إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ رَبُّ العالمينَ لا إِلَهِ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسان ٍإلىَ يَوْمِ الدِّينِ.
أمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- حَقَّ التَّقْوَى، وَالْزَمُوا أَمْرَهُ في السِّرِّ وَالعَلَنِ، وَقُومُوا بِحَقِّهِ فِيما أَمَرَكُمْ بِهِ، وَفِيما نَهاكُمْ عَنْهُ؛ رَغْبَةً فِيما عِنْدَهُ، وَخَوْفًا مِنْ عِقابِهِ، فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ -جَلَّ وَعَلا- تَجْلِبُ السَّعاداتِ، وَتَدْفَعُ عَنِ النَّاسِ كُلَّ سُوءٍ وَشَقاءٍ وَتَعاسَةٍ ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾الطلاق:2-3.
عِبادَ اللهِ, خَلَقَ اللهُ -تَعَالَى- الإِنْسَ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الاجْتِماع ِوَالائْتِلافِ ما ذَكَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- في كِتابهِ؛ حَيْثُ قالَ: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾يونس:19، فَكانَ أَصْلُ البَشَرِيَّةِ الاجْتِماعَ، وَقَدْ قالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾البقرة:213، وَهَذِهِ الأُمَّةُ جَمَعَها عِبادَةُ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، فالَّذي جَمَعَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرينَ، كانَ مَبْدَأُ حالِ الإِنْسانِ أَنَّهُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى طاعَةِ الرَّحْمنِ، فَلَمَّا تَخَطَّفَتْهُمُ الشَّياطِينُ، لماَّ اجْتالَتْهُمْ في طُرُقِها وَخُطُواتِها تَفَرَّقُوا فَكانُوا شِيَعًا وَأَحْزابًا، وَأَغْرَى الشَّيْطانُ بَيْنَهُمُ العَداوَةَ وَالبَغْضاءَ، وَسَعَى بَيْنَهُمْ بِكُلِّ فُرْقَةٍ وَشَرٍّ، فَكُلَّما الْتَزَمَ النَّاسُ عِبادَةَ اللهِ وَحْدَهُ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى شَرْعِهِ كانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبابِ قِلَّةِ الخِلافِ بَيْنَهُمْ، وَكانَ ذَلِكَ جامِعًا لهَمْ مَعَ أَوَّلهِمْ وَآخِرِهِمْ، قالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾المؤمنون:52، وَالَّذي جَمَعَها هُوَ الرِّباطُ الَّذي لا يَنْخَرِمُ، وَلا يَخْتَلُّ، وَلا يَتَخَلَّفُ زَمانًا وَمَكانًا وَحَالًا، قالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾الحُجُرات:10؛ فَجَمَعَ اللهُ -تَعَالَى- الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ بِرِباطٍ لا يَخْتَلُّ، وَهُوَ أُخُوَّةُ الدِّينِ وَما اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبادَةِ رَبِّ العالمينَ، فَلَمَّا اجْتالتْهُمُ الشَّياطِينُ وَقَعَ ما وَقَعَ مِنَ الخِلافِ بَيْنَهُمْ، «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ»البُخارِيُّ(2039) ، وَلا يَأْلُو جُهْدًا في كُلِّ ما يَكُونُ سَبَبًا لِلفُرْقَةِ بَيْنَ النَّاسِ، يَسْعَى ذلِكَ جاهِدًا بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَمِنْ كُلِّ سَبِيلٍ، وَقَدْ قالَ اللهُ -تَعَالَى- في بيانِ كَيْدِهِ وَإِرادَتِهِ، قالَ: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ﴾المائدة:91.
