بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى :
والهجرة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهي باقية إلى أن تقوم الساعة، والدليل قوله تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً `إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ` فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً[ وقوله تعالى: ] يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ[، قال البغوي رحمه الله تعالى: ( سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان ). والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها )([1]).
قوله رحمه الله: ( والهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام )هذا هو معنى الهجرة في الاصطلاح، فالهجرة في اصطلاح العلماء: هي الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهي من حيث الأصل مشتقة من الهجر، والهجر تقدم بيانه قبل قليل، وأنه "الترك والمفارقة" ثم من هذا التعريف يتبين لنا أن البلاد تنقسم إلى قسمين من حيث الجملة، بلاد شرك وبلاد إسلام، وهي التي يتكلم عنها الفقهاء بقولهم: دار الكفر ودار الإسلام، فما هي دار الكفر وما هي دار الإسلام ؟
دار الكفر: هي البلاد التي يغلب فيها أهل الكفر، ودار الإسلام هي البلاد التي يغلب فيها أهل الإسلام، هذا هو أجود ما قيل في بيان دار الكفر ودار الإسلام، وهناك من الدور ما يتعذر وصفه بكفرٍ أو إسلام، وهي الدور التي يختلط فيها المسلمون بالكفار اختلاطاً بحيث إنه لا يمكن أن يوصف المكان بدار الكفر أو الإسلام، وهذه الدار يعامل فيها الكافر بما يستحق والمؤمن بما يستحق.
قال رحمه الله: ( والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام )
أفادنا رحمه الله أن الهجرة واجبة على أهل الإسلام من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، واعلم أن الهجرة منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، فالهجرة الواجبة: هي في حق من لم يستطع أن يقوم بشعائر الدين، يعني المسلم الذي في بلاد الكفر ولم يتمكن من إظهار دينه، فإنه يجب عليه أن يهاجر إن استطاع، ففهمنا أن الهجرة الواجبة لها شرطان:
الشرط الأول: عدم التمكن من إظهار شعائر الدين التي لا يقوم الدين إلاّ بها.
الشرط الثاني: أن يكون مستطيعاً، وهذا سيتبين من الآية، وهو الدليل الذي ساقه المؤلف رحمه الله، أما الهجرة المستحبة: فهي الهجرة من المكان الذي ينقص فيه دين الإنسان لكنّه يتمكن من إظهار الدين وشعائره الأساسية، فالهجرة عن مثل هذا المكان حكمها الاستحباب، سواء أكانت دار كفرٍ أو كانت دار فسق، هذا من حيث الأصل في تقسيم الهجرة أي: من حيث كونها واجبةً أو مستحبة.
قال رحمه الله: ( وهي باقية )الإشارة إلى الهجرة يعني: أنها باقية إلى أن تقوم الساعة، وذلك لما سيذكره من الدليل في قوله r: ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة )وهذا يفيد استمرار الهجرة.
استدل رحمه الله على وجوب الهجرة بقوله: والدليل قوله تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً `إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً` فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً [([2])،
فقوله: ] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [ أي: ظلموا أنفسهم بالبقاء بين ظهراني المشركين، مع إمكان الهجرة وتعذر إقامة الدين بين المشركين.
]قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ[ فإذا كانوا مستضعفين في الأرض فإن هذا يفيدنا أنهم لا يتمكنون من إظهار شعائر الدين ]قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا[ هذا جواب الملائكة على اعتذارهم في أنهم مستضعفون، قال: ]فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً[ هذا حكم الله فيهم، مأواهم أي: مصيرهم ومآلهم جهنم وساءت مصيراً، نعوذ بالله منها، ثم استثنى ] إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ[ ثم بين من هم، وهذا فيه الدليل على الشرط الثاني، وهو القدرة على الهجرة ]إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً[ فهم لا يستطيعون التخلص من هذا الاستضعاف الذي هم فيه، ولا سبيل لهم إلى الوصول إلى المسلمين، إما بضعفهم أو إكراههم على الإقامة بين المشركين، أو غير ذلك مما يحقق الوصف فيهم أنهم لا يستطيعون حيلة يتخلصون بها من تسلط الكفار، ولا يهتدون سبيلاً يصلون به إلى المسلمين، ثم قال تعالى في الحكم على هؤلاء: ]فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً[ وكان هذا وعداً من الله عز وجل بالعفو عن هؤلاء لعذرهم بعدم الاستطاعة، ثم قال: وقوله -يعني في الدليل على وجوب الهجرة- ] يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ[([3])أمر الله عز وجل هنا بالهجرة إذا تعذر إقامة العبادة في مكانٍ أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة، ليحقق العبادة، قال البغوي رحمه الله: سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين في مكة الذين لم يهاجروا، فناداهم باسم الإيمان، وفهمنا من هذا أن ترك الهجرة مع القدرة عليها ليس بكفر، إنما هو من المعاصي، فقوله: ]فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً[ هذه عقوبة، وليست جهنم التي يخلد فيها أهلها من الكفار، ولكن ترك الهجرة مع القدرة عليها كبيرة من كبائر الذنوب، للوعيد عليها بالعذاب في جهنم.
قال والدليل على الهجرة من السنة قوله r: (( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ))([4])، وعند ذلك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، وهذا دليل على استمرار الهجرة. هذا الحديث كيف يتفق مع قول النبي rفي الصحيحي:ن (( لا هجرة بعد الفتح وإنما جهاد ونيّة ))([5])، أو ((ولكن جهاد ونيّة ))يتفق أن الهجرة المنفية في حديث الصحيحين هي الهجرة المعهودة في زمانه r، وهي الهجرة من مكة إلى المدينة، وذلك أنه بالفتح تحولت مكة من كونها دار كفرٍ إلى دار إسلام، ولما صارت دار إسلام انتهى وجوب الهجرة منها، أو استحباب الهجرة منها، وكذلك بقية الجهات في الجزيرة سلّمت بعد الفتح للنبي r، وأتى الوفود إليه rمقرين بدعوته مستسلمين له r، فقال: (( لا هجرة بعد الفتح ))وأما الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام فهي مستمرة، لقوله r: (( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ))([6])، وللعموم في قوله: ] يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ[([7])وكذلك العموم في آيات سورة النساء. .
فلما استقر بالمدينة أمر ببقية شرائع الإسلام مثل الزكاة والصوم والحج والجهاد والأذان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من شرائع الإسلام. أخذ على هذا عشر سنين، وبعدها توفي صلوات الله وسلامه عليه، ودينه باق، وهذا دينه لا خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها منه، والخير الذي دل عليه التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه، والشر الذي حذر منه الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه.
في قوله رحمه الله: (فلما استقر في المدينة أمر ببقية شرائع الإسلام، مثل الزكاة، والصوم والحج، والأذان، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام).
هذا واضح لمن عرف سيرة النبي r، فإن الأمر بهذه الأشياء كان بعد الهجرة إلى المدينة، ولكن ينبغي أن يفهم أن النبي rلم تنقطع دعوته إلى التوحيد إلى آخر حياته r، فإنه كان يدعو إلى التوحيد وهو في الرمق الأخير r، ومن ذلك أنه لعن اليهود والنصارى قبل وفاته بليالٍ، وقال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))([8])، وكثير مما كان يأمر به rمن أمور التوحيد حصلت في المدينة، لاسيما في مكملات التوحيد مع استمرار دعوته إلى التوحيد فيها، يعني إلى أصل التوحيد وإلى إخلاص العبادة لله عز وجل، ولكن أتى الأمر بالشرائع في المدينة لأن الذين سلموا له بالتوحيد احتاجوا إلى تكميله بالعمل الصالح، فدعاهم إلى ما أمره الله عز وجل أن يدعوهم إليه من شرائع الإسلام.
ثم قال:( وتوفي rودينه باقٍ ) وهذا فيه الإشارة إلى أن بقاء الدين ليس مرتبطاً بحياته r، وفيه أنه rتوفي وهذا أمر مجمع عليه، دل عليه الكتاب والسنة كما سيأتي بيانه بالأدلة التي ذكرها وبينها الشيخ رحمه الله، وهذا خلافاً لما يزعمه غلاة الصوفية الذين يقولون: إنه لم يمت r، وهذا كذب وافتراء، وتكذيب لما ثبت ثبوتاً قطعياً في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي rوأجمعت عليه الأمة، وبقاء الدين لا إشكال فيه، قال تعالى:] إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [([9])وحفظه بحفظ أهله، فإن الله عز وجل تعهد بحفظ هذا الدين، ولا يمكن حفظ الدين إلاّ بحفظ أهله، ولذلك قال النبي r:((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة، أو حتى يأتي أمر الله ))([10]).
وقوله: ( لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه )لا إشكال في هذا، ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: ((إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ))([11]). هذا في الأنبياء قبله أما هو فله النصيب الأوفى والحظ الأوفر لأنه أنصح الخلق لأمته r:]لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ[([12])فجزاه الله عنا خير ماجزي نبياً عن أمته.
ثم قال: والخير الذي دلها عليه التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه والشر الذي حذرها عنه الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه وابتدأ بالتوحيد لأنه أعظم ما أمر به من الخير وابتدأ بالشرك لأنه أعلى ما يحذر ويخاف منه من الشر.
بعثه الله إلى الناس كافة وافترض الله طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس، والدليل قوله تعالى: ] قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً [([13])وأكمل الله به الدين والدليل قوله تعالى: ] اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [([14])والدليل على موته rقوله تعالى: ] إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون [([15]).
في هذا المقطع بيان أن النبي rمبعوث إلى الناس كافة إلى جميعهم عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم كل الناس يجب عليهم الإيمان بالنبي rسواء كان من أهل الكتاب أو من غيرهم فالواجب على كل من سمع بالنبي rأن يؤمن به ولا يسعه إلا ذلك فإن النبي rقال: ((ما من أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار)).وهذا فيه أنه يجب على كل من بلغه خبر النبي rأن يسلم له وأن يسلم به ويؤمن ببعثته ورسالته.
قال: (وافترض طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس)والثقلان جمع ثقل والثقل يطلق في لغة العرب على الشيء النفيس الذي له قيمة فسمي هذان الجنسان بهذا الاسم لمكانتهما وشرفهما.
قال: والدليل قوله تعالى: ] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً[([16])الدلالة على أن الرسول rمبعوث إلى الإنس قوله] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ [ الخطاب موجه لجميعهم] إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً[ وهذا لا عموم في قوله:] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ [ وأكد بقوله:]جَمِيعاً[ وأما الجن فالدليل على أنه مبعوث إليهم قوله تعالى:]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [([17]) والشاهد قوله: ] لِلْعَالَمِينَ [ والجن من العالمَ، ولا يدخل في العالمين الملائكة ولا يكون رسولاً للملائكة ، بل يقال: هذا من العام الذي أريد به الخصوص، لأنه معلوم قطعاً أنه لم يرسل إلى الملائكة، وهل يوجد دليل خاص يدل على أنه مبعوث إلى الجن ؟ نعم، وهي آية الأحقاف، وفيها أن الله صرف إليه نفراً من الجن، وكان مما قالوا لما رجعوا إلى قومهم:] يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[([18])، فلم يكن هذا منهم إلا لما علموا أنهم مخاطبون بهذه الرسالة، ولا إشكال في هذا، فالأمة مجمعة على أن النبي rمبعوث إلى الجن، كما أنه مبعوث إلى عامة الإنس r.
قال: ( وأكمل الله به الدين والدليل قوله تعالى: ] الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [([19])) وهذا واضح في أن النبي rقد كمل الدين، فكل من زاد في دين الله تعالى فقد افترى على الله كذباً، وقال عليه بغير علم، لأن الله عز وجل قال:] الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[ فمن استدرك بزيادة أو ببدعة فإنه كالقائل: إن الله عز وجل لم يكمل لنا الدين، أي: لم يكمل لنا العمل الذي نتقرب ونتعبد به الله سبحانه وتعالى.
ثم قال: والدليل على موته rقوله: ] إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [([20])وهذا أمر واضح كما قلنا في الكتاب والسنة وإجماع الأمة عليه.
والناس إذا ماتوا يبعثون والدليل قوله تعالى: ] مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى[([21])وقوله تعالى: ] وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً `ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً[([22])وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم، والدليل قوله تعالى: ]وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى[([23]). ومن كذب بالبعث كفر والدليل قوله تعالى: ]زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[([24]).
هذا المقطع فيه تقرير ما أجمعت عليه الرسل، وهو الإيمان باليوم الآخر.
انتهى المؤلف من ذكر الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم تعلمها، وختم الرسالة رحمه الله بذكر الأصول الثلاثة التي أجمعت الرسل على الدعوة إليها، وهي التوحيد والإيمان بالله عز وجل، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالرسل، ويضاف إلى هذه الثلاثة رابع، وهو العمل الصالح، فإن الرسل جاءت بالدعوة إلى الإيمان بالله والى الإيمان باليوم الآخر وإلى العمل الصالح، ومن لازم مجيئها الإيمان بالرسل أيضاً.
يقول رحمه الله: ( والناس إذا ماتوا يبعثون )والبعث هو الخروج من القبور ليوم البعث والنشور، وذلك أن الناس إذا ماتوا بعثهم الله عز وجل من قبورهم، ليوافوا بأعمالهم، والدليل قوله تعالى: ] مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى[([25])وقوله: ] وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً `ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً[([26])وهذا أمر مجمع عليه ولا خلاف فيه بين أهل الإيمان قديمهم وحديثهم، يعني هذا أمر أجمعت عليه الرسل، فمن كذب به أو أنكره فإنه كافر، كما سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله، والبعث الذي آمن به الرسل ودعوا أقوامهم إلى الإيمان به: هو بعث الأرواح والأجساد، خلافاً لما قالته الفلاسفة: بأن البعث إنما هو للأرواح فقط، فإن من قال: إن البعث للأرواح فقط فقد كفر بما أنزله الله على رسله، لأن الذي أنزله على رسله أن البعث للأرواح والأجساد معاً.
قال: ( وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم )البعث ليس لمجرد البعث إنما ليوافوا بأعمالهم كما تقدم، والدليل قوله تعالى: ] وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى[([27]) ومن كذب بالبعث كفر ولا إشكال في هذا لمخالفته ما هو قطعيّ في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي rوأجمعت عليه الأمة والدليل على كفر من كذب البعث قوله تعالى: ] زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[([28])والشاهد من الآية قوله سبحانه وتعالى: ] زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا[ حيث وصفهم بالكفر، ] ألّّن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثنَّ [ القائل هو الله عز وجل، أمر رسوله rبأن يقسم على البعث وذلك لأهميته وجلالة قدره، وأنه من الأمور التي تحتاج إلى تأكيد بالقسم حتى تقرّ قلوب هؤلاء الكفار بالبعث] قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[ وهو في أذهانهم وتصوراتهم عسير، ومن هذا نفهم أنه إنما أنكر من أنكر البعث بسبب طعنه بقدرة الله عز وجل، فلو أنه آمن بكمال قدرته جل وعلا لما أنكر البعث، ولذلك يذكر الله جلّ وعلا في الحجج التي يقيمها على من كذب بالبعث يذكر قدرته وكمالها، وهذا هو أحد البواعث على الإنكار بالبعث، فأحد أسباب الإنكار بالبعث: هو ضعف الإيمان بقدرة الله عز وجل، والله عز وجل يقرر البعث ببيان كمال قدرته، وكمال علمه، وكمال حكمته، فمن آمن بكمال قدرة الله وكمال علمه جل وعلا وكمال حكمته لا يمكن أن يقع في قلبه إنكار البعث، ولذلك قال هنا في تقرير البعث: ]وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[ فهو جلّ وعلا على كل شي قدير.
([1]) أخرجه أبو داود في الجهاد، برقم: 2120، وأحمد في الجهاد، برقم: 16301، والدارمي في السير، برقم: 2401.
([4]) أخرجه أبو داود في الجهاد، برقم: 2120، وأحمد في الجهاد، برقم: 16301، والدارمي في السير، برقم: 2401.
([5]) أخرجه البخاري في الجهاد والسير، برقم: 2613، و 2575، ومسلم في الإمارة، برقم: 3468، والترمذي في السير، برقم: 1516، وأحمد في مسند بني هاشم، برقم: 1887 و 3164.
([6]) أخرجه أبو داود في الجهاد، برقم: 2120، وأحمد في الجهاد، برقم: 16301، والدارمي في السير، برقم: 2401.
([8]) أخرجه البخاري في الصلاة، برقم: 417، و418، وفي الجنائز، برقم: 1301، ومسلم في المساجد، برقم: 823، و 824، و 825.