المطلبُ الثاني: تكييفُ النازلةِ فقهيًّا:
التكييفُ الفقهيُّ للنازلةِ: هو بذلُ الوُسْعِ في تحديدِ حقيقةِ الواقعةِ المستجدةِ، وَفْقَ قواعدِ النظرِ الفقهيِّ، تمهيدًا للوصولِ إلى حكمِها المناسبِ، وبه يُتَبَيَّنُ أنَّ التكييفَ الفقهيَّ لهُ أهميةٌ كبرى في بناءِ الأحكامِ ومعرفةِ الآثارِ. وقد تَنَاوَلَ الباحثونَ بيانَ الخُطُواتِ التي يخطوها الفقيهُ لأجلِ التوصلِ إلى الحكمِ الشرعيِّ، وفيما كتبَهُ عمرُ رضي الله عنه لشُرَيْحٍ لَمَّا عيَّنَهُ على القضاءِ ما يمكنُ أن يُعَدَّ أصلًا في الخطواتِ التي يسلُكُها الفقيهُ عندَ النظرِ في المستجِدَّاتِ والنوازلِ والأقضيةِ، يقولُ رحمهُ اللهُ: «إذا أتاكَ أمرٌ فاقضِ فيهِ بما في كتابِ اللهِ، فإن أتاكَ ما ليسَ في كتابِ اللهِ، فاقضِ بما سَنَّ فيهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإن أتَاكَ ما ليسَ في كتابِ اللهِ ولم يسُنَّهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فاقضِ بما أجْمَعَ عليهِ الناسُ، فإن أتاكَ ما ليسَ في كتابِ اللهِ، ولم يسُنَّهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ولم يتكلمْ فيهِ أحدٌ، فأيَّ الأمرينِ شئتَ فخُذْ بهِ...» جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (2/57)..
وفي مزيدِ بسطٍ وإيضاحٍ وبيانٍ، يقولُ الخطيبُ البغداديُّ: «فيجبُ على العالِمِ إذا نَزَلَتْ به نازلةٌ أن يطلبَ حكمَها في كتابِ اللهِ، وسنةِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فينظرَ في منطوقِ النصوصِ، والظواهرِ ومفهومِها، وفي أفعالِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وإقرارِهِ، وليسَ في نصِّ القرآنِ ولا نصِّ الحديثِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تعارضٌ، قالَ اللهُ تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} سورة النساء، من الآية: رقم (82).، وقالَ مُخبرًا عن نبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} سورة النجم، من الآية: رقم (3-4).، فأخبرَ أنهُ لا اختلافَ في شيءٍ مِنَ القرآنِ، وأنَّ كلامَ نبيِّهِ وحيٌ مِن عندِهِ، فدلَّ ذلكَ على أنَّ كلَّهُ متفقٌ، وأنَّ جميعَهُ مضافٌ بعضُهُ إلى بعضٍ، ومبنيٌّ بعضُهُ على بعضٍ، إما بعطفٍ، أوِ استثناءٍ، أو غيرِ ذلكَ مما قدمناهُ» الفقيه والمتفقه (1/534، 535)..
وقالَ ابنُ القيمِ: «النُّصوصُ مُحيطةٌ بأحكامِ الحوادثِ، ولم يُحِلْنا اللهُ ولا رسولُهُ على رأيٍ ولا قياسٍ، بل قد بيَّنَ الأحكامَ كلَّها، والنصوصُ كافيةٌ وافيةٌ بها، والقياسُ الصحيحُ حقٌّ مُطابقٌ للنصوصِ، فهُما دليلانِ: الكتابُ والميزانُ، وقد تخفَى دلالةُ النصِّ أو لا تبلغُ العالِمَ فيعْدِلُ إلى القياسِ، ثم قد يظهرُ موافقًا للنصِّ فيكونُ قياسًا صحيحًا، وقد يظهرُ مخالفًا لهُ فيكونُ فاسدًا؛ وفي نفسِ الأمرِ لا بدَّ مِن موافقتِهِ أو مخالفتِهِ، ولكنْ عندَ المجتهدِ قد تخفَى موافقتُهُ أو مخالفتُهُ» إعلام الموقعين (3/97)..
وقالَ شيخُنا رحمهُ اللهُ في بيانِ تناولِ ما يَسْتَجِدُّ مِنَ المسائلِ والقضايا: «الذي أرى أنَّ الدعوةَ مِن كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم فوقَ كلِّ شيءٍ، وهذا رَأْيُنَا جميعًا بلا شكٍّ، ثم يلي ذلكَ ما وردَ عنِ الخلفاءِ الراشدينَ، وعن الصحابةِ، وعن أئمةِ الإسلامِ فيمَن سلفَ، أمَّا ما يتكلمُ عليهِ المتأخرونَ المعاصرونَ فإنهُ قد حدثتْ أشياءُ، هم بها أَدْرَى، فإذا اتخذَ الإنسانُ مِن كُتُبِهِم ما ينتفعُ بهِ في هذهِ الناحيةِ، فقد أخذَ بحظٍّ وافِرٍ، ونحن نعلمُ أنَّ المعاصرينَ إنما أخذوا ما أخذوا مِنَ العلمِ ممَّن سبقَ، فلنأخذْ نحن ممَّا أخذوا منهُ، لكنْ استجدَّتْ أمورٌ هم بها أبصرُ منَّا، ولم تكنْ معلومةً لدى السَّلفِ بأعيانِها، فالذي أرى أن يجمعَ الإنسانُ بينَ الحُسْنَيَيْنِ، فيَعْتَمِدُ أولًا على كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم، وثانيًا على كلامِ السلفِ الصالحِ مِنَ الخلفاءِ الراشدينَ والصحابةِ وأئمَّةِ المسلمينَ، ثم على ما كتبَهُ المعاصرونَ الذين جدَّتْ في زمنِهِم حوادثُ لم تكنْ معلومةً بأعيانِها فيما سلفَ» كتاب العلم ص (148- 149)..
وممَّا تَقَدَّمَ، يمكنُ القولُ بأنَّ التوصلَ إلى الحكمِ في الأقضيةِ والمستجداتِ والنوازلِ، بعدَ فَهْمِ الواقعةِ وتصوُّرِهَا، يحتاجُ إلى الخطواتِ التاليةِ:
- الخطوةُ الأولى: طلبُ حكمِ النَّازلةِ المنظورةِ، مِنَ الأدلةِ الشرعيةِ، مِنَ الكتابِ، والسنةِ، والإجماعِ، والقياسِ.
- الخطوةُ الثَّانيةُ: البحثُ في الموروثِ الفقهيِّ مِن أقوالِ الصحابةِ واجتهاداتِهم، ثم مَن بعدَهم، ولا سيَّما الفقهاءُ وأصحابُ المذاهبِ المشهورةِ. ومما يُلحقُ بهذهِ المرحلةِ مراجعةُ نتاجِ جهاتِ الاجتهادِ الجماعيِّ المعاصرةِ، الممثلِ في قراراتِ وأبحاثِ المجامعِ الفقهيةِ، ولجانِ الفتوى، والهيئاتِ الشرعيةِ المتنوعةِ، والندواتِ الفقهيةِ وحلقاتِ النقاشِ العلميةِ، ونحوِ ذلكَ. وكذلكَ مراجعةُ الأبحاثِ والدراساتِ الفقهيةِ المعاصرةِ، سواءٌ مِن خلالِ الرسائلِ والبحوثِ الجامعيةِ، أوِ المجلاتِ والدوريَّاتِ العلميةِ والمراكزِ المتخصِّصةِ.
- الخطوةُ الثَّالثةُ: الاجتهادُ في التَّوصُّلِ إلى الحكمِ للنازلةِ.
ومِن أعظمِ ما يعينُ في إصابةِ الصَّوابِ وبلوغِ المرامِ في المسألةِ المنظورةِ ألَّا يغيبَ عنِ المجتهدِ في النَّوازلِ والباحثِ فيها -في جميعِ مراحلِ النَّظرِ وخطواتِ العملِ، لا سيما في هذهِ الخطوةِ- الأمورُ التاليةُ:
أولًا: صحةُ النيةِ وحسنُ القصدِ، وذلكَ بابتغاءِ وجهِ اللهِ تعالى. فهذهِ الخطوةُ هي رأسُ الأمرِ، وأصلُهُ الذي عليه يُبْنَى؛ فصحةُ النيةِ «روحُ العملِ، وقائدُهُ وسائقُهُ، والعملُ تابعٌ لها يُبْنَى عليها، يصحُّ بصِحَّتِهَا، ويفسدُ بفسادِها، وبها يُسْتَجْلَبُ التوفيقُ، وبِعَدَمِهَا يَحْصُلُ الخِذْلانُ، وبحسبِها تتفاوتُ الدرجاتُ في الدنيا والآخرةِ» إعلام الموقعين (4/199).. ولذلكَ جعلَ الإمامُ أحمدُ حُسْنَ القَصْدِ وصلاحَ النيةِ في مقدمةِ ما ينبغي للمفتي، وهو المشتغلُ بالنوازلِ غالبًا مراعاتُهُ والعنايةُ بهِ. قالَ الإمامُ أحمدُ: «لا ينبغي للرجلِ أن ينصِّبَ نفسَهُ للفتيا، حتى يكونَ فيهِ خمسُ خصالٍ: الأولى: أن تكونَ لهُ نيةٌ، فإن لم يكنْ لهُ نيةٌ، لم يكنْ عليهِ نورٌ، ولا على كلامِهِ نورٌ...» ذكره ابن بطة في كتابه الخلع، ونقله ابن القيم في إعلام الموقعين (4/199)..
ثانيًا: الافتقارُ إلى اللهِ تعالى طلبًا للإعانةِ والتسديدِ. فمِن أسبابِ التوفيقِ في دراسةِ النوازلِ أنهُ ينبغي للناظرِ في النوازلِ «إذا نزلتْ بهِ المسألةُ أن ينبعثَ مِن قلبِهِ الافتقارُ الحقيقيُّ الحاليُّ لا العلميُّ المجرَّدُ إلى مُلْهِمِ الصوابِ، ومعَلِّمِ الخيرِ، وهَادِي القلوبِ أن يُلْهِمَهُ الصوابَ، ويفتحَ لهُ طريقَ السدادِ، ويَدُلَّهُ على حكمِهِ الذي شرَّعَهُ لعبادِهِ في هذهِ المسألةِ، فمتى قرَعَ هذا البابَ، فقد قرَعَ بابَ التوفيقِ، وما أجدرَ مَن أمَّلَ فضلَ ربِّهِ ألَّا يحرمَهُ إياهُ» إعلام الموقعين (4/172)..
ثالثًا: مشاورةُ أهلِ العلمِ ومذاكرتُهم في النازلةِ المستجِدَّةِ وما تبيَّنَ لهُ مِن حُكمِها. قالَ الخطيبُ البغداديُّ فيما ينبغي للعالِمِ: «ثم يذكرُ المسألةَ لِمَن بحضرتِهِ ممَّن يصلُحُ لذلكَ مِن أهلِ العلمِ، ويشاوِرُهُم في الجوابِ، ويسألُ كلَّ واحدٍ منهم عما عندَهُ، فإنَّ في ذلكَ بركةً واقتداءً بالسلفِ الصالحِ، وقد قالَ اللهُ تباركَ وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} سورة آل عمران، من الآية: رقم (159).، وشاوَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مواضعَ وأشياءَ، وأمَرَ بالمشاورةِ، وكانتِ الصحابةُ تُشَاوِرُ في الفتاوى والأحكامِ» الفقيه والمتفقه (2/390).. وقالَ ابنُ القيمِ: «إن كانَ عندَهُ مَن يَثِقُ بعلمِهِ ودينِهِ فينبغي لهُ أن يشاورَهُ، ولا يستقلَّ بالجوابِ؛ ذهابًا بنفسِهِ وارتفاعًا بها أن يستعينَ على الفتاوى بغيرِهِ مِن أهلِ العلمِ، وهذا مِنَ الجهلِ، فقد أثنى اللهُ سبحانه على المؤمنينَ، بأنَّ أمرَهم شورى بينهم» إعلام الموقعين (4/256-257)..