المطلب الثَّاني: ضابط الغرر الممنوع في المعاملات:
منعُ الغرر أصلٌ عظيم من أصول الشريعة، في باب المعاملات في المبايعات، وسائر المعاوضات ينظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح (6/74)، إعلام الموقعين (2/9).؛ فإنَّه لما كان الخلقُ في ضرورةٍ إلى المعاوضات، اقتضت حكمةُ أحكم الحاكمين تحقيقَ هذا المقصود، مع نفي الغَرَر عن مصادر العقود، ومواردها؛ لتُتَمَّمَ بذلك مصالحُ العباد ينظر: تخريج الفروع على الأصول ص (145).، وتُحصَّن أموالهم من الضياع، وتُقطع المنازعاتُ والمخاصمات بينهم ينظر: حاشية الروض النضير للحيمي (3/241)..
والأصل في ذلك ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- قال: "نهى رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- عن بَيْعِ الغَرَرِ" رواه مسلم (1513)، (3/1153).، وقد دخل تحت هذا النَّهي مسائلُ كثيرة؛ فمن ذلك: النَّهيُ عن بيع حَبَل الحَبَلة حَبَل الحَبَلةَ: بفتح الجميع، الولد الذي في بطن النَّاقة، وفي "الزاد" لابن القيم قال: "وهو نتاج النتاج في أحد الأقوال، والثاني: أنه أجل، فكانوا يتبايعون إليه، هكذا رواه مسلم، وكلاهما غرر، والثالث أنه بيع حمل الكرم قبل أن يبلغ قاله المبرد"، [ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (ح ب ل)، (1/334)، المصباح المنير، مادة (ح ب ل)، ص (66)،"زاد المعاد"(5/725) ].، والملاقيح الملاقيح: وهو ما في بطون النوق من الأجنة.[ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (لقح)، (4/263)، المصباح المنير، مادة (ل ق ح)، ص (286)].، والمضامين المضامين: جمع مضمون، وهو ما في أصلاب الفحول. [ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (ضمن)، (4/263)، المصباح المنير، مادة (ض م ن)، ص (189)].، وبيع الثمر قبل بدوِّ صلاحه، وبيع الملامسة الملامسة: من اللمس، وهو أن يقول: إذا لمست ثوبي، أو لمست ثوبك، فقد وجب البيع. [ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (لمس)، (4/269)، المصباح المنير، مادة (ل م س)، ص (288)].، وبيع المنابذة المنابذة: من النبذ، وهو أن يقول الرجل لصاحبه: إذا نبذت متاعك، أو نبذت متاعي، فقد وجب البيع. [ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (نبذ)، (5/6)، المصباح المنير، مادة (ن ب ذ)، ص (304)].، وبيع المعجوز عن تسليمه، كبيع الطير في الهواء، ونحو ذلك من البياعات التي هي نوع من الغرر ينظر: القواعد النورانية ص (138), زاد المعاد (5/818), الموافقات للشاطبي (3/151-152).، المجهول العاقبة، الدَّائر بين العطب والسّلامة، سواء كان الغرر في العقد أو العوض أو الأجل ينظر: المنتقى للباجي (5/41)، المعلم بفوائد مسلم (2/244- 245)..
ومما ينبغي ملاحظتُه في معرفة الغرر الممنوع: أنَّ نهي الشارع عن الغرر، لا يمكن حمله على الإطلاق الَّذي يقتضيه لفظ النهي، بل يجب فيه النظر إلى مقصود الشارع، ولا يُتبع فيه اللَّفظ بمجرَّده، فإنَّ ذلك يؤدي إلى إغلاق باب البيع، وليس ذلك مقصودًا للشَّارع ينظر: الموافقات للشاطبي (2/14)، (3/151-152).، إذ لا تكاد تخلو معاملةٌ من شيءٍ من الغرر ينظر: عقد الجواهر الثمينة (2/419)، المنتقى للباجي (5/41).؛ ولذلك اشترط العلماءُ رحمهم الله أوصافًا للغرر المؤثِّر، لابدَّ من وجودها، وهي كما يلي:
أولًا: أن يكون الغررُ كثيرًا غالبًا على العقد:
فقد أجمع العلماء على أن يسير الغرر لا يمنع صحة العقود حكى هذا الإجماع: ابن رشد في بداية المجتهد (2/155)، والقرافي في الفروق (3/265)، والنووي في المجموع شرح المهذب (9/258).، إذ لا يمكن التحرز منه بالكلية ينظر: بداية المجتهد (2/155، 157)، الذخيرة للقرافي (5/93)، الفروق للقرافي (3/265-266)، المجموع شرح المهذب (9/258).، وذلك كجواز شرب ماء السقاء بعوض، ودخول الحمام بأجرة، مع اختلاف الناس في استعمال الماء، أو مُكثهم في الحمَّام، وما أشبه ذلك ينظر: المجموع شرح المهذب (9/258)، زاد المعاد (5/821)، الموافقات للشاطبي (4/158)..
