المطلبُ الثاني: عنايتُهُ بحِكَمِ الأحكامِ وعِلَلِها ومقاصدِها:
عنايةُ الفقيهِ بمعاني الأحكامِ وأسرارِ التَّشريعِ مِن أعظمِ أدواتِ التفقهِ، بل هو خاصَّةُ الفقهِ في الدينِ، كما قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: «خاصَّةُ الفقهِ في الدينِ الذي هو معرفةُ حكمةِ الشريعةِ ومقاصدِها ومحاسنِها» مجموع الفتاوى (11/354).. وقالَ إمامُ الحرمينِ الجوينيُّ: «ومَن لم يتفطَّنْ لوقوعِ المقاصدِ في الأوامرِ والنواهي، فليسَ على بصيرةٍ في وضعِ الشريعةِ» البرهان (1/295)، وينظر: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص (24).، وقالَ ابنُ القيمِ: «وهل يمكنُ فقيهًا على وجهِ الأرضِ، أن يتكلمَ في الفقهِ، معَ اعتقادِهِ بطلانَ الحكمةِ والمناسبةِ والتعليلِ وقصدِ الشارعِ بالأحكامِ مصالحَ العبادِ» شفاء العليل، ص (344).. وقالَ شيخُنا رحمهُ اللهُ: «الحكمةُ هي الأسرارُ والمعاني التي تُناطُ بها هذهِ الأحكامُ، والإنسانُ إذا عرفَ هذهِ الحِكَمَ والأسرارَ تبيَّنَ لهُ أنَّ الشريعةَ ليستْ لهوًا ولا لعبًا، وأنَّ الشريعةَ ذاتُ معانٍ ساميةٍ لا يدركُها إلا مَن فتحَ اللهُ عليهِ» تفسير آل عمران (2/407).. وغيابُ ذلكَ عنِ الفقيهِ مِن أسبابِ ضلالِهِ، يقولُ شيخُنا رحمهُ اللهُ: «فينبغي للإنسانِ أن يكونَ فهمُهُ واسعًا، وأن يعرفَ مقاصدَ الشريعةِ، وألَّا يجعلَ الوسائلَ مقاصدَ، فإنهُ بذلكَ يضلُّ» الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/381)..
وقد كانَ شيخُنا رحمهُ اللهُ شديدَ العنايةِ بتعليلِ الأحكامِ، وذكرِ حكَمِها وأسرارِها، ويقررُ أنهُ ما مِن حُكمٍ إلا ولهُ حِكْمَةٌ؛ يقولُ رحمهُ اللهُ: «فما مِن حكمٍ مِن أحكامِ الشريعةِ، إلا ولهُ حِكمةٌ عندَ اللهِ عز وجل، لكن قد تظهرُ لنا بالنصِّ أو بالإجماعِ أو بالاستنباطِ، وقد لا تظهرُ لقصورِنا، أو لتقصيرِنا في طلبِ الحكمةِ» الشرح الممتع على زاد المستقنع (6/380)..
ويقولُ أيضًا: «جميعُ الشرائعِ مطابقةٌ للحكمةِ في زمانِها، ومكانِها، وأحوالِ أُمَمِها؛ فما أمَرَ اللهُ بشيءٍ فقالَ العقلُ الصريحُ: ليتَهُ لم يأمرْ بهِ، وما نَهى عن شيءٍ فقالَ: ليتَهُ لم ينهَ عنهُ؛ وأمَّا الحكمةُ في قدرِهِ فما مِن شيءٍ يُقَدِّرُهُ اللهُ إلا وهو مشتملٌ على الحكمةِ إمَّا عامَّةً؛ وإمَّا خاصَّةً» تفسير القرآن للعثيمين (3/80). وقال في موضع آخر (4/133): «فالشريعة متضمنة للحكمة تضمنًا كاملًا؛ فما من شيء من مأموراتها، ولا منهياتها، إلا وهو مشتمل على الحكمة».، «فالحاصلُ أنكَ إذا تأمَّلتَ الشريعةَ الإسلاميةَ والتكاليفَ الإلهيةَ وجدتَها في غايةِ الحكمةِ والمطابقةِ للمصالحِ» الشرح الممتع على زاد المستقنع (6/301)..
وقد أجملَ رحمهُ اللهُ ما يمكنُ أن يُستفادَ مِن ذكرِ اللهِ تعالى للحِكَمِ والعِللِ في الأحكامِ، فقالَ: «لأنَّ ذلكَ يزيدُهُ طمأنينةً، ولأنهُ يتبيَّنُ بهِ سموُّ الشريعةِ الإسلاميةِ؛ حيثُ تُقْرَنُ الأحكامُ بعِلَلِها، ولأنهُ يُتمكَّنُ بهِ مِنَ القياسِ، إذا كانتْ علةُ هذا الحكمِ المنصوصِ عليهِ ثابتةً في أمرٍ آخرَ لم يُنصَّ عليهِ، فالعلمُ بالحكمةِ الشرعيةِ لهُ هذهِ الفوائدُ الثلاثُ» مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (11/59).. ولذلكَ كانَ شيخُنا رحمهُ اللهُ كثيرًا ما يبحثُ في حِكَمِ الأحكامِ، ويقررُ ما يراهُ فيها مِنَ الحِكمِ والأسرارِ.