الأصل الأول: الأصل في المعاملات الحِلُّ:
اختلف أهل العلم -رحمهم الله- في الأصل في المعاملات، هل هو الإباحة أو الحظر؟ على قولين تنبيه: وَهِمَ بعض من بحث هذه المسألة، فجعل فيها ثلاثة أقوال: قولًا بالإباحة، وقولًا بالحظر، وقولًا بالوقف، وفي هذا نظر، كما قال الزركشي في البحر المحيط في أصول الفقه (6/12): "لم يحكوا هنا - أي في مسألة الأصل في الأشياء بعد ورود الشرع قولًا ثالثًا بالوقف كما هناك - أي في حكم الأشياء قبل ورود الشرع -؛ لأن الشرع ناقل، وقد خلط بعضهم بين الصورتين، وأجرى الخلاف هنا أيضًا - أي في مسألة حكم الأشياء بعد ورود الشرع -". -بناءً على اختلاف قولهم في الأصل في الأشياء ينظر: غياث الأمم في التياث الظلم ص (497)، مجموع الفتاوى (29/150). بعد ورود الشَّرع- هل هو الإباحةُ أو الحظر:
القول الأول: الأصلُ في المعاملات الإباحة:
وهو قول أكثر الحنفيَّة ينظر: الفصول في الأصول للجصاص (3/252-254)، فواتح الرحموت (1/49)، التقرير والتحبير (2/101).، ومذهب المالكيَّة ينظر: التلقين للقاضي عبد الوهاب (2/359)، الخرشي على مختصر خليل (5/149)، الذخيرة للقرافي (1/155)، نشر البنود شرح مراقي السعود ص (20 - 21).، والشافعيَّة ينظر: غياث الأمم في التياث الظلم ص (492)، المحصول في علم الأصول (6/97)، شرح المنهاج للبيضاوي (2/751)، سلاسل الذهب ص (423).، والحنابلة ينظر: التمهيد في أصول الفقه (4/269-271)، شرح الكوكب المنير (1/325)، شرح مختصر الروضة (1/399)، القواعد النورانية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص (210).، فهو قول الجمهور ينظر: إعلام الموقعين (1/344).، بل قال ابن رجب: ((وقد حكى بعضُهم الإجماعَ عليه)) جامع العلوم والحكم (2/166)..
القول الثَّاني: الأصلُ في المعاملات الحظر:
وهو قول الأبْهَريِّ من المالكية ينظر: إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي: ص (681)، نثر الورود شرح مراقي السعود (1/44).، وابن حزم من الظاهريَّة ينظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (5/15-16)..
ولقد استدلَّ كل فريق بأدلة من الكتاب، والسنة، والنَّظر. ولما كانت أدلتهم كثيرة متشعِّبة، اقتصرتُ على ما يتعلَّق منها بالمعاملات فقط.
أدلة القول الأول:
أولًا: من الكتاب:
الأول: الآياتُ التي فيها الأمرُ بالوفاء بالعقود والعهود، كقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ سورة المائدة، جزء آية: (1). وقوله: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا﴾ سورة الإسراء، جزء آية: (34).، ونحو ذلك من الآيات.
وجه الدلالة: أنَّ الله - جلَّ وعلا - أمر بالوفاء بالعقود والعهود مطلقًا، وهذا يشمل كل تعاقد خلا من المخالفات الشرعيَّة؛ فدلّ ذلك على أنَّ الأصل في المعاملات الإباحةُ لا الحظر ينظر: تفسير المنار (6/121)، وهذا موجود أيضا ًفي القواعد النورانية..
الثاني: الآيات التي جاء فيها حصر المحرمات في أنواع، أو أوصاف؛ كقول الله - تعالى- : ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ﴾ سورة الأنعام، جزء آية: (145).، وقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ سورة الأعراف، آية: (33)..
وجه الدلالة: أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - حصر في هذه الآياتِ المحرَّماتِ بأنواعٍ وأوصاف، ((فمالم يُعلَم فيه تحريمٌ يجري عليه حكم الحِلِّ، والسَّبب فيه، أنه لا يثبت حكمٌ على المكلَّفين غيرُ مستندٍ إلى دليل)) غياث الأمم في التياث الظلم ص (490)..
الثالث: قول الله -تعالى-: ﴿إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ سورة النساء، جزء آية: (29)..
وجه الدلالة: أنَّ الله -تعالى- لم يشترط في التجارة إلا التراضي، وذلك يقتضي أنَّ التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك، فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة، أو طابت نفس المتبرع بتبرع ثبت حِلُّه بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرَّمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك ينظر: مجموع الفتاوى (29/155)، وينظر: غياث الأمم في التياث الظلم ص (494 - 495).، فالآية أصل في إباحة جميع المعاملات، والبياعات، وأنواع التجارات، متى توفر في هذه التجارة أو المعاملة الرضا المعتبر، والصدق، والعدل ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/241)، الإرشاد إلى معرفة الأحكام ص (102)..
الرابع: قول الله -تعالى- : ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ سورة الأنعام، جزء آية: (119)..
وجه الدلالة: أنَّ كلَّ ((ما لم يُبيِّن الله، ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - تحريمه من المطاعم، والمشارب، والملابس، والعقود، والشُّروط فلا يجوز تحريمها؛ فإنَّ الله - سبحانه - قد فصّل لنا ما حرم علينا، فما كان من هذه الأشياء حرامًا، فلابدَّ أن يكون تحريمه مفصّلًا، وكما أنه لا يجوز إباحةُ ما حرَّمه الله، فكذلك لا يجوز تحريمُ ما عفا الله عنه، ولم يُحرِّمه)) إعلام الموقعين (1/383)..
الخامس: قول الله - تعالى -: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا﴾ سورة البقرة، جزء آية: (275)..
وجه الدِّلالة: أنَّ الله - سبحانه - أباح البيع، والتِّجارات بأنواعها؛ لما في ذلك من إقامة مصالح الناس ومعاشهم، وحرّم الربا؛ لما فيه من الظلم، وأكل المال بالباطل، فدلّ ذلك على أنَّ الأصل في المعاملاتِ الحِلُّ ما لم تشتمل على ظلمٍ، أو أكلٍ للمال بالباطل. ينظر: مجموع الفتاوى (20/349)، الإرشاد إلى معرفة الأحكام ص (101)، الفتاوى السعدية ص (316 - 317).
ثانيًا: من السنة:
*أولًا: الأحاديثُ التي فيها أنَّ ما سكت الشارع عنه من الأعيان، أو المعاملات، فهو عفوٌ لا يجوز الحكم بتحريمه.
ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيانٍ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» رواه الدارقطني بهذا اللفظ (42)، والطبراني(859)، والبيهقي(10/12-13)، كلهم من حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه-. وقد حسّنه النووي في الأربعين رقم (30)، وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/171): "رجاله رجال الصحيح"؛ أما ابن رجب فقد ذكر للحديث علَّتين في شرحه على الأربعين (2/150)، وقال الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (3/72): "رجاله ثقات، إلا أنه منقطع".. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ، فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْكُمْ» رواه الترمذي(1726)، وابن ماجه(3367)، كلاهما من طريق سيف بن هارون البَرْجمي عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان الفارسي. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه...، وكأن الحديث الموقوف أصح، وسألت البخاري عن هذا الحديث، فقال: ما أراه محفوظًا"، وقال الذهبي في التلخيص (4/11): "ضعّفه جماعة". وقد روى الحاكم شاهدًا لهذا الحديث في كتاب التفسير (2/275) ؛ من طريق أبي الدرداء - رضي الله عنه- وفي آخره: "وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئًا"، وتلا قول الله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: 64]، وقال عنه: "حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وقال عنه صاحب مجمع الزوائد (1/171): "إسناده حسن، ورجاله ثقات"، وقد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/266) عن البزار أنه قال في الحديث: "سنده صالح".، وغيرُ ذلك مما هو في هذا المعنى.
وجه الدلالة: أفادت هذه الأحاديثُ أنَّ الأشياء في حكم الشَّرع على ثلاثة أقسام:
الأول: ما أحلَّه الله فهو حلال.
الثَّاني: ما حرَّمه الله فهو حرام.
الثَّالث: ما سكت عنه فلم يذكرْه بتحليل ولا تحريم، فهو معفوٌّ عنه، لا حرج على فاعله ينظر: الاستقامة لابن تيمية (1/435)، الموافقات للشاطبي (1/162)، جامع العلوم والحكم (2/170).، قال ابن القيم- رحمه الله - في بيان حكم هذا القسم الثالث: ((فكلُّ شرط، وعقد، ومعاملةٍ سكت عنها، فإنه لا يجوز القول بتحريمها)) إعلام الموقعين (1/344- 345)، وينظر: (1/383).، وقد ترجم المجد ابن تيمية لهذه الأحاديثِ في "منتقى الأخبار" (2/816).، فقال: ((بابٌ في أنَّ الأصل في الأعيان والأشياء الإباحةُ إلى أن يَرِد منعٌ أو إلزامٌ))، وكذا صنع ابن حجر أيضًا، لما ذكر حديث «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ...» في كتاب "المطالب العالية" (3/72). فقال: ((باب البيان بأنَّ أصل الأشياء الإباحة)).
*ثانيًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» رواه البخاري (7289)، ومسلم (2358) من حديث سعد بن أبي وقاص..
وجه الدِّلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- حذّر من المسائل؛ خشية أن ينزل تشديدٌ بسبب السؤال، فدلَّ ذلك على أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة، ما لم يرد ما يدلُّ على التحريم، قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: ((وفي الحديث أنَّ الأصل في الأشياء الإباحةُ، حتى يرد الشَّرع بخلاف ذلك)) فتح الباري (13/269)، وينظر: الموافقات للشاطبي (1/174)..
ثالثًا: من النَّظر:
الأول: أنَّ العقود من باب الأفعال والتصرفات العادية، وهي ما اعتاده الناس في دنياهم، مما يحتاجون إليه؛ والأصل فيها العفو، وعدم الحظر، فيستصحب ذلك حتى يقوم الدليل على التحريم ينظر: مجموع الفتاوى (29/150)، القواعد النورانية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص (134).، "فيكون فعلُها إمَّا حلالًا وإمَّا عفوًا، كالأعيان التي لم تُحرَّم" مجموع الفتاوى (29/150).، فالمعتبر في هذا الباب مصالح العباد، والإذن دائر معها حيث دارت ينظر: الموافقات للشاطبي (2/305-306)..
الثاني: أن الشريعة جاءت بتحصيل مصالح العباد، ولذلك لم تُحرِّم على الناس شيئًا إلا لما فيه من الضَّرر والمفاسد، ولهذا فإنَّ كل معاملة لا ضرر فيها ولا مفسدة؛ فإنها مباحةٌ لما فيها من المصلحة مجموع الفتاوى (29/150)..
الثالث: ليس في الشرع ما يدلُّ على تحريم جنس العقود إلا عقودًا معيَّنة، فانتفاءُ دليل التَّحريم، دليلٌ على عدمه، فلو كان الأصل هو التحريم لما كان للنص على التحريم فائدة؛ إذ لا فرق بين ما نصَّ عليه وما لم ينصَّ عليه في الحكم.
الرابع: اتِّفاق العلماء على أنه لا يُشترطُ في صحة العقود معرفةُ إذنٍ خاصٍّ من الشَّارع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((فإنَّ المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عُقودًا، ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها، ولا تحليلها، فإنَّ الفقهاء جميعهم فيما أعلمه يصحِّحونها، إذا لم يعتقدوا تحريمها. وإن كان العاقد لم يكن حينئذٍ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد، ولا يقول أحد: لا يصح العقد، إلا الذي يعتقد أن الشارع أحله، فلو كان إذْن الشارع الخاص شرطًا في صحة العقود، لم يصحَّ عقد، إلا بعد ثبوت إذنه)) مجموع الفتاوى (29/159)، وينظر: غياث الأمم في التياث الظلم ص (495)، الموافقات للشاطبي (1/39)..
أدلة القول الثاني:
أولًا: من الكتاب:
الأول: قولُ الله - تعالى-: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ سورة البقرة، جزء آية: (229)..
وجه الدلالة: أنَّ الله - عز وجلَّ - حرَّم تعدي حدوده، وحكم على من تعدَّاها بأنه ظالمٌ، فمن قال بأنَّ الأصل في المعاملات الإباحةُ؛ فقد تعدَّى حدود الله - تعالى- بإباحة ما منع.
المناقشة:
نُوقش هذا بأنَّ ((تعدِّي حدود الله هو تحريمُ ما أحلَّه الله، أو إباحةُ ما حرَّمه الله، أو إسقاطُ ما أوجبه؛ لا إباحةُ ما سكت عنه وعفا عنه، بل تحريمُه هو نفسُ تعدِّي حدوده)) إعلام الموقعين (1/348)..
الثاني: قول الله - تعالى- : ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ سورة المائدة، جزء آية: (3)..
وجه الدلالة: إخبار الله - تعالى- الأمَّةَ بإكمال الدين، فمن أباح العقود التي لم تجئ في الشرع، فقد زاد في الدِّين ما ليس منه ينظر: القواعد النورانية ص (210)..
المناقشة:
نُوقش هذا بأنَّ من كمال الشريعة، وبديع نظامها، أنَّها دلَّت على إباحة المعاملات التي يحتاجها الناس في دنياهم، فالشَّريعة قد جاءت في باب المعاملات بالآداب الحسنة، فحرَّمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لابدَّ منه، وكرَّهت ما لا ينبغي، وندبت إلى ما فيه مصلحة راجحة، وما لم يرد في الشريعة تحريمُه أو إباحته فهو مسكوت عنه ينظر: غياث الأمم في التياث الظلم ص (495)، الموافقات للشاطبي (2/225-226)، إعلام الموقعين 1/350)..
الثَّالث: قول الله - تعالى- : ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ سورة النحل، جزء آية: (116)..
وجه الدلالة: أنَّ الله - تعالى - أنكر على الَّذين يحلِّلون ويحرِّمون من غير برهان، وجعله افتراءً عليه، إذ إنَّ التحريم ليس إلينا، بل هو من حقوق الرَّبِّ جلَّ شأنه.
المناقشة:
نوقش هذا بأنَّ الله أنكر على مَن أحلَّ وحرَّم من غير دليل. أما من قال: هذا حلال وهذا حرام مستندًا إلى النصوص عمومها أو خصوصها، فإنه غير داخل في هذه الآية ينظر: إرشاد الفحول ص (285).. والقائلون بأنَّ الأصل في المعاملات الإباحةُ استندوا في قولهم إلى أدلة من الكتاب، والسنة، والنظر، فليس هذا من افتراء الكذب على الله.
ثانيًا: من السنة:
الأول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهُ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» رواه البخاري (2168)، ومسلم (1504) من حديث عائشة - رضي الله عنها -..
وجه الدلالة: أنَّ كل عقد، أو شرط ليس في كتاب الله إباحته فهو باطل ينظر: المحلى (8/375)، مجموع الفتاوى (29/161)، إعلام الموقعين (1/347)..
المناقشة:
نوقش هذا من وجهين:
الوجه الأول: أنَّ المراد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ»، أن يكون الشَّرطُ أو العقد مخالفًا لحكم الله، وليس المرادُ ألَّا يذكر في كتابه - سبحانه - أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ودليلُ هذا أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث: «قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ»، وإنَّما يكون هذا فيما إذا خالف الشَّرطُ أو العقدُ قضاءَ الله، أو شرطه، بأن كان ذلك الشرط، أو العقد مما حرمه الله - تعالى -، فمضمون الحديث أن العقد، أو الشرط إذا لم يكونا من الأفعال المباحة، فإنه يكون محرمًا باطلًا ينظر: مجموع الفتاوى (29/160-161)، إعلام الموقعين (1/348).، فليس في الحديث دليل على منع العقود أو الشروط التي لم تُذكر في كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا يتمُّ الاستدلال به على أنَّ الأصل في الأشياء الحظر.
الوجه الثاني: ثمَّ إنَّه لو سُلِّم أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - مَنْعُ كل عقد أو شرط لم يُذكر في كتاب الله أو سنة رسوله، فيمكن القول بأنَّ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ» إنما يُراد به ما ليسَ فيه، لا بعُمومه ولا بخُصوصه؛ أمَّا ما كان فيه بعمومه، فإنه لا يُقال فيه: إنه ليس في كتاب الله. وقد ذكر أصحاب القول الأول من الأدلة ما يدل على أنَّ الأصل في المعاملات الحِلُّ، وعلى وجوب الوفاء بالعقود والعهود، وهذا يقتضي إباحتها، فالقول بأنَّ الأصل في العقود الإباحة، لا يمكِّن من القول بأنه ليس في كتاب الله، فإنَّ ما دلَّ كتابُ الله بعمومه على إباحته، فإنَّه من كتاب الله ينظر: مجموع الفتاوى (29/163).، فلا يدخل ذلك في قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ» رواه البخاري (2168)، ومسلم (1504)..
الثَّاني: قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» رواه البخاري (2697)، ومسلم(1718)..
وجه الدِّلالة: أنَّ كلَّ عقدٍ لم يرد في الشَّرع إباحتُه؛ فهو مردود ممنوع، فصحَّ بهذا الحديث بطلانُ كلِّ عقد، إلا عقدًا جاء النَّصُّ، أو الإجماع بإباحته ينظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (5/42)..
المناقشة:
نوقش هذا بعدم التَّسليم، فالحديث ليس فيه ما يدلُّ على أنَّ الأصل في المعاملاتِ الحظرُ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنَّ مَنْ عَمِل عملًا -عقدًا كان أو شرطًا، أو غير ذلك- مما يخالف ما عليه أمرُه صلى الله عليه وسلم فهو مردود باطل، وهذا محل اتفاق؛ وإنما الكلام فيما لم يرد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، فلا يمكن أن يقال في مثل هذا: إنه ليس على أمر النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتم الاستدلال به.
الترجيح:
بعد عرض قولي العلماء في هذه المسألة، وأدلتهم، ومناقشات الأدلة، تبيَّن أن القول بأنَّ الأصل في المعاملات الإباحة، أرجحُ من القول بأنَّ الأصل فيها الحظر؛ لقوة أدلته، وسلامتها من المناقشة، وضعف أدلة القائلين بأنَّ الأصل في الأشياء الحظر، وعدم انفكاكها عن المناقشات، ولما في هذا القول من المشقَّة والحرج الذي لا تأتي به شريعة أرحم الراحمين؛ فليس للناس بدٌّ من المعاملات والعقود، فتكليفهم طلبَ الدليل لكلِّ ما يتعاملون به، مما لا دليل على منعه؛ يتضمَّنُ تعطيل مصالح النَّاس، وإلحاقَ المشقَّة والعَنَت بهم، قال الجويني: ((ووضوحُ الحاجة إليها - أي إلى إباحة العقود التي لم يأتِ في الشرع تحريمها - يُغني عن تكلُّف بسطٍ فيها، فليصدروا العقود عن التراضي، فهو الأصل الذي لا يُغمض ما بقي من الشرع أصل، وليُجروا العقود على حكم الصحة)) غياث الأمم في التياث الظلم ص (495).، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((والأصل في هذا أنه لا يحرُم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها، إلا ما دلَّ الكتاب والسنة على تحريمه)) مجموع الفتاوى (28/386)..
ومما ينبغي ملاحظتُه في إعمال هذا الأصل التَّحقُّق من عدم وجود ما يوجب التحريم؛ قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: (فإذا ظهر أنَّ لعدم تحريم العقود والشروط جملةً وصحتها أصلين: الأدلة الشرعية العامة، والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب، وانتفاء المحرم. فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة ـ أي إنَّ الأصل في العقود والشروط الإباحة ـ في أنواع المسائل، وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع، أو المسألة: هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضى التحريم، أم لا؟) مجموع الفتاوى 29/164 – 166 والفتاوى الكبرى 4/99..