المطلبُ الثاني: منعُ إجزاءِ الشعيرِ في زكاةِ الفطرِ في الأماكنِ التي لا يُعَدُّ فيها قوتًا:
ذهبَ إليهِ شيخُنا -رحمهُ اللهُ- مِن عدمِ إجزاءِ إخراجِ الشعيرِ في زكاةِ الفطرِ، حيثُ قالَ: «إذا نصَّ الشرعُ على شيءٍ ذي فائدةٍ في وقتِ الرسالةِ، ثم عُدِمَتْ منفعتُهُ التي تكونُ في وقتِ الرسالةِ، فهل نتَّبعُ المعنى أو نتَّبعُ اللفظَ؟ العلماءُ يختلفونَ في هذا، ومِن ذلكَ: الشعيرُ، والأقطُ في زكاةِ الفطرِ منصوصٌ عليها، وهما في ذلكَ الوقتِ قوتٌ للناسِ، سواءٌ كانوا في الباديةِ أو في الحاضرةِ، وفي الوقتِ الحاضرِ ليسا قوتًا، فهل نتبعُ اللفظَ ونقولُ: هذا شيءٌ عيَّنَهُ الشرعُ فهو مجزئٌ، سواءٌ كانَ قوتًا للناسِ أو لا؟ أو نقولُ: إذا أصبحَ واحدٌ مِن هذهِ الأربعةِ غيرَ قوتٍ فإنهُ لا يجزئُ؟ فيهِ احتمالٌ واحتمالٌ، لكنِ الاحتمالُ الأخيرُ بالنسبةِ للفطرةِ أصحُّ؛ لأنهُ ثبتَ في البخاريِّ مِن حديثِ أبي سعيدٍ رضي الله عنه قالَ: "كُنَّا نُخْرِجُهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَكَانَ طَعَامُنا يَوْمَئِذٍ التَّمْرَ وَالشَّعِيرَ وَالزَّبِيبَ وَالْأَقِطَ" أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر صاع من طعام، رقم (1504)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، رقم (985). من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.، فهذا صريحٌ أنَّ العلةَ هي الطعامُ، وكما قالَ عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ رضي الله عنه: "فَرَضَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً للصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وطُعْمَةً للمَسَاكِينِ" رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر، رقم (1609)، وابن ماجه كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر، رقم (1827).» الشرح الممتع على زاد المستقنع (10/95-96)..
وقالَ شيخُنا في موضعٍ آخرَ، في جوابِ مَن سألَهُ عنِ اختيارِهِ عدمَ الإجزاءِ: «قولُنا هذا في قومٍ ليسَ الشعيرُ قوتًا لهم؛ لأنَّ مِن حكمةِ إيجابِ زكاةِ الفطرِ أنها طُعْمَةٌ للمساكينِ، وهذهِ لا تتحقَّقُ إلا حينَ تكونُ قوتًا للناسِ، وتعيينُ التمرِ والشعيرِ في حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضي الله عنه ليسَ لعلَّةٍ فيهما، بل لكونِهما غالبَ قوتِ الناسِ وقتئذٍ، بدليلِ ما رواهُ البخاريُّ في بابِ الصدقةِ قبلَ العيدِ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قالَ: "كُنَّا نُخرجُ في عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ الفطرِ صاعًا مِن طعامٍ"، قالَ أبو سعيدٍ: "وكانَ طعامُنا الشعيرَ، والزبيبَ، والأقِطَ، والتمرَ". وفي الاستذكارِ لابنِ عبدِ البرِّ (9/263): (وقالَ أشهبُ: سمعتُ مالكًا يقولُ: لا يؤدي الشعيرَ إلا مَن هو أكلُهُ، يؤدِّهِ كما يأكلُهُ) اهـ، وعبَّرَ كثيرٌ مِنَ الفقهاءِ بقولِهِم: يجبُ صاعٌ مِن غالبِ قوتِ بلدِهِ. وفي بدايةِ المجتهدِ (1/182): (وأمَّا مِن ماذا تجبُ؟ فإنَّ قومًا ذهبوا إلى أنها تجبُ إمَّا مِنَ البُرِّ، أو مِنَ التمرِ، أوِ الشعيرِ، أوِ الزبيبِ، أوِ الأقطِ، وأنَّ ذلكَ على التَّخييرِ للذي تجبُ عليهِ، وقومٌ ذهبوا إلى أنَّ الواجبَ عليهِ هو غالبُ قوتِ البلدِ، أو قوتِ المكلَّفِ إذا لم يقدرْ على قوتِ البلدِ). وقالَ في الروضةِ النديَّةِ (1/813) : (هي صاعٌ مِنَ القوتِ المعتادِ عن كلِّ فردٍ). اهـ. وفي المحلَّى(6/621) في معرضِ مناقشةِ جنسِ ما يخرجُ قالَ: (أمَّا المالكيّونَ والشافعيّونَ فخالفوها جملةً؛ لأنهم لا يُجيزونَ إخراجَ شيءٍ مِن هذهِ المذكوراتِ في هذا الخبرِ، إلا لِمَن كانتْ قوتَهُ)» مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (18/183)..