المطلبُ الرابعُ: عنايتُهُ بالقواعدِ والضوابطِ:
ومِن سماتِ الشيخِ البارزةِ في فقهِهِ تعليمًا وإفتاءً: حفاوتُهُ بالقواعدِ والضوابطِ، تأصيلًا وتطبيقًا، وهذا مِن أهمِّ جوانبِ الجذبِ لفقهِهِ وإنتاجِهِ العلميِّ المتفنِّنِ رحمهُ اللهُ، وهو مصداقُ ما قالهُ القرافيُّ: «وهذهِ القواعدُ مهمَّةٌ في الفقهِ، عظيمةُ النَّفعِ، وبقدرِ الإحاطةِ بها يعظُمُ قدرُ الفقيهِ ويشرُفُ، ويظهرُ رونقَ الفقهِ ويُعرفُ، وتتضحُ مناهجَ الفتاوى وتُكشفُ»أنوار البروق في أنواء الفروق (1/2)..
ولقد كانَ شيخُنا -رحمهُ اللهُ- يؤكدُ على الاعتناءِ بالقواعدِ والضوابطِ؛ لأنَّ ذلكَ مِن أهمِّ أسبابِ الرسوخِ في العلمِ، قالَ رحمهُ اللهُ: «ولا يمكنُ أن يكونَ للإنسانِ قدمٌ راسخٌ في العلمِ يستطيعُ أن يُنزِّلَ المسائلَ الجزئيةَ على القواعدِ الكليةِ حتى يهتمَّ بالقواعدِ والضوابطِ»شرح منظومة القواعد والأصول لابن عثيمين ص (17).، وقالَ أيضًا: «ينبغي للمعلِّمِ أن يعتنيَ بالأصولِ والقواعدِ؛ لأنَّ الأصولَ والقواعدَ هي التي يُبْنَى عليها العلمُ»كتاب العلم لابن عثيمين ص (177).، وهي الطريقُ الذي بهِ يجدُ حلَّ ما يرِدُ عليهِ مِنَ المسائلِ والقضايا، ويصلُ بهِ إلى ما يؤمِّلُ مِن جوابٍ في النوازلِ، قالَ رحمهُ اللهُ: «وقد قالَ العلماءُ: مَن حُرِمَ الأصولَ حُرِمَ الوصولَ، أي: لا يصلُ إلى الغايةِ إذا حُرِمَ الأصولَ، فينبغي أن يُلقَى على الطلبةِ القواعدَ والأصولَ التي تتفرعُ عليها المسائلُ الجزئيةُ؛ لأنَّ الذي يتعلمُ على المسائلِ الجزئيةِ، لا يستطيعُ أن يهتديَ إذا أتتْهُ معضلةٌ فيعرفَ حكمَها؛ لأنهُ ليسَ عندَهُ أصلٌ»كتاب العلم لابن عثيمين ص (178)..
وقالَ أيضًا في طريقِ الوصولِ لما لم ينصَّ الدليلُ على حكمِهِ: «وقسمٌ آخرُ لا يُنصُّ عليهِ بعينِهِ، ولكن يذكرُهُ في القواعدِ العامَّةِ مِنَ الشريعةِ، والأدلةُ العامَّةُ مِنَ الشريعةِ؛ وذلكَ لأنَّ الشريعةَ شاملةٌ عامَّةٌ لكلِّ شيءٍ، ولا يمكنُ أن يُنَصَّ على كلِّ مسألةٍ بعينِها؛ لأنَّ هذا يستدعِي أسفارًا كثيرةً لا تحملُها الجِمالُ ولا السياراتُ؛ ولكن هناكَ قواعدُ عامَّةٌ يُنْعِمُ اللهُ على مَن يشاءُ مِن عبادِهِ، فيستطيعونَ أن يُلْحِقوا الجزئياتِ بأحكامِ هذهِ القواعدِ العامَّةِ. مثلُ: «لا ضررَ ولا ضِرارَ»أخرجه ابن ماجه، كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، رقم (2340)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه. قال النّووي عنه: وله طرق يقوي بعضها بعضًا.مثلًا، هذا حديثٌ وإن كانَ في صحتِهِ نظرٌ، لكنْ قواعدُ الشريعةِ تشهدُ لهُ، فيمكنُ أن تدخلَ في هذا آلافُ المسائلِ التي فيها الضررُ، وآلافُ المسائلِ التي فيها المضارَّةُ دونَ أن يُنَصَّ عليهِ»لقاء الباب المفتوح (122/15)..