وَهَذا يُبَيِّنُ أَنَّ الفُرْقَةَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ تَخَلُّفِ إِقامَةِ الدِّينِ وَشَعائِرِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطانَ يَسْعضى إِلَى بَثِّ العَداوَةِ وَالبَغْضاءِ بِأَسْبابٍ، ذَكَرَ اللهُ مِنْها: الخَمْرَ وَالميْسِرَ، ثُمَّ ذَكَرَ عاقِبَةَ هَذِهِ الفُرْقَةَ، وَتِلْكَ العَداوَةَ مِنَ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، عَنْ إِقامِ الصَّلاةِ، عَنْ إِقامَةِ الشَّعائِرِ الَّتي بِها تَصْلُحُ حالُ النَّاسِ، فالشَّيْطانُ حَرِيصٌ غايَةَ الحِرْصِ عَلَى إِيقاعِ العَداوَةِ بَيْنَ النَّاسِ، عَلَى نَشْرِ البَغْضاءِ بَيْنَهُمْ، عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ اجْتِماعِهِمْ، بِكُلِّ سَبِيلٍ وَطَرِيقٍ؛ لِيُدْرِكَ ما يُأَمِّلُوا مِنَ الشَّرِّ وَالفَسادِ في حَياةِ النَّاسِ، وَأَنَّهُ لا يَقْتَصِرُ ذَلِكَ عَلَى رابِطَةٍ دُونَ رَابِطَةٍ، بَلْ يَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّ العَلاقاتِ، وَكُلَّ الصِّلاتِ، وَكُلَّ الارْتِباطاتِ الَّتي تَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صُورَةً مِنْ ذَلِكَ؛ وَهِيَ ما يَسْعَى إِلَيْهِ إِبْليسُ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الأَزْواجِ، جاءَ ذَلِكَ في الصَّحيحِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: «إنَّ إبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ علَى الماءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَراياهُ، فأدْناهُمْ منه مَنْزِلَةً»؛ أَيْ أَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَكانَةً «أعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: فَعَلْتُ كَذا وكَذا، فيَقولُ: ما صَنَعْتَ شَيْئًا، قالَ ثُمَّ يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: ما تَرَكْتُهُ حتَّى فَرَّقْتُ بيْنَهُ وبيْنَ امْرَأَتِهِ، قالَ: فيُدْنِيهِ مِنْهُ»؛ أَيْ فَيُقَرِّبُهُ، «وَيَقُولُ: نِعْمَ أنْتَ»مُسْلِمٌ(2813)؛ أَيْ: أَنْتَ الَّذي حَقَّقْتَ المطْلُوبَ وَالمرادَ، قالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾المائدة:91.
وَلهذا يَنْبَغِي لِلمُؤْمِنِ أَنْ يَأْخُذَ بِوَصِيَّةِ اللهِ -تَعَالَى- الَّتي تَقْطَعُ عَلَى الشَّيْطانِ كَيْدَهُ، مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ النَّاسِ؛ وَذَلِكَ بِكُلِّ سَبِيلٍ يَكُونُ سَبَبًا لِلاجْتِماعِ، وَنَأْيًا عَنِ الفُرْقَةِ؛ فَإِنَّ الفُرْقَةَ غَرَضُ الشَّيْطانِ وَمَقْصُودُهُ، يُحَقِّقُ ذَلِكَ بِأَسْبابٍ، يُدْرِكُ ذَلِكَ مِنْ خِلالِ طُرُقٍ، فَمِنَ الخَمْرِ وَالميْسِرِ، وَمِنْ غَيْرِهِما مِنَ السُّبُلِ، يِحْصُلُ شَرٌّ عَظيمٌ وَفَسادٌ كَبِيرٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- المؤْمِنينَ بِأَنْ يَقُولُوا قَوْلًا حَسَنًا، وَأَنْ يَحْفَظُوا أَلْسَنَتَهُمْ مِنَ السُّوءِ وَالشَّرِّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ القَوْلَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ ما تَحْصُلُ بِهِ الفُرْقَةُ بَيْنَ النَّاسِ، قالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾الإسراء:53، فَأَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- المؤْمِنينَ أَنْ يَتَحَرَّوْا في القَوْلِ لَيْسَ الحُسْنُ فَقَطْ، بَلِ الأَحْسَنُ، وَهُوَ أَجْوَدُ ما يَسْتَطِيعُونَهُ مِنَ القَوْلِ ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ﴾الإسراء:53؛ أَيْ: يَسْعَى في التَّفْرِيقِ وَالتَّحْرِيشِ، وَيَسْعَى في التَّباعُدِ بَيْنَ أَهْلِ الإيمانِ ما يُوقِعُ الشَّرَّ وَالفَسادَ بَيْنَهُمْ.
فَقُولُوا أَيُّها المؤْمِنُونَ قَوْلَ الَّتي هِيَ أَحْسَنُ، ﴿وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾الأَحْزابُ:70-71، فَكُلُّ غَرَضٍ تُرِيدُهُ يُمْكِنُ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ: طَرِيقٍ وَعْرٍ بِكَلامٍ سَيِّءٍ، أَوْ طَرِيقٍ سَهْلٍ بِكَلامٍ لَطِيفٍ، فَلا تَعْدِلْ عَنِ الَّلطافَةِ في القَوْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ امْتِثالٌ لأَمْرِ اللهِ، وَقِيامٌ بِشَرْعِهِ، وَهُوَ امْتِثالٌ لِتَوْجِيهِ رَبِّ العالمينَ الَّذي أَمَرَكَ بِالقَوْلِ الأَحْسَنِ، وَبِالقَوْلِ السَّدِيدِ ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾الإسراء:53.
أَقُولُ هَذا القَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظيمَ لِي وَلَكُمْ، فاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمينَ، أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْهِ هُوَ كَما أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحابِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾الأحزاب:70-71.
عِبادَ اللهِ, إِنَّ المؤْمِنَ يَسُدُّ عَلَى الشَّيْطانِ كُلَّ طَرِيقٍ يَصِلُ مِنْ خِلالِهِ إِلَى الإِفْسادِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنَّ فَسادَ ما بَيْنَ النَّاسِ يُفْضِي إِلَى فَسادِ ما بَيْنَ الإِنْسانِ وَرَبَّهِ، وَقَدْ قالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بَيانِ التَّواصُلِ، أَوْ في بَيانِ الاتِّصالِ، قالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بَيانِ الاتِّصالِ بَيْنَ هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ، بَيْنَ حُسْنِ الصِّلَةِ بِالنَّاسِ، وَحُسْنِ الصِّلَةِ بِاللهِ ما رَواهُ أَحْمَدُ بِإِسْنادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لا يَشْكُرُ النَّاسَ»أحمد(7938),بإسناد صحيح، وَمَنْ لا يُحْسِنُ إِلَى النَّاسِ لا يُحْسِنُ في صِلَتِهِ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَلِذَلِكَ مِنَ الضَّروراتِ الَّتي تُغْلِقُ بِها الطَّرِيقَةَ عَلَى الشَّيْطانِ أَنْ تُصْلِحَ ما بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ قالَ اللهُ -تَعَالَى-: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾الأنفال:1، وَإِنَّ مِنْ قَواعِدِ الإِصْلاحِ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَتَجَنَّبَ الِإنْسانُ كُلَّ ما يَكُونُ سَبَبًا لِلشَّرِّ وَالفَسادِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَأَنْ لا يَتْرُكَ لِلشَّيْطانِ طَرِيقًا وَمَنْفَذًا يَصِلُ إِلَى غَرَضِهِ وَغايَتِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطانَ عَظِيمُ الحِرْصِ كَبِيرُ العِنايَةِ بِكُلِّ ما يُباعِدُ بَيْنَ القُلُوبِ وَيُفَرِّقُها، لأَنَّهُ إِذا فَرَّقَها وَباعَدَ بَيْنَها، كانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَحْصِيلِ غَرَضِهِ، وَإِدْراكِ مَقْصُودِهِ مِنَ الفَسادِ بَيْنَ الخَلْقِ؛ لهَذا جاءَ في الصَّحيحِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ»مسلم(2812)، وِذِلِكَ بَعْدَ ظُهُورِ الإِسْلامِ، وَانْتِشارِ ضِياءِهِ، وَإِقْبالَ النَّاسِ عَلَى دِينِ رَبِّ العالمينَ؛ كَما قالَ اللهُ -تَعَالَى-: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾النصر:1-3..
رَأَى إِقْبالَ النَّاسِ في زَمَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلى الدِّينِ، وَعَلَى الإِيمانِ فَأَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المصَّلُونَ؛ أَيْ: أَنْ يَسْتَقِرَّ لَهُ عِبادَةٌ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، أَوْ أَنْ تَقُومَ لَهُ سُوقٌ رَائِجَةٌ فِيها لإِخْراجِ النَّاسِ عَنْ عِبادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَكِنَّهُ لمْ يَيْأَسْ مِنْ أَمْرٍ يَصِلُ مِنْ خِلالِهِ إِلَى فَسادٍ عَرِيضٍ، وَشَرٍّ كَبِيرٍ، قالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ»مسلم(2812)؛ أَيْ: فانْحَصَرَ سَعْيَهُ في غالِبِ سَعْيِهِ عِنْدَ ظُهُورِ الدِّينِ في التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ؛ أَيْ في إِثارَةِ النَّعَراتِ، وَإِيغارِ الصُّدُورِ، وَأَذِّ القُلُوبَ إِلى التَّفَرُّقِ وَالبَغْضاءِ وَالعَداوَةِ الَّتي يَتَرَتَّبُ عَلَيْها مِنَ الشُّرُورِ وَالفَسادِ ما يَتَرَتَّبُ.
فَكُنْ حَرِيصًا أَيُّها المؤْمِنُ عَلَى حُسْنِ الصِّلَةِ، وَجَمِيلِ القَوْلِ، وَعَلَى حُسْنِ العَمَلِ، وَطِيبِ الفِعْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُبْعِدُ عَنْكَ الشَّيْطانَ، وَمِمَّا يُصْلِحُ ما بَيْنَكَ وَبَيْنَ الملكِ الدَّيّانِ، فَإِنَّ صَلاحَ ما بَيْنِكَ وَبَيْنَ النَّاسِ صَلاحٌ لما بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى طاعَتِكَ، وَاصْرِفْ عَنَّا مَعْصِيتَكَ، وَاصْرِفْ عَنَّا كَيْدَ الشَّيْطانِ بِقُوَّتِكَ وَعِزَّتِكَ يا ذا الجَلالِ وَالِإكْرامِ، أَعِذْنا مِنْ مَكْرِهِ وَكَيْدِهِ، وَاحْفَظْنا مِنْهُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينا وَمِنْ خَلْفِنا، وَعِنْ أَيْمانِنا، وَعَنْ شَمائِلَنا، وَنَعُوذُ بِكَ أَنْ نُغْتالَ مِنْ تَحْتِنا يا ذا الجَلالِ وَالإكْرامِ، الَّلهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، نَسْأَلُكَ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ أَنْ تَحْفَظَ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ، وَأَنْ تُعِزَّ أَهْلَ الإِسْلامِ، وَأَنْ تُظْهِرَ علائِمَ الدِّينِ في كُلِّ مَكانٍ، رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرينَ، الَّلهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُمُورِنا، واجْعَلْ وِلايَتَنا فِيمَنْ خافَكَ، وَاتَّقاكَ، وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنا إِلَى ما تُحِبُّ وَتَرْضَى، سَدِّدْهُ في القَوْلِ وَالعَمَلِ، وَاجْعَلْ لَهُ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا، اللَّهُمَّ احْفَظْ بِلادَ الحَرَمَيْنِ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَشَرٍّ، وَرُدَّ كَيْدَ الكائِدِينَ في نُحُورِهِمْ.
اللَّهُمَّ وَانْصُرْ جُنودَنا المقاتِلَينَ وَالمرابِطينَ وَالقائِمينَ عَلَى أَمْنِ هَذِه البِلادِ، الَّلهُمَّ انْصُرْهُمْ عَلَى مَنْ عاداهُمْ، الَّلهُمَّ كُنْ لهُمْ ظَهيرًا وَنَصيرًا، وَمُعْينًا وَمُؤَيِّدًا يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ، اللَّهُمَّ وَاكْتُبْ مِثْل ذَلِكَ لِسائِرِ بِلادِ المسْلِمينَ، ذُبَّ عَنْهُمُ الفِتَنَ، وَاجْمَعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ وَالهُدَى، وَفِّقْ وُلاتَهُمْ إِلَى ما تُحِبُّ وَتَرْضَى، أَعِنَّا جَمِيعًا عَلَى ما فِيهِ خَيْرُ دِينِنا وَدُنْيانًا، أَيُّها المؤْمِنُونَ صَلُّوا عَلَى نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَإِنَّ صَلاتُكُمْ عَلَيْهِ في هَذا اليَوْمِ لهَا مَزِيَّةٌ وَمَنْزِلَةٌ، فَقَدْ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ فَقالَ: «إِنَّ مِنْ أَفْضَلش أَيَّامِِكُمْ يَوْمَ الجُمْعَةِ..فَأَكْثِرُوا عَلَىَّ مِنَ الصَّلاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلىّ»أَخْرَجَهُ: أَبُو داودَ(1047), وَالنَّسائِيُّ(1374), وَهُوَ: صَحيحٌ، فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنَ الصَّلاةِ عَلَيْهِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجيدٌ.