المطلب الثاني: ضابط الصدق والأمانة في المعاملات:
أوجب الله على عباده الصدق، والأمانة في الأمور كلها؛ فقال في الصدق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ سورة التوبة، آية: (119).، وقال في الأمانة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ سورة النساء، جزء آية: (58).. ولما كان مقصودُ المعاملات هو تحصيل الأكساب والأرباح ينظر: تخريج الفروع على الأصول ص (240).، وكان فرطُ الشَّرَه في تحصيل ذلك وتكثيره، قد يحمل كثيرًا من الناس على الكذب والخيانة في معاملاتهم؛ أمر الله فيها بالصدق والبيان والأمانة؛ فقال تعالى: ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ الأعراف: جزء من الآية 85، وقال: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ البقرة : جزء من الآية 283.
أما الأحاديث النَّبويَّة التي تأمر بالصدق والأمانة في المعاملات، فكثيرةٌ جدًّا، منها قول النَّبيِّ- صلى الله عليه وسلم -: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا، مُحِقَتْ بَرْكَةُ بَيْعِهِمَا» رواه البخاري (2079)، ومسلم (1532).، فالصدق والبيان من آكد أسباب المباركة في الرزق والمال، والكذبُ والكتمان من أعظم أسباب المحق والخسار. ومن ذلك أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- غلَّظ في الكذب في المعاملات، ونهى عن الغش؛ فقال- صلى الله عليه وسلم -: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: الْمَنَّانُ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالحَلِفِ الْكَاذِبِ» رواه مسلم (106)، من حديث أبي ذر- رضي الله عنه-.، وقال لصاحب الطعام الذي أخفى عيبَ طعامه: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟»، قال: أصابته السَّماءُ يا رسولَ الله، قال: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ؟»، ثم قال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي» رواه مسلم (102)، من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-.، فهذا الحديث عامٌّ في النَّهي عن ((الغِشِّ في المعاملات كلِّها، من التِّجارةِ والإجارة والمشاركة وكلِّ شيء، فإنَّه يجب في المعاملات الصِّدقُ والبيان، ويحرُم فيها الغِشُّ والتَّدليس والكتمان)) الإرشاد إلى معرفة الأحكام ص (116)..
والضَّابط الكلِّيُّ لما يجب في المعاملات من الصِّدق والأمانة: ((ألَّا يُحِبَّ لأخيه إلا ما يحبُّه لنفسه؛ فكلُّ ما لو عومل به شَقَّ عليه، وثقُل على قلبه، فينبغي أن لا يُعامِل غيرَه به)) ، وقد فصَّل الغزاليُّ هذا الضابط الكلي، فقال: ((فأما تفصيله، ففي أربعة أمور: أن لا يُثني على السلعة بما ليس فيها، وألَّا يَكتُم مِن عيوبها وخفايا صفاتها شيئًا أصلًا، وألَّا يكتُم في وزنها ومقدارها شيئًا، وألَّا يكتُم من سعرها ما لو عرفه المعامل لامتنع عنه)) إحياء علوم الدين (1/75). . وهذا تفصيلٌ جامع لكلِّ ما ينبغي مراعاته من الصدق، والبيان، والأمانة في المعاملات. فالواجب تمام الصدق والأمانة، ولذلك منع الإمام أحمد- رحمه الله- المعاريض المعاريض: جمع مِعرَاض، من التعريض، وهو خلاف التصريح من القول، فالمعاريض: التورية بالشيء عن الشيء. [ ينظر: لسان العرب، مادة (عرض)، (7/183)، النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (عرض)، (3/212)] في الشراء والبيع، لما فيها من التدليس، وعدم البيان الواجب. وهذا ليس خاصًّا بالبيع والشراء، بل عام في جميع المعاملات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((كلُّ ما وجب بيانُه، فالتعريضُ فيه حرام، لأنه كِتمان وتدليس، ويدخل في هذا الإقرارُ بالحقِّ، والتعريض في الحلِف عليه، والشَّهادة على المعقود عليه، ووصف المعقود عليه)) إعلام الموقعين (3/247)..