ثانيًا: أن يمكِنَ التَّحرُّزُ من الغرر، دون حرج ومشقة:
فقد أجمع أهلُ العلم حكى هذا الإجماع: النووي في المجموع شرح المهذب (9/258)، وابن القيم في زاد المعاد (5/820).، على أنَّ ما لا يمكن التَّحرُّز فيه من الغرر إلا بمشقَّة، كالغرر الحاصل في أساسات الجدران، وداخل بطون الحيوان، أو آخر الثمار التي بدا صلاحُ بعضها دونَ بعض، فإنَّه مما يُتسامح فيه، ويُعفى عنه ينظر: المجموع شرح المهذب (9/258)، زاد المعاد (5/820)، الموافقات للشاطبي (4/158)..
ثالثًا: ألاَّ تدعو إلى الغرر حاجةٌ عامَّة:
فإنَّ الحاجات العامة تُنزَّل منزلة الضرورات، قال الجويني : ((الحاجة في حقِّ النَّاس كافَّة تُنزَّل منزلةَ الضرورة)) غياث الأمم في التياث الظلم ص (478-479).، وضابط هذه الحاجة، هي كلُّ ما لو تركه الناس لتضرَّروا في الحال، أو المآل غياث الأمم في التياث الظلم ص (481).، فإذا دعت حاجة الناس إلى معاملة فيها غرر لا تتم إلا به؛ فإنه يكون من الغرر المعفوِّ عنه، قال ابن رشد في ضابط الغرر غير المؤثِّر: ((وإنَّ غير المؤثر هو اليسير، أو الذي تدعو إليه ضرورةٌ، أو ما جمع بين أمرين)) بداية المجتهد (2/175)، وينظر: المجموع شرح المهذب (9/258).، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه، من البيع، لأجل نوع من الغرر، بل يُبيح ما يُحتاج إليه من ذلك)) مجموع الفتاوى (29/227)، وينظر: (32/236، 29/25-26)..
ومما استدلَّ به أهلُ العلم على إباحة ما تدعو الحاجة إليه من الغرر: أحاديثُ النَّهي عن بيع الثِّمار حتى يبدو صلاحها، ومنها حديث ابن عمر، - رضي الله عنهما -: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ» رواه البخاري (2194)، (2/112)، ومسلم (1534)، (3/1165).. ووجه الدلالة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أرخص في ابتياع ثمر النَّخل بعد بدوِّ صلاحها مبقاةً إلى كمال صلاحه، وإن كان بعض أجزائها لم يُخلَق، فدلَّ ذلك على إباحة ما تدعو إليه الحاجة من الغرر ينظر: مجموع الفتاوى (20/341)، إعلام الموقعين (2/6-7)..
رابعًا: أن يكون الغررُ أصلًا غيرَ تابع:
فإنَّ الغرر التابع مما يُعفى عنه؛ لأنه يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان دليل ذلك: ((وجوّز النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا باع نخلًا قد أُبِّرت أن يشترط المبتاعُ ثمرتها يشير إلى حديث ابن عمر: أن النبي قال: «مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ الَّذِي بَاعَهَا، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ". وقد رواه البخاري في كتاب البيوع - باب الرجل يكون له ثمر أو شرب في حائط أو نخل، رقم 2379)، ومسلم في كتاب البيوع - باب من باع نخلًا عليها ثمر، رقم (1543).، فيكون قد اشترى ثمرةً قبل بُدوِّ صلاحها، لكن على وجه التَّبع للأصل، فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنًا وتبعًا، ما لا يجوز من غيره)) مجموع الفتاوى (29/26)..