إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إلهُ الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، خيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَنِ اتبع سُنَّته واقتفى أَثَره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عبادَ الله؛ فهي وصية الله للأولين والآخرين: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا﴾ النساء:131 .
فاتقوا الله في السر والعلن، في الغيب والشهادة، فيما يتعلق بحقوق الله، وفيما يتعلق بحقوق الخلق؛ تنجوا من كل مَهلَكة، وتفوزوا بكل منحة وهبة وعطية في الدنيا والآخرة.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، وحزبك المفلحين، وأوليائك الصالحين يا رب العالمين.
أيها المؤمنون عبادَ الله:
خلق الله تعالى آدم، وأسكنه جنته، وأسجد له ملائكته، ولكن ﴿عَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ طه:121-122 ، فأهبطه الله تعالى من الجنة بعدما حصل من أكل ما نهاه الله تعالى عن أكله، ﴿لا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ البقرة:35 ، فأكل منها؛ فأُهبِط إلى الأرض، ثم إنه قد بُيّن له سبب خلقه، وأنه إنما خلقه الله تعالى ليطيع أمره، وليقيم شرعه، وليقوم بحقه، وأنه مختبَرٌ مبتلى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ طه:123-124 .
أنزله الله إلى هذه الأرض وقد عُمِرت قبله بخلائق كثيرين، إلَّا أن الله خصه بهذه الأرض بخاصية الاستعمار، أنه يعمرها، ويحقق العبودية لله تعالى فيها.
ووضع له بيتًا يعبد الله تعالى عنده، فكان أول بيت وُضع للناس هذه الكعبة التي يستقبلها الناس في مشارق الأرض ومغاربها؛ ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ آل عمران:96 .
هذا البيت له الأولية في الشرف والمكانة، وله الأولية في السبق والزمان؛ فهو أول مسجد وضع في الأرض كما قال صلى الله عليه وسلم، وكما دلّ عليه قوله جل في علاه: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾، خصَّه الله بخصائص ذكرها جل في علاه في آية واحدة، فقال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ آل عمران:96-97 ، جمعت هذه الآية خصائص هذه البِنية، وخصائص هذا البيت، وخصائص هذه القبلة، وخصائص هذه الكعبة التي يستقبلها المؤمنون، مُعظِّمين لله طائعين له، كما أمرهم الله تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ البقرة:144 .
هذه البنية شرفها الله، وكان من تشريفه لها أن أضاف الله تعالى هذا البيت إليه فقال: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ﴾ قريش:3 ؛ صاحب هذا البيت، ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ قريش:4 ، وأضافه إليه في قوله جل وعلا: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ الحج:26 .
أمر خليله، وأحبَّ خلقه إليه -إبراهيم عليه السلام- بأن يطهر البيت، وأن يعمره، وأن يرفع قواعده؛ فكان هذا مزيد تشريف وعناية بهذه البقعة المباركة، فطهَّره ورفع قواعده، طهَّره لماذا؟ طهره؛ ليقوم الناس فيه بعبادة الله، ويعيد الارتباط بأول بيت وضع للناس للعبادة والطاعة، فطهَّره للعاكفين والطائفين والراكعين والساجدين، إنهم العابدون لله عز وجل بشتى أنواع القربات، وألوان العبادات والطاعات.
طهره الله عز وجل من الشرك؛ +فنَجى هذا البيت من أن يُعبد فيه غير الله عز وجل، فلما وقع الاختلال، وعبد الناس فيه غير الله عز وجل، ونصبت فيه الأصنام؛ سخر الله نبيًّا كريمًا هو أحب الأنبياء إليه، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فجاء مُطَهِّرًا لهذا البيت من أوزار الشرك، فدخله وحوله ثلاثمائة صنم كلها تُعْبَد من دون الله؛ وكان يكسرها ويقول: ﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ الإسراء:81 .
هذا البيت، هذه القبلة التي تستقبلونها في كل صلاة خمس مرات في يومكم هو ارتباط معنوي، وارتباط حسي بهذه البقعة المباركة التي تذكرنا بأننا إنما خلقنا لعبادة الله وحده.
أمر الله إبراهيم بعد أن هيأ هذا البيت بما هيأه به، وأعدَّه بما أعده به؛ أمره أن يدعو الناس إلى المجيء إلى هذه البقعة المباركة فقال: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ الحج:27-29 .
إنها دعوة من إبراهيم عليه السلام أمره الله تعالى بها؛ ليأتي الناس من كل فج عميق، من كل جهة بعيدة سحيقة، بكل وسائل النقل، ﴿يَأْتُوكَ رِجَالًا﴾ أي: يمشون على أرجلهم، ﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ يعني وعلى كل مركوب يوصلهم إلى هذه البقعة، ﴿مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ أي سحيق بعيد مهما بعدت مسافته، ومهما نأى مكانه، يأتيه الناس يرغبون فيما عند الله، ويطلبون ما وعد الله تعالى به من جاءه.
جاء الناس إلى هذه البقعة عبر التاريخ، فإنه قد قيل: ما من نبي إلا حَجَّ البيت. وكان من أهل العلم من يقول: ما مِنْ نبي بعد إبراهيم عليه السلام إلا حج البيت.
ولا غرابة؛ فإن الناس قد دُعُوا إلى المجيء، وجعل الله تعالى في قلوبهم ما يجعلهم يقصدونه، فهي تلك الدعوة المباركة التي ذكرها الله عز وجل في دعاء إبراهيم: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ إبراهيم:37 .
إن الارتباط الأوَّل بهذا البيت مَركوزٌ في فِطَر الناس، ولذلك جعل الله تعالى هذا البيت قيامًا للناس، تقوم به مصالحهم، مصالح دينهم ودنياهم، كما قال الله تعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ المائدة: 97 ، أي: تقوم به مصالحهم، مصالح دينهم ومصالح دنياهم.
في الجاهلية كانت هذه البقعة دَوْحَةَ أمن لا يُعْتَدى فيه على أحد، يلقى فيه الرجل قاتلَ أبيه؛ فلا يعرض له بشيء، ثم لما جاء الإسلام أكَّد ذلك المعنى، وهو تأمين هذه البقعة، فأمَّن من دخلها؛ لا يُحْمَل فيها سلاح، أمَّن حيوانها؛ فلا يُنَفَّر فيها صيد، أمَّن نباتها؛ فلا يختلى خَلاها، ولا يُعضَد شَوكُها، أمَّن الناسَ على أموالهم؛ فلا تُلْتَقَطُ لُقْطَتُه إلا لِمُنْشِدٍ.
كل هذا التأمين تحقيق لما دعا به إبراهيم: ﴿اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ البقرة:126 .
أيها الإخوة: إن هذه البقعة المباركة توافد إليها خيار الخلق؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عباس: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ» أي يرفع صوته بتلبية دعوة إبراهيم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ، عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، وَهُوَ يُلَبِّي» لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
عظَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا البيت كما عظمه الأنبياء قبله، بل كان صلى الله عليه وسلم يَتُوق إلى استقباله في صلاته بعد أن هاجر إلى المدينة، وكان في مكة يجعله بينه وبين بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة كانت الكعبة في ظهره، ووجهُه إلى بيت المقدس، ومكث على ذلك سنة وأشهرًا، وقد وجد في نفسه رغبة أن يولي وجهه قبل البيت الحرام؛ فأذن الله تعالى بذلك فقال: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ البقرة:144 ؛ فولى وجهه صلى الله عليه وسلم شطر مكة، وقال: «هَذِهِ قِبْلَتُكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا».
إنها قبلة المسلمين، إنها محل الطاعة والعبادة التي ترتبط فيها البشرية من أولها إلى آخرها؛ فإنه ﴿أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ آل عمران:96-97 .
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، حمدًا يُرْضيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتَّبَع سُنَّتَه واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله تعالى شرع لكم العبادات بأنواعها؛ لتتزودوا بالتقوى؛ فقال جل وعلا: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ البقرة:197 ، كل عبادة وطاعة هي من زاد التقوى الذي يقربك إلى الله، والذي يصلح به قلبك، وترتفع به درجتك، وتعلو به منزلتك، فاحرص على كثرة الطاعات والصالحات، وابتدئ في ذلك بالفرائض والواجبات؛ فما تقرب أحد إلى الله عز وجل بأحب مما افترضه عليه، ثم لا يزال المرء يتقرب إلى الله بالنوافل حتى يحبه جل في علاه، فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبْصِر به، ويده التي يبطش بها.
أيها المؤمنون عبادَ الله؛ شرع الله تعالى لهذه الأمة ما شرعه للأمم السابقة من قصد هذا البيت الحرام، فنزل قوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ البقرة:196 في السنة السادسة من الهجرة، وهو أمر بالإتمام، ثم إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قصد هذه البقعة في السنة السادسة معتمرًا؛ فحِيل بينه وبين البيت، فتحلل بالإحصار، وعاد بعد صلح الحديبية مع المشركين الذين منعوه من الكعبة، ثم كان ما بينه وبين المشركين أن يأتي في السنة السابعة، فجاء صلى الله عليه وسلم في السنة السابعة معتمرًا، ومكث في مكة ثلاثة أيام، ثم خرج منها، ثم جاءها فاتحًا في السنة الثامنة من الهجرة، دخلها، وطهر الله تعالى -بدخوله- هذه الكعبة من الشرك، ثم مكث فيها وعاد -بعد الطائف- إليها معتمرًا ليلًا صلوات الله وسلامه عليه؛ فكانت ثالث عمراته صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
لم ينهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الناسَ عن دخول مكة في ذلك العام، بقي في مكة المشركون والمسلمون، ثم إنه في السنة التاسعة أنزل الله تعالى على رسوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ آل عمران:96-97 .
