذ عن المجاهيل، ولا يؤخذ عمن لم يأخذ عن العلماء؛ فإن العلماء سلسلة متصلة يصل سَنَدُها