المطلب الثَّاني: تحرير محل النِّزاع في قاعدة سدِّ الذَّرائع:
تنقسم الذرائع من حيث أقوال العلماء في سدِّها، إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما أجمعت الأمَّةُ على وجوب سدِّه، وذلك في الأفعال المؤدِّية إلى الفساد. إذا كانت فاسدةً محرَّمة نقل هذا الإجماع: القرافي في الفروق (3/266)، (2/32) وابن القيم في إعلام الموقعين (3/148)، والشاطبي في الموافقات (2/390).؛ لأنها أفعالٌ وُضعت مفضيةً إلى المفسدة بيقين، وليس لها ظاهرٌ غيرها. ومن أمثلة هذا القسمِ؛ تحريمُ شرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وتحريم الزِّنى المفضي إلى اختلاط الأنساب وفساد الفرش، وكذا سبُّ آلهة الكفار، عند من يُعْلَم من حاله أنه يسبُّ الله تعالى ينظر: الفروق للقرافي (2/32)، إعلام الموقعين (3/148)، الموافقات للشاطبي (2/390)، تهذيب الفروق (3/374)..
القسم الثَّاني: ما أجمعت الأمة على أنَّه ذريعة، لكن لا يجب سدُّه؛ كالمنع من زرع العنب لئلا يُتَّخذ خمرًا، وكالمنع من المجاورة في البيوت خشية الزِّنى نقل هذا الإجماع: القرافي في الفروق (3/266)، (2/32) وابن القيم في إعلام الموقعين (3/148)، والشاطبي في الموافقات (2/390)..
القسم الثالث: ما وقع فيه الخلافُ بين أهل العلم، وهو الوسائلُ المباحة إذا كانت تُفضي إلى محرم غالبًا ينظر: الفروق للقرافي (3/266)، الموافقات للشاطبي (2/348-349).، فهذا اختلف فيه أهل العلم على قولين:
القول الأول: اعتبارُ سدِّ الذرائع، والقولُ بحسمها، وهذا هو مذهب المالكية ينظر: إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص (689)، الفروق للقرافي (2/32).، وبه قال الحنابلة ينظر: مختصر التحرير ص (74)..
القول الثَّاني: عدمُ اعتبار سدِّ الذَّرائع، وإبطالُ العمل به. وهذا مذهب الحنفيَّة ينظر: إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص (690)، أصول الفقه لـ (أبو زهرة) ص (268).
تنبيه: لم يذكر الحنفية هذه القاعدة فيما اطلعت عليه من كتبهم.
وقد ذهب البرهاني صاحب كتاب سد الذرائع في الشريعة الإسلامية إلى أن الحنفية يعتبرون سد الذرائع ويعملون بها، وقد ذكر لذلك شواهد من فروعهم الفقهية يظهر منها اعتبارهم لسد الذرائع فليراجع ص (651-657). والشَّافعيَّة ينظر: الأم للشافعي (3/74)، حاشية العطار على جمع الجوامع (2/399).، وبه قال ابن حزم من الظَّاهريَّة ينظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/746)..
وقد احتجَّ كلُّ فريق بأدلَّةٍ لإثبات ما ذهب إليه، حتَّى إنَّ ابن القيم ذكر في "إعلام الموقِّعين" تسعةً وتسعين وجهًا في الاستدلال لصحة اعتبار هذه القاعدة، والعمل بها، ثم قال بعد ذلك: ((وبابُ سدِّ الذرائع أحدُ أرباع التكليف؛ فإنه أمرٌ ونهيٌ. والأمر نوعان: أحدهما: مقصودٌ لنفسه، والثاني: ما يكونُ وسيلةً إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلةً إلى المفسدة، فصار سدُّ الذَّرائع المفضيةِ إلى الحرام أحدَ أرباع الدِّين)) (3/171).. ومهما يكن الأمرُ فإنه بالنظر إلى واقع الفقهاء ممن نُسب إليهم القول بعدم اعتبار سد الذرائع، يتبيَّن أنهم قد اعتبروا هذه القاعدة في بعض اجتهاداتهم، لكنَّهم أعملوها باعتبارها مندرجةً تحت أصل آخر ينظر: الموافقات للشاطبي (4/200)، الوجيز في أصول الفقه ص (249)، أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي ص (586-592).. والذي تميز به المالكية بالدرجة الأولى، والحنابلة بالدرجة الثانية: أنهم اعتبروا العمل بسد الذرائع أصلًا مستقلًا من أصول الأحكام، وأنهم أعملوها أكثر من غيرهم ينظر: الفروق للقرافي (2/33)، الوجيز في أصول الفقه ص (250)..