المبحثُ الثالثُ: استنباطُ حكمِ النازلةِ بإدراجِها ضمنَ قاعدةٍ أو ضابطٍ فقهيٍّ:
عرَّف الفقهاءُ القاعدةَ والضابطَ بتعريفاتٍ كثيرةٍ يجمعُهما أنهما معنًى واحدٌ في الجملةِ، وهو أنَّ القاعدةَ والضابطَ قضيةٌ كليةٌ ينظر: القواعد الفقهية، للدكتور يعقوب الباحسين، ص (58 - 67).، ويفترقانِ في كونِ القاعدةِ لا تنحصرُ في بابٍ واحدٍ، بل تجدُ لها مدخلًا في أبوابٍ عديدةٍ، أمَّا الضابطُ فمحلُّهُ بابٌ واحدٌ غالبًا ينظر: القواعد الفقهية، للدكتور يعقوب الباحسين، ص (65)..
قالَ شيخُنا رحمهُ اللهُ: «الضابطُ يكونُ في مسألةٍ واحدةٍ، لكنْ يَضبطُ أفرادَهُ، مثلُ أن تقولَ: يجري الربا في كلِّ مكيلٍ، هذهِ ليستْ قاعدةً، هذا ضابطٌ؛ لأنهُ إنما يجمعُ أفرادًا في شيءٍ معينٍ، لكنِ القاعدةُ أن تقولَ: كلُّ أمينٍ فقولُهُ مقبولٌ في التَّلفِ، هذا يشملُ أشياءَ كثيرةً مِن أنواعٍ مختلفةٍ في العلمِ، فهذا هو الفرقُ بينَ القاعدةِ والضابطِ» شرح منظومة القواعد والأصول، لابن عثيمين (27-28).، ومِن أهلِ العلمِ مَن لا يفرِّقُ بينَ القاعدةِ والضابطِ، بل يستعملُ القاعدةَ بمعنى الضابطِ، والضابطَ بمعنى القاعدةِ الأشباه والنظائر للسبكي، ص (21)..
ولا ريبَ أنهُ بقدرِ إتقانِ القواعدِ وضبطِها واستحضارِها، يسهلُ إدراكُ المطلوبِ، وإدراجُ المسائلِ والحوادثِ تحتَ ما يناسبُها مِن قواعدِ الأحكامِ وضوابطِ الفقهِ، قالَ القرافيُّ رحمهُ اللهُ: «ومَن ضبطَ الفقهَ بقواعدِهِ، استغنى عن حفظِ أكثرِ الجزئياتِ؛ لاندراجِها في الكلياتِ، واتَّحدَ عندَهُ ما تناقضَ عندَ غيرِهِ وتناسبَ، وأجابَ الشاسعُ البعيدُ وتقاربَ، وحصَّل طِلبتَهُ في أقربِ الأزمانِ، وانشرحَ صدرُهُ لِمَا أشرقَ فيهِ مِنَ البيانِ، فبَيْنَ المقامينِ شأْوٌ بعيدٌ، وبينَ المنزلتينِ تفاوتٌ شديدٌ» الفروق للقرافي (1/71).، ولهذا يفزعُ الفقهاءُ إلى القواعدِ والضوابطِ؛ لاستنباطِ أحكامِ الحوادثِ والوقائعِ التي لم يتكلمْ عنها مَن تَقَدَّمَ مِنَ العلماءِ، ولم يشملْها نصٌّ بعمومٍ أو قياسٍ، يقولُ الشيخُ عليٌّ الندويُّ: «فأمَّا إذا كانتِ الحادثةُ لا يُوجَدُ فيها نصٌّ فقهيٌّ أصلًا؛ لعدمِ تعرُّضِ الفقهاءِ لها، ووُجدتْ القاعدةُ التي تشملُها، فيمكنُ عندئذٍ استنادُ الفتوى والقضاءِ إليها، اللهمَّ إلا إذا قُطِعَ أو ظُنَّ فرقٌ بينَ ما اشتملتْ عليهِ القاعدةُ وهذهِ المسألةُ الجديدةُ» القواعد الفقهية، ص (331). .
ولذلكَ كانَ شيخُنا رحمهُ اللهُ شديدَ العنايةِ بالأصولِ والقواعدِ، يقولُ رحمهُ اللهُ: «لا بدَّ مِن معـرفةِ الأصولِ والقواعدِ، ومَن لم يَعْرِفِ الأصـولَ حُــرمَ الوصولَ، وكثيرٌ مِن طلبةِ العلمِ تجدُهُ يحفظُ مسائلَ كثيرةً، لكنْ ما عندَهُ أصلٌ، لو تأتيهِ مسألةٌ واحدةٌ شاذَّةٌ عمَّا كانَ يحفظُهُ ما استطاعَ أن يعرفَ لها حلًّا ، لكنْ إذا عرفَ الضَّوابطَ والأصولَ استطاعَ أن يحكمَ على كلِّ مسألةٍ جزئيةٍ مِن مسائلِهِ، ولهذا فأنا أحثُّ إخواني على معرفةِ الأصولِ والضوابطِ والقواعدِ؛ لما فيها مِنَ الفائدةِ العظيمةِ» كتاب العلم لابن عثيمين، ص (111). .
لقد أخبرَ رحمهُ اللهُ أنهُ وجدَ ذلكَ بالتجربةِ، قالَ رحمهُ اللهُ: «وهذا شيءٌ جرَّبناهُ وشاهدناهُ معَ غيرِنا، على أنَّ الأصولَ هي المهمُّ» كتاب العلم لابن عثيمين، ص (111).، وفي فقهِهِ رحمهُ اللهُ شواهدُ هذهِ التجربةِ باديةٌ تسرُّ الناظرينَ.
وإليكَ جملةٌ مِنَ القواعدِ التي استندَ إليها شيخُنا-رحمهُ اللهُ- في استنباطِ عدةِ نوازلَ تناولَها بالبحثِ: