بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أرسلَهُ اللهُ بالهُدى ودينِ الحقِّ ليُظهرَهُ على الدينِ كلِّهَ، وكفى باللهِ شهيدًا، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وسلَّم تسليمًا.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ مِن أعظمِ ما تميَّزَتْ بهِ الشريعةُ الخاتمةُ التي جاءتْ في كتابِ اللهِ تعالى وسنةِ الرَّسولِ الكريمِ، أنها شريعةٌ بيَّنَتْ كُلَّ مَا للنَّاسِ فيهِ حاجةٌ مِن أمورِ دينِهِم مِن حلالٍ وحرامٍ، قالَ اللهُ تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} النحل: 89..
«قالَ ابنُ مسعودٍ: قد بُيِّنَ لنا في هذا القرآنِ كلُّ علمٍ وكلُّ شيءٍ. وقالَ مجاهدٌ: كلُّ حلالٍ، وكلُّ حرامٍ. وقولُ ابنِ مسعودٍ أعمُّ وأشملُ، فإنَّ القرآنَ اشتملَ على كلِّ علمٍ نافعٍ مِن خبرِ ما سبقَ، وعلمِ ما سيأتي، وكلِّ حلالٍ وحرامٍ، وما الناسُ إليهِ محتاجونَ في أمرِ دنياهم ودينِهم ومعاشِهم ومعادِهم» تفسير ابن كثير.
فالقرآنُ والسنةُ المُطَهَّرةُ بَيَّنَا كلَّ ما يحتاجُهُ الناسُ بيانًا شافيًا «بحيثُ صارَ مجموعُ التشريعِ الحاصلِ بالقرآنِ والسنّةِ كافيًا في هديِ الأمّةِ في عبادتِها، ومعاملتِها، وسياستِها، في سائرِ عصورِها، بحسبِ ما تدعو إليهِ حاجاتُها، فقد كانَ الدينُ وافيًا في كلِّ وقتٍ بما يحتاجُهُ المسلمونَ، ولكنِ ابتدأتْ أحوالُ جماعةِ المسلمينَ بسيطةً، ثمَّ اتَّسعتْ جامعتُهم، فكانَ الدينُ يكفيهم لبيانِ الحاجاتِ في أحوالِهم بمقدارِ اتِّساعِها؛ إذ كانَ تعليمُ الدينِ بطريقِ التدريجِ ليتمكَّنَ رسوخُهُ، حتَّى استكملتْ جامعةُ المسلمينَ كلَّ شئونِ الجوامعِ الكبرى، وصاروا أمّةً كأكملِ ما تكونُ أمّةٌ، فكمُلَ مِن بيانِ الدينِ ما بهِ الوفاءُ بحاجاتِهم كلِّها، فذلكَ معنى إكمالِ الدينِ لهم يومئذٍ» التحرير والتنوير (4/133)..
وقد بذلَ علماءُ الأمةِ عبرَ قرونِها جهودًا حثيثةً لبيانِ أحكامِ الوقائعِ والنوازلِ. ولقد كانَ في صدرِ أولئكَ الصَّحابةُ الكرامُ رضي الله عنهم حيثُ «مثَّلوا الوقائعَ بنظائرِها، وشبَّهوها بأمثالِها، وردُّوا بعضَها إلى بعضٍ في أحكامِها، وفتحوا للعلماءِ بابَ الاجتهادِ، ونهجوا لهم طريقَهُ، وبيَّنُوا لهم سبيلَهُ» إعلام الموقعين (1/238).، ثم تتابعَ العلماءُ رحمهمُ اللهُ في هذا السبيلِ، يحملُ الرايةَ في كلِّ خلفٍ عدولُهُ، يبَيِّنُونَ الأحكامَ، ويوضِّحونَ الشرائعَ للأنامِ.
وكانَ مِن هؤلاءِ الأعلامِ في هذا الزمانِ شيخُنا العلَّامةُ الفقيهُ المحقِّقُ: محمدُ بنُ صالحٍ العثيمينُ رحمهُ اللهُ تعالى.
فهذا البحثُ الذي يشرِّفُنِي أن أتَقَدَّمَ بهِ ضمنَ سلسلةِ البحوثِ والأوراقِ المقدمةِ لندوةِ جهودِ الشيخِ محمدِ بنِ صالحٍ العثيمينِ العلميةِ، دراساتٍ منهجيةً تحليليةً، يكتسبُ أهميتَهُ مِن جهةِ كونِهِ يُعنَى بفقهِ النوازلِ الذي تدعو الحاجةُ إلى تناولِ أصولِهِ، وبيانِ معالِمِهِ، ومِن جهةِ كونِهِ محاولةً لتجليةِ بعضِ الأصولِ التي اعتمدَها، والسبيلِ الذي انتهجَهُ عَلَمٌ مِن أعلامِ الفقهِ المعاصِرِ، في دراستِهِ وبحثِهِ للنوازلِ الفقهيةِ، معَ العنايةِ بالتطبيقاتِ, وأرجو أن أتمكنَ مِن إبرازِ جانبٍ مِن جهودِ شيخِنا محمدِ بنِ عثيمين، في معالجتِهِ ودراستِهِ للنوازلِ الفقهيةِ، وقد وَسَمْتُهُ: «النَّوازلُ الفقهيَّةُ عندَ الشيخِ ابنِ عثيمين دراسةً تأصيليَّةً تطبيقيَّةً».
وقد جعلتُهُ في مقدمةٍ وتمهيدٍ وفصلينِ، على النحوِ التالي:
* مقدمةٌ.
* تمهيدٌ: حقيقةُ النوازلِ الفقهيةِ وكيفيةُ دراستِها
- المبحثُ الأولُ: تعريفُ النوازلِ الفقهيةِ.
- المبحثُ الثاني: خطواتُ دراسةِ النازلةِ.
* الفصلُ الأولُ: فقهُ الشيخِ ابنِ عثيمين في النوازلِ الفقهيةِ.
- المبحثُ الأولُ: عنايةُ الشيخِ ابنِ عثيمين بدراسةِ النوازلِ الفقهيةِ.
- المبحثُ الثاني: معالمُ التميُّزِ في منهجِ شيخِنا ابنِ عثيمين.
* الفصلُ الثاني: أصولُ الشيخِ ابنِ عثيمين في استنباطِ أحكامِ النوازلِ الفقهيةِ.
- المبحثُ الأولُ: استنباطُ حكمِ النازلةِ مِنَ القرآنِ أوِ السنةِ.
- المبحثُ الثاني: استنباطُ حكمِ النازلةِ بإعمالِ القياسِ وإلحاقِ النَّظيرِ بنظيرِهِ.
- المبحثُ الثالثُ: استنباطُ حكمِ النازلةِ بإدراجِها ضمنَ قاعدةٍ أو ضابطٍ فقهيٍّ.
- المبحثُ الرابعُ: استنباطُ حكمِ النازلةِ بإعمالِ مقاصدِ الشريعةِ.
هذا، واللهَ أسالُ أن يعينَنِي على الإفادةِ في هذا البحثِ، وأن يسدِّدَني في القولِ والعملِ. وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعينَ.