المطلبُ الثالثُ: النوازلُ التي استُنْبِطَ حكمُها استنادًا لقاعدةِ درءِ المفاسدِ أوْلى مِن جلبِ المصالحِ:
هذهِ القاعدةُ اتفقَ الفقهاءُ على مضمونِها ينظر: قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام (1/83)، الأشباه والنظائر، للسبكي (1/105).، يقولُ شيخُنا -رحمهُ اللهُ- في إيضاحِ هذهِ القاعدةِ: «الشيءُ المطلوبُ شرعًا، إذا خيفَ أن يترتبَ عليهِ مفسدةٌ، فإنهُ يجبُ مراعاةُ هذهِ المفسدةِ، وأن يتركَ، والقاعدةُ المقررةُ عندَ أهلِ العلمِ أنهُ إذا تعارضتِ المصالحُ والمفاسدُ معَ التساوي، أو معَ ترجُّحِ المفاسدِ، فإنَّ درءَ المفسدةِ أولى مِن جلبِ المصلحةِ، وهذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أرادَ أن يهـدمَ الكعبةَ، وأن يُجَدِّدَ بناءَها على قواعدِ إبراهيمَ، ولكنْ لَمَّا كانَ الناسُ حديثِي عهدٍ بكفرٍ، تركَ هذا الأمرَ المطلوبَ خوفًا مِنَ المفسدةِ، فقالَ لعائشةَ رضي الله عنه: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ، وَبَنَيْتُهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهيمَ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ؛ بَابًا يَدْخُلُ مِنْهُ النَّاسُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ» أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، رقم (1586)، ومسلم، كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، رقم (1333). من حديث عائشة رضي الله عنه.» مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (12/316)..
ومِنَ المسائلِ التي وقفتُ عليها، وكانتْ محلًّا لتطبيقِ هذهِ القاعدةِ: مسألةُ التبرعِ بالأعضاءِ، فإنَّ مِن نتاجِ التطورِ الطبيِّ التمكنَ مِن نقلِ الأعضاءِ البشريةِ، وقد تناولَ شيخُنا -رحمهُ اللهُ- هذهِ المسألةَ، وظهرَ إعمالُهُ لهذهِ القاعدةِ في التوصُّلِ لحكمِ التبرعِ بالأعضاءِ، فقالَ في جوابِ سؤالٍ عنِ التبرُّعِ بالكُلْيةِ، هل يجوزُ أو لا؟: «قالَ بعضُهم: يجوزُ؛ لأنَّ الإنسانَ قد يحيا على كُليةٍ واحدةٍ، وهذا غلطٌ.
أولًا: لأنهُ أزالَ شيئًا خلَقَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ، وهذا مِن تغييرِ خلقِ اللهِ، وإن كانَ ليسَ تغييرًا ظاهرًا، بل هو في الباطنِ.
ثانيًا: أنهُ لو قُدِّرَ مرضُ هذهِ الكُليةِ الباقيةِ أو تلفُها، هلكَ الإنسانُ، لكنْ لو كانتْ الكُليةُ التي تبرَّعَ بها موجودةً لسَلِمَ.
ثالثًا: أنَّ الإقدامَ على التبرعِ بها معصيةٌ، فإذا ارتكبَها الإنسانُ، فقد ارتكبَ مفسدةً مُحقَّقَةً، وإذا زُرعتْ في إنسانٍ آخرَ فقد تنجحُ، وقد لا تنجحُ، فنكونُ قدِ ارتكبْنا مفسدةً محقَّقَةً لمصلحةٍ غيرِ محقَّقَةٍ، ولهذا نرى أنهُ لا يجوزُ للإنسانِ أن يتبرعَ بشيءٍ مِن أعضائِهِ مطلقًا حتى بعدَ الموتِ» الشرح الممتع على زاد المستقنع (12/403-404)..