نزل فرض الحج على أهل الإسلام في السنة التاسعة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحجَّ ذلك العام؛ سبب ذلك أن الناس قد توافدوا إليه من كل أرجاء الجزيرة وجهاتها، جاءوا إليه صلى الله عليه وسلم مُقِرِّين بالإسلام، كما أن مكة لم تكن خالصة لأهل الإسلام، بل كانت مختلطة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة أبا بكر ومعه جماعة من الصحابة، فحجُّوا تلك السنة، وأمَرَه أن ينادي يوم الحج الأكبر يوم النحر في الناس: «أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مِشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ»، كما كان يفعل أهل الجاهلية قبل الإسلام؛ فنهى رسول الله وأعْلَمَ الناس أنه لا حظ لمشركٍ في هذا البيت الذي إنما وضع لعبادة الله؛ فمُنِعَ الناس من أن يأتوا إلا مسلمين: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ التوبة:28 ، العام التاسع.
أَذَّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج في السنة العاشرة، وقد قال لأصحابه: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا»؛ فجاء الناس من كل فَجٍّ وصَوْبٍ، يأتمُّون برسول الله، ويقتدون بهديه، ويحرصون على الأخذ عنه في حَجَّةِ الإسلام الأولى مع النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع له خلق لم يُعْهَد لهم نظير في زمانه صلى الله عليه وسلم ولا بعده إلى أمدٍ متطاول، اجتمع له أكثر من مائة ألف، كُلُّهم يُلَبِّي بتلبيتِه، ويسير على نَهْجِه، وهو يقول لهم: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا».
فكانت حجَّةَ الوداع؛ تلك الحجة كانت حجة الوداع التي عَلَّم الناس فيها هذا الركن، وأتم الله للنبي دينه، ولهذه الأمة إسلامهم؛ ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ المائدة:3 .
جاء يهودي إلى عمر؛ آية في كتاب الله، لو نزلت علينا -اليهودي يقول لعمر- لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا.
قال: وما هي؟ قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾.
قال: أما والله إني لأعلم أين نزلت؟ وفي أي مكان نزلت؟ نزلت على رسول الله يوم عرفة يوم الجمعة.
فكان ذلك إيذانًا بالكمال والتمام، وشهادة من الله عز وجل بالرضى التام عن شرائع الإسلام، رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا.
تَمَّ دين الله عز وجل، وأخذ المسلمون مناسك الحج عن النبي صلى الله عليه وسلم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّة، نُقِلَ لنا دقائق عمله، قيامه وقعوده، حركته وسكناته؛ لنأتسي به ولنقتدي به صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهنيئًا لمن كان للرسول صلى الله عليه وسلم مُتَّبِعًا.
فيا أيها المؤمنون؛ حُجُّوا قبل ألا تستطيعوا أن تحجوا؛ فإن الله تعالى كتب عليكم الحج، من كان مستطيعًا فإن الواجب عليه أن يبادر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ إِلَيْهِ»، وقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «حُجُّوا قَبْلَ أَلَّا تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحُجُّوا».
كل هذه الأوامر تدل على وجوبِ المبادرة إلى الحج لمن توافرت فيه شروط الحج، ومن أهمها الاستطاعة، فقد قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ آل عمران:97 .
والاستطاعة: هي القدرة البدنية والمالية التي يستطيع بها الإنسانُ الذهابَ إلى مكة وفعلَ المناسك، ثم الرجوع إلى بلده.
فمن كان قادرًا على ذلك وَجَبَ عليه أن يسعى إلى الحج، وَلْيَبْشِر؛ فإن حج بيت الله أمر عظيم، وفيه فضل كبير، فهو كما قال الله تعالى: ﴿مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ آل عمران:96 .
ففيه من البركات والخيرات مَكْسَبان لكل مَنْ قصده على الوجه الذي يرضي الله تعالى:
الأول: حَطُّ الخطايا والسيئات، «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيوْم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» خاليًا من كل ذنب، محطوطٌ عنه كل السيئات والخطايا.
أما الفائدة الثانية فهي: الفوز بالجنة -جعلنا الله وإياكم من أهلها-؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ».
ولكن تنبه، تلك الفضائل يفوز بها من حَقَّق في حجه وصفَ البِرِّ، والبر قيامه بأمور:
الأول: أن يكون لله خالصًا.
الثاني: أن يكون حجك على وَفْقِ هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث: أن تترك المحرمات العامة والخاصة بالحج.
الرابع: أن تفعل الواجبات العامة والمتعلقة بالحج.
الخامس: أن يكون حجك من مال طيب حلال.
اللهم أَعِنَّا على ذكرك وشُكْرِك وحُسْنِ عبادتك، اسلك بنا سبيل الرشاد، أعنا على الطاعة والإحسان.
بادروا أيها الإخوة، وقد فُتِحَت أبواب التسجيل لمن لم يحج، ليبادر إلى أداء الفريضة، وليَحْرِص على الصحبة الطيبة؛ لعل ذلك أن يكون عونًا له على تحقيق وصف الحج المبرور، ليفوز بالأجر والجزاء الجزيل.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، وحزبك المفلحين، وأوليائك الصالحين يا رب العالمين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم اهدنا سبل السلام، واصرف عنا السوء يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أمِّنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا حي يا قَيَّام.
أكثروا من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يومكم هذا؛ فإن صلاتكم مَعْرُوضَةٌ عليه.
اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلَّيْتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد.