المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم مستمعينا الكرام إلى هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم "الدين والحياة"، والتي تأتيكم عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة.
يسعد بصحبتكم في هذه الحلقة إعداد وتقديم محدثكم: "عبد الله الداني".
وينفذ هذه الحلقة على الهواء زميلي: "محمد باصويلح".
كما يسرني أن أرحب بضيفي وضيفكم الدائم في هذا البرنامج صاحب الفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: "خالد بن عبد الله المصلح" أستاذ الفقه بكلية الشريعة في جامعة القصيم، المشرف العام على فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء في منطقة القصيم.
باسمي واسمكم أرحب بفضيلته في بداية هذا اللقاء، فالسلام عليكم ورحمة الله يا شيخ خالد.
الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أهلًا وسهلًا، مرحبًا بكم، حياكم الله.
المقدم: أهلًا وسهلًا، ومرحبًا بكل المستمعين والمستمعات الذين يستمعون إلينا الآن عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" في برنامجهم "الدين والحياة".
حديثنا في هذه الحلقة مستمعينا الكرام في: "قوله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾الحج:27"
شيخ خالد!عندما نتحدث عن هذه الآية الكريمة، ما هي المدلولات التي نستفيد منها من خلال هذه الآية الكريمة؟ عندما يتبادر إلى ذهن الإنسان أن هذه الشعيرة وهذا الحج، هذه الفريضة العظيمة لم تكن من فراغ ولم تكن وليدة الصدفة، بل إن هناك حكمة، وهناك تشريع مُعَيَّن في هذه الفرضية العظيمة، كانت منذ أنْ أمر الله -سبحانه وتعالى- نبيه إبراهيم -عليه السلام- بالنداء لهذه الفريضة العظيمة، ومن بعد ذلك أيضًا أمَّة نبينا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- تَعْبُد الله -سبحانه وتعالى- وهي متعبَّدة بهذه الفرضية العظيمة التي هي ركنٌ من أركان الإسلام وهي الركن الخامس من أركان الإسلام؟
الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
مثلما تفضلت أخي عبد الله، موضوع الحج هو أكثر من كونه قصدًا لبُقعةٍ في زمنٍ معين لأعمالٍ معينة، الحج هو إعلان ارتباط أول البشرية بآخرها؛ ولذلك عندما ذكر الله تعالى فرض الحج قدَّمه بذكر مسوغات ارتباط الناس بهذه البقعة مكة البلد الحرام،
فقال -جلَّ وعلا- في سورة آل عمران: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾آل عمران:96-97.
ثم قال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾آل عمران:97.
هذا البيان الإلهي الذي ذكر الله تعالى فيه مزايا هذه البُقعة ووجه تخصيص هذا المكان بالقصد، هو بيان للمسوِّغات التي جعلت هذه البقعة مَقْصِدًا للناس، يفرض الله تعالى على الناس أن يأتوا إليه، وأن يقصدوه.
الله تعالى خلق آدم، وأسند له ملائكته، وأسكنه جنته، ونهاه عما نهاه من أكل الشجرة، فأكل منها ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾طه:121-122.
أُهْبِط آدم إلى الأرض، والله تعالى قد قال له: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾طه:123-124.
أُهْبِط منها هو وزوجه إلى الأرض، وبيَّن لهما أن طريق السعادة في اتباع ما أمر الله تعالى، وطريق الشقاء في مخالفة أمره -جلَّ في علاه-.
وجعل الله تعالى موضعًا من عبادته في هذه الأرض لآدم وحواء وهو هذا البيت المشرَّف العظيم، الذي وضعه الله تعالى للتعبد؛ ولذلك قيل: إن أول مَنْ بنى هذا البيت الملائكة، بنوه لآدم، وعرَّفوه به؛ ولذلك سميت عرفة بعرفة.
قيل في أسباب تسميتها: أن آدم علَّمه جبريل كيف يكون حَجُّه ومناسك حجه، فلما جاء عرفةَ، قال: أعرفت؟ قال: نعم، أعرف فسميت عرفة، هكذا قيل.
المقصود: أنَّ هذه البقعة كانت أول الأماكن التي عُبِدَ الله تعالى فيها في الأرض.
وفي الصحيح من حديث أبي ذر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأله أبو ذر فقال: "أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلًا؟ فقَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى»، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً»[صحيح مسلم:ح520/1].
هذا يبيِّن أن بناء هذا المسجد وارتباط الناس به بالمجيء إليه هو ربط للناس بمقصود الوجود، وأن المقصود من هذا الخلق هو: تحقيق الغاية التي اجتمعوا عليها أول ما أنزلهم الله تعالى إلى هذه الأرض من عبادته -جلَّ وعلا- والقيام بحقه.
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾آل عمران:96
﴿وُضِعَ﴾ أي: للعبادة وليس للسُّكْنى.
وقيل: إن ثمَّة بيوتًا كانت موجودة كثيرة، لكن البيت الأول شرفًا، والبيت الأول منزلةً، والبيت الأول عبادةً هو هذا البيت المبارك.
فاستمر الناس على هذا، وقد قيل: "ما من نبيٍ إلا حجَّ البيت"[البيهقي في الكبرىموقوفا على عروة بن الزبير:ح9837، ولا يصح إسناده]، حتى جاء إبراهيم -عليه السلام-، وكان البيت قد انمحت معالمه وهُجِر النزول عنده، حتى جاء إليه -عليه السلام- وزوجته هاجر وابنه إسماعيل، فأنزلهما جوار البيت، والبيت لم يكن معمورًا، بل كان ربْوَةً مميزة، لكن لم يكن ثمَّة بناء، فأنزل هاجر وإسماعيل وتولى عنهما كما أمر الله -عزَّ وجلَّ-، حتى إنَّ هاجر تبعته قالت: أين تتركنا في هذا الوادي الذي لا زرع فيه، ولا ماء ولا ناس؟ فكانت تُكَرِّر عليه السؤال وهو متولٍّ عنها، ولم يُجِب شيئًا ولم يَرُد عليها شيئًا؛ لأنه ممتثلٌ أمر الله -عزَّ وجلَّ-، فهي علمت أن هذا الرجل - في الصلاح معروف وفي الخير سابق - لا يمكن أن يفعل هذا هكذا بدون سبب، فقالت: آلله أَمَرَك بذلك؟ فقال: نعم، قالت -رضي الله تعالى عنها-: إذًا لا يُضَيِّعَنا، فتركت إبراهيم يمضي في طريقه ورجعت لرضيعها بجوار البيت، ثم إنه لم يقف حتى توارى عنهما عند الثنِيَّة استقبل البيت إبراهيم -عليه السلام-، وتوجَّه إلى ربه بدعواتٍ يجني الناس بركاتها إلى يومنا هذا. ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾إبراهيم:37.
فهو لا زرع فيه، وهذا إشارة إلى: أنه ما فيه أحد؛ لأنه إذا لم تكن زراعة فكيف يعيش الناس في ذلك الزمان الذي مصدر العيش به؛ إما رعي وهذا يحتاج زراعة، أو زراعة وهذا يحتاج إلى ماء، ويحتاج إلى أرض خصبة تُنْبِتُ الزرع، وكلاهما غير موجود في هذه البقعة؟!
﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾إبراهيم:37
فهو مُحَرَّم من قبل أن يبنيه إبراهيم -عليه السلام-، كما جاء في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ اللَّه حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»[صحيح البخاري:4313]
فتحريمها سابق، وإنما أظهر إبراهيم تحريمها ببيان شرفها، ورَفْع البناء ودعوة الناس إلى قصدها، ثم إن إبراهيم -عليه السلام- مضى في طريقه، ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾إبراهيم:37
وما زال الناس على تعاقُب الزمان منذُ ذلك الحين إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها تهوي أفئدتهم إلى هذه البقعة؛ ولهذا في الآيات التي ذكرها في مقدمة فرض الحج قال سبحانه: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾آل عمران:96-97 قال: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾آل عمران: 97
أي: أماكن التعبُّدات التي قام فيها إبراهيم، فليس المقام فقط هو الحَجَر الذي قام عليه للبناء، بل هذا وأيضًا كل الأماكن التي قام فيها إبراهيم لعبادة الله؛ في منى، ومزدلفة، وفي عرفات، وما بين الصفا والمروة، كل هذه من مقامات إبراهيم -عليه السلام-، فزكَّاه الله -عزَّ وجلَّ- بمقامات إبراهيم؛ لأن إبراهيم هو الذي أمره الله تعالى ببناء البيت؛ تجديدًا، ومن بعد تجديده بقي البيت إلى يومنا هذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وقد حجَّ هذا البيت الأنبياء بعد إبراهيم -عليه السلام-، فموسى يقول فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- : «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى هابطا مِنَ الثَّنِيَّةِ لَهُ جُؤَارٌ بِالتَّلْبِيَةِ، يعني: رَفَعَ صوته بالتلبية، متوجها إلى البيت.
وذكر مثل هذا مع يونس بن مَتَّى»[صحيح مسلم:ح166/268] -عليه السلام-.
كل هذا يدل على أن هذه البقعة بقعة مباركة مُعَظَّمة، إبراهيم -عليه السلام- بنى هذا البيت، ورفع قواعده، وطهرَّه كما أمره الله تعالى في قوله: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾الحج:26.
فبنى هذا البيت، وطهرَّه حِسًّا ومعنًى، حِسًّا بإبعاد كل الأقذار والأرجاس والأنجاس عنه، ومعنًى بأن سلَّمه الله من الشرك؛ ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾إبراهيم:35.
فقال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾إبراهيم:35؛ فدعا الله أن يجعل هذا البلد آمنًا، وهذا من مقوِّمات دوام عِمارة هذه البقعة، ثم سأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يجنِّبَه وذريته عبادة الأصنام.
فكان التطهير لهذه البقعة في جانبين:
• التطهير الحسي.
• والتطهير المعنوي.
ودام الأمر إلى أن جرى ما جرى من بُعْدِ عهد الناس بالنبوة، فحصل ما حصل من انحراف وبُعْد عن الطاعة والتوحيد، وظهور الشرك وفُشُوِّه حتى عُبِدَ عند الكعبة غيرُ الله -عزَّ وجلَّ-، وكان هذا أكبر خلل في المسيرة البشرية أن حُوِّل الموضع الأول الذي عُبِدَ الله فيه وحده، وحُقِّقَ فيه التوحيد له -جلَّ في علاه، عُبِدَ غير الله من الأصنام والأوثان، فبعث الله خاتم الرسل وأشرفهم في هذه البقعة المباركة؛ ليعيد تطهير هذه البقعة كما طهرَّها إبراهيم للطائفين والعاكفين والرُّكَّع السجود العُبَّاد الموحدين لله عزَّ وجلَّ، فبذل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جُهده في دعوة قومه، ثم هاجر لما حيل بينه وبين في تبليغ دين ربه، فمكَّنه الله تعالى من أعدائه فجاء في السنة السادسة معتمرًا صلى الله عليه وسلم، مُعَظِّمًا البيتَ، قد ساق الهدي معه، فصدَّه المشركون عن المسجد الحرام، وكان ما كان من الصلح بينه وبينهم في صلح الحديبية الذي سماه الله فتحًا في قوله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾الفتح:1.
وكان من بنود ذلك الصُّلْح: أن يرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه تلك السنة دون عمرة، فأُحصروا وتحلَّلوا بذبح ما معهم من الهدي، ورجعوا إلى المدينة على أن يأتوا في العام القادم في السنة السابعة من الهجرة، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى البقعة التي أمر الله تعالى بالمجيء إليها، جاء معتمرًا في السنة السابعة من الهجرة، ومكث في مكة ثلاثة أيام، طاف، وسعى، وحلق -صلوات الله وسلامه عليه- حتى قضى ما كان من رغبته في المجيء إلى البيت وكذلك أصحابه، كما قال الله تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ﴾الفتح:27، ثم رجع -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة.
في السنة الثامنة وكان الصلح قائمًا بينه وبين المشركين،نَقَضَ المشركون الصلح الذي بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فجهز جيشًا، فجاء -صلى الله عليه وسلم- ومعه عشرةُ آلاف مقاتل؛ لفتح مكة.
فتح الله مكة لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان من السنة الثامنة من الهجرة، لم يأت معتمرًا، بل جاء فاتحًا.
مكث فيها -صلى الله عليه وسلم- ثم خرج في شوال إلى ثقيف، وكان ما كان بينه وبينهم من نِزال في حُنَيْن فأظفره الله تعالى ورجع، وكان -صلى الله عليه وسلم- قد نزل بجعرانة، فاعتمر منها -صلى الله عليه وسلم- في السنة الثامنة في ذي القعدة ليلًا حتى إن كثيرًا من أصحابه لم يعلموا به، طاف وسعى وقصَّر -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ثم لما رجع المدينة أنزل الله تعالى في السنة التاسعة من الهجرة فرض الحج على أهل الإسلام في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾آل عمران:97.
لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحج تلك السنة، والسبب هو اشتغاله -صلى الله عليه وسلم- بالوفود الذين جاءوا إليه من كل جانب من أرجاء الجزيرة مسلمين، مُنْقَادِين لدعوته -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، هذا سبب.
والسبب الثاني: أن مكة كانت خليطًا بين أهل الإسلام وأهل الشرك، فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة السنة التاسعة أبا بكر ومعه جماعة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمرهم أن يُنَادوا بالناس في هذا المجمع ألا يَحُج بعد العام مُشْرِكٌ، ولا يطوف بالبيت عريان، على ما كان عليه أعمال أهل الجاهلية من الطواف بالبيت عرايا.
فنادى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا النداء، وأنزل الله تعالى قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾التوبة:28، العام التاسع.
في السنة العاشرة من هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس بالحج فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهُ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ؛ فَحُجُّوا».[صحيح مسلم:ح1337/412].
وأذَّنَ في الناس أنه سيحج هذه السنة، يقول جابر: "فاجتمع له خلقٌ كثير، كلهم يأتَمُّ به، ويقتدي به، ويعملُ كعمله". -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
ولكثرتهم يصفهم يقول: "فَكان مَدُّ بَصَرِي من بشرٍ رَاكِبٍ وَمَاشٍ بَيْنَ يَدَي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ".[صحيح مسلم:ح1218/147]، وقد قُدِّر في الحج معه في تلك السنة بمائة ألف وزيادة، وهذا جمعٌ لم يعادل البشر فيما يظهر لي - والله أعلم - قبل حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنهم لم يكونوا يبلغون هذا العدد.
تتابع الناس في التأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان يقول لهم: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا».[سنن النسائي الكبرى:ح4002]
«لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ»[صحيح مسلم:ح1297/310].
فرسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أمر الناس بالأخذ عنه؛ لأن أحكام الحج جاءت في القرآن مُجْمَلَةً، كان بيانها في هديه وعمله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، حتى نُقِل تفاصيلُ ما كان من حاله في حجه -صلى الله عليه وسلم-؛ وهذا لشدة عناية أصحابه بنقل عمله صلى الله عليه وسلم، وامتثالًا لما أمر به: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ».
حجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع بعد أن فرغ من حجه في اليوم الرابع عشر من ذي الحجة، ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- مكث حتى توفاه الله في ربيع في العام الذي يليه، ولم يحج بعدها -صلى الله عليه وسلم-.
فارتباط الأمة بقصد هذه البقعة هو ربطٌ لها بمقصود الخلق، وربطٌ لهذه الأمة بالأمم السابقة وأهل الصلاح المتقدمين الذين عبدوا الله -عزَّ وجلَّ- وأقاموا شرعه.
فقصد هذه البقعة بالحج والعمرة ليس لمجرد فقط المجيء إلى مكان لا معنى له، بل إنه مكانٌ له من المزايا والبركات، والخيرات والهدايات ما أهَّلَهُ أن يكون موضعًا لقصد المؤمنين من كل مكان، فهو الذي قال الله تعالى فيه: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾المائدة:97.
قال المفسرون: ﴿قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ أي: تقوم به مصالحهم.[تفسير الطبري11/89]
فقيام مصالح الناس بقصد هذه البقعة، حتى نُقِل عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- أنه قال في تفسير هذه الآية: "لو أن الناس تركوا الحج عامًا لخرَّت السماء على الأرض؛ لأنه به قيام مصالح الناس"[تفسير ابن كثير1/413]، ومصالح الناس هنا ليست فقط المصالح الدينية، بل المصالح الدينية والدنيوية.
فالمهم أن هذا البيت العظيم، هذه البنية المباركة، هذه البقعة الشريفة الطاهرة، لها مَزِيَّة عُظمى، فهي قِبْلَةُ أهل الإسلام، يستقبلونها في اليوم خمس مرات، فلا عجب إذا كانوا يتوجهون إليها في اتصالهم بربهم ومناجاتهم له، لا عجب أن يفرض الله تعالى عليهم أن يأتوا إليها مرةً في أعمارهم، فإن الله تعالى فرض الحج على الناس مرةً في العمر، وذاك لما فيه من المشقة، ولما فيه من الكُلْفَة التي يتحقق المقصود بالمجيء إليها مرةً واحدة، ثم ما زاد بعد ذلك فهو تطوع.
هذا عَرْضٌ مجمَلٌ لما قدمت به مما يتعلق بحكمة هذا المكان، المعنى المقصود بهذا المجيء، وما أشبه ذلك من المعاني التي أسأل الله أن يجعلها مباركة نافعة.
المقدم: اللهم آمين. أيضًا يا شيخ خالد لعله -إن شاء الله- في هذا الحديث ربما نشير إلى بعض الدَّلَالات التي تدل عليها هذه الشعائر التي هي في فريضة الحج العظيمة، وربما هي فرصة لكل مَنْ قصد بيت الله في هذا العام للحج؛ لأداء فريضة الحج، لأنْ يتدبر ويتبصَّر وهو يقوم بأداء هذه المناسك أن يعلم معنى كل منسكٍ يقوم به، سواءً فيما يتعلق برمي الجمار، أو بالطواف حول البيت، أو كذلك أيضًا ذبح الأضاحي، وغيرها من المناسك التي هي في هذه الفرضية -فريضة الحج-، ربما يتعرف على حِكَمِها، وأيضًا مدلولاتها العظيمة التي ربما هي أحيانًا تكون عدة مدلولات في منسكٍ واحد من هذه المناسك التي ربما يؤديها البعض وهو لا يدرك حكمتها، وكذلك أيضًا مشروعيتها، وأيضًا أصلها في ناحية التشريع.
نذكِّر مستمعينا الكرام الذين يستمعون إلينا الآن في هذه الحلقة المباشرة من برنامج "الدين والحياة" بأن موضوعنا اليوم هو: "عن الحج خامس أركان الإسلام في ضوء قوله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا﴾الحج:27".
أرقام التواصل: 0126477117 و0126493028
رقم الواتس أب هو: 0582824040
أيضًا يمكنكم أن تشاركونا بالتغريد على حساب الإذاعة "نداء الإسلام"، أو هاشتاج البرنامج "الدين والحياة".
نفتح باب الاتصالات للمستمعين الكرام، وأول اتصال معنا من عبد العزيز الشريف من الرياض، تفضل يا عبد العزيز.
المتصل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: حياكم الله، يا أستاذ عبد الله، كيف حالك؟
المقدم: حياك الله أخي عبد العزيز.
المتصل: أحييك، وأحيي فضيلة الشيخ، الله يبارك فيكم جميعًا.
المقدم: أهلًا وسهلًا.
المتصل: بارك الله فيك، الآن نحن على أبواب الحج، هناك بعض الشعارات للأسف نسمعها في آراء للأسف بعيدة كل البعد عن منهج الحج، هناك -بارك الله فيك- من يؤذي الحجاج، هناك من يريد أن يروِّع الآمنين في حرم الله -عزَّ وجلَّ-، هناك من يَعُدُّ العُدَّة؛ لكي يفسد في بيت الله الحرام، ما هو توجيه الشيخ لمثل هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفاعيل، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا بِعَدَنِ أَبْيَنَ هَمَّ بشيءٍ في بَيْتِ اللَّهِ إِلَّا عَذَّبَهُ اللَّهُ»[ أخرجه الحاكم في مستدركه مرفوعا من حديث عبد الله بن مسعود:ح3461، وقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي]. أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
الأمر الثاني: بارك الله فيك، هناك كثير من الناس تجده يواصل الحج كل سنة، كل سنة يحج، فلا يجعل مجالًا لأصحابه، أو إخوانه، أو من لم يحج بالذهاب لمكة، فتجده يزاحم، يحج عن فلان وعن علان، فما توجيه الشيخ لمثل هؤلاء؟ وأيضا هناك مَنْ يدفع حجج كبيرة جدًّا جدًّا لأشخاصٍ كثيرين يحجون عن أبيه، عن أمه، عن زوجته، وغير ذلك، وهذا يسبب تزاحمًا كبير في حجاج بيت الله الحرام، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».[صحيح البخاري:ح13]
وجزاكم الله كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله. شكرًا يا عبد العزيز.
السؤال الأول ربما -يا شيخ خالد- هي نقطة مهمة جدًّا لأن تساق ضمن هذا الحديث، لكن ولعلنا نرجئ التعليق عليها إلى ما بعد أن نأخذ جولة سريعة فيما يتعلق بهذه المناسك التي أشرت إليها قبل أن نأخذ اتصال الأخ عبد العزيز، فيما يتعلق بهذه المناسك، وحِكَمِها، ومدلولاتها التي تدل عليها في موسم الحج كله من بداية الحج إلى عودة الحاج إلى بلاده.
الشيخ: هو الدراسة.. المقصود من الحج عمومًا يعني مهم أن يستحضره من يقصد هذه البقعة؛ لأن معاني العبادات تؤثر في إتقان العبد لها، وأيضًا تؤثر في حرصه على الإتيان بها، فالعبادة التي تكون قد حَضَر فيها قلب صاحبها، المقصود منها ليست كالعبادة التي يغيب فيها الإنسان عن المقاصد والغايات من وراء العبادات، الله -عزَّ وجلَّ- لما ذكر الحج قال: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾البقرة:197.
ثم يقول: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾، وبعد ذلك يقول: ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾البقرة:197.
المقصود من هذه العبادة هو: ترويض النفس وتربيتها على أن تمتنع عن كل ما يكون سببًا للشر أو الفساد، وتربيتها على القيام بالخيرات، والاستزادة من الصالحات، والاستكثار من الحسنات؛ ولهذا يقول: ﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾البقرة:197.
هذا كله في منع النفس عن كل ما يَنْقِصُها، ثم يقول: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾البقرة:197.
هذا حثُّها وندبُها إلى التزود من الخيرات؛ تخلية وتحلية، تخلية من كل سوء وشر، وتحلية بكل فضيلة ومنقبة ومرتبة جميلة.
ثم يقول: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾البقرة:197.
فينبغي للمؤمن أن يعرف أن مقصود الحج هو: ذكر الله -عزَّ وجلَّ-، هو عبادته، هو تربية النفس على تعظيم شعائر الله، على تعظيم حرماته، على بذل النفس والمال في تحقيق أمر الله وفعل ما أوجب؛ ولذلك كان الحج نوعًا من الجهاد كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء في الصحيحين من حديث عائشة: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: «لَا، لَكُنَّ»، وفي رواية: «لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ»[صحيح البخاري:1520]
فينبغي أن يُسْتَذْكَر هذا المعنى، وأن المقصود من الحج هو: ما يثمره في قلب العبد من تعظيم الله ومحبته، من إجلاله وتوقيره، من المبادرة إلى امتثال أمره واجتناب نهيه، من الحرص على كل ما تستقيم به الأعمال وتصلح به الأحوال، ويبلغ به الإنسان مرضاة الرحمن -جلَّ في علاه-؛ ولهذا جاء في السنن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ؛ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ».[سنن أبي داود:ح1888، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع:ح2056]
فالمقصود من هذا كله: ذكر الله؛ ولهذا يقول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾البقرة:198.
ثم يقول -جلَّ وعلا-: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾البقرة:200.
ثم يقول -سبحانه وتعالى-: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾البقرة:200-201.
ثم يقول -جلَّ وعلا-: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾البقرة:203.
كل العمل هو ذكرٌ وتعظيمٌ ودعاءٌ وتوسُّلٌ لله -عزَّ وجلَّ-، يجتمع في الحج ذكر الله بالقلب، ذكر الله باللسان، ذكر الله بالجوارح، ذكر الله بما يبذله الإنسان من أموال، يحبس الإنسان نفسه على مرضات ربه -جلَّ في علا-؛ فلذلك كان المقصود من كل هذه العبادات هو: إقامة ذكر الله -عزَّ وجلَّ-؛ ولهذا ينبغي أن يكون الذِكر هو شعار الحاج؛ لهذا قال العلماء، وجاء في الحديث: «التلبية شعار الحج»[سنن أبي داود:ح1418، وسنن ابن ماجه:ح2923، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:ح1135]؛ شعار الحاج: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك له لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، وهي زينته؛ لأنها اللسان الناطق الذي يجتمع عليه كل هؤلاء الخَلْق على اختلاف بُلدانهم، وألوانهم، وألسنتهم، وأحوالهم، كل هؤلاء مجتمعون على هذه الطاعة التي بها تتواطأ قلوبهم وتجتمع عقيدتهم بأوثق رباط ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾الحجرات:10.
ومن هنا نعلم: أن كل دعوة تؤثر على تحقيق هذا الترابط، تحقيق هذا الانسجام، تحقيق هذا الالتئام، هو مما ينبغي نبذه، ومما ينبغي الوقوف بحذر تجاهه، وينبغي أن نتعاون جميعًا حكومات، وأفرادًا على قطع الطريق على كل من يسعى إلى تفريق هذا الجمع، بدعوات سياسية، أو شعارات حزبية، أو تفرقة مذهبية، أو غير ذلك مما يسعى إليه المفسدون الذين غرضهم وغايتهم هو إيقاع الفساد بين الناس وإخراج الحج عن مقصوده الأساس وهو تحقيق تعظيم الله، وتحقيق عبادة الله، واجتماع القلوب على طاعته، يا أخي إذ تجتمع القلوب تجتمع الألسنة بذكرٍ واحد: "لبيك اللهم لبيك"، تجتمع الأشكال بلباسٍ واحد بإزارٍ ورداء، تجتمع الأعمال بالتوافق في أعمال الحج سعيًا وطوافًا ووقوفًا بعرفة ومزدلفة ومنى، فهذا التوافق الذي شمل كل الجوانب لسانًا وصورةً وعملًا ينبغي قطع الطريق على كل من يسعى إلى إيجاد فُرقات بهذه الشعارات السياسية والحزبية، وغيرها التي يدعو إليها من يدعو.
والعجب أن بعض هؤلاء المفسدين الذي يريدون تعكير صفو الحج على أهل الإسلام وإثارة هذه النعرات الخبيثة يزعمون أن الحج أفضل مناسبة لنشر هذه الشعارات؛ وذلك لأنه لا غرض لهم في إقامة العبادة، ولا غرض لهم في إقامة الطاعة، ولا غرض لهم في التحام المؤمنين واجتماع كلمتهم، يوغر صدورَهم كلُّ ما يكون سببًا لأسس أهل الإسلام واجتماعهم، غرضهم التمزيق والتفريق والتشويش وما إلى ذلك تحت دعاوى كاذبة، وزخارف من القول واضحة أنها للتضليل، وترويج ما يؤملونه من كلامٍ، غرضهم فيه هو تحقيق غاياتهم المذهبية، أو غاياتهم السياسية التي هي بعيدة كل البعد عن مقصود هذا الحج.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- حج، واجتمع الناس في كل مكان معه، لم يكن هناك قضية تُطرح على الناس في حجه -صلى الله عليه وسلم- سوى الأمر بعبادة الله وتوحيده وإعطاء الحقوق بإصلاح ما بين الخلق والخالق وإصلاح ما بين الناس وتعظيم الله -عزَّ وجلَّ-، بل قَطْع كل طريق يكون سببًا للفُرْقة والشحناء والأذى، حتى في رمي الجمار يُريهم بماذا يَرمون؛ حتى لا يؤذي بعضهم بعضًا، فكيف بهؤلاء الذين يبثون الفرقة والشر، ويتربصون بأهل الإسلام كل مناسبة؛ لتحقيق مآربهم ونيل مقاصدهم؟!
يا أخي الكريم هؤلاء الذين يزعمون دعاوى كاذبة على هذه البلاد المباركة التي تبذل كل الجهود لتحقيق المقصود وجمع القلوب في عبادة الله -عزَّ وجل- هم أحرص من يكون على تعكير صفو هذا الاجتماع، بتربصهم، وتصيدهم، واختلاقهم للأزمات، وتزويرهم للوقائع، وكذبهم على الناس بتشويه ما تقدِّمه هذه البلاد في خدمة حُجاج بيت الله وزواره، وقاصد مسجد رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
ثم يقولون: تَسْيِيس الحج، وما إلى ذلك من دعاوى كاذبة غرضها تعمِيَة ما تقوم به هذه البلاد من خدمة ترجو فيها ثواب الله، وتقوم فيها بالحق الذي تعتقد أن الله تعالى شرَّفها به من صيانة هذه البقعة المباركة وحفظ حرمتها، وبذل النفس والنفيس في الذبِّ عنها والدفاع عنها.
فأسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يحقق للمسلمين مأمولهم في الاجتماع على طاعة الله وعبادته، وأن يقطع دابر الفساد والشر والفتنة، وأن يذُبَّ عنا وعن المسلمين كل أهل السوء والشر الذين يسعون إلى التفريق والإضرار بأهل الإسلام.
المقدم: اللهم آمين، يعني أيضًا من هذه المناسك: أن الحاج عندما يبدأ حجه ويفتتح هذه الفريضة مُتَّجِهًا إلى بيت الله الحرام فهو أيضًا يلبي حتى يقطع تلبيته برمي جمرة العقبة، الجمرة الكبرى في يوم الحج الأكبر في عيد النحر أو في يوم النحر، وفي عيد الأضحى المبارك، هو يقطع هذه التلبية في ذلك اليوم، وعلى هذا الأمر فإنه يستمر في هذه التلبية التي فيها عبارات واضحة ومدلولات واضحة تؤكد أنَّ الإنسان يجب عليه أن يوحِّد الله -سبحانه وتعالى-، ويتمسك بهذا التوحيد ما حيي هذا الإنسان، وما دام على هذه الأرض موحدًا لله -سبحانه وتعالى-، وهو كما تفضلتم يا شيخ خالد الحج كله توحيدٌ لله -عزَّ وجلَّ-، وكل مناسك الحج هي تعزِّز هذا الجانب المهم من جوانب دين الإنسان المسلم.
شيخ خالد أيضًا كما ذكر الأخ عبد العزيز، هو ذكر نقطة مهمة جدًّا في هذا الجانب، وهي أن بعض الناس أيضًا يَسْعَوْن إلى الإضرار أحيانًا بإخوانهم الحجيج من خلال تكرار الحج، على الرغم من أن هناك أنظمة تنظِّم مسألة الحج، وأن هناك أيضًا تراخيصا وغيرها مما يُتيح للناس أن يؤدوا هذه المناسك بكل يُسرٍ وسهولةٍ وأمان، لكن مع ذلك أيضًا هناك من يتجاسرون على هذه الأنظمة والتعليمات والقوانين، وفي نفس الوقت أيضًا يكررون الحج؛ ظنًّا منهم أنهم بذلك يُثابون، وبحثًا أيضًا عن مسألة متابعة الحج بالحج والعمرة بالعمرة، ولا يدرون ما هو الضرر الذي يمكن ربما أن يلحق من خلال هذا الفعل الذي يقدمون عليه في حجهم.
الشيخ: ما ذكره أخونا في مسألة تكرار الحج، الآن محسوم الأمر بوجود أنظمة تضبط هذا الأمر وتنظمه بحيث يحقق للناس مأمولهم في المتابعة بين الحج وتكراره، وبين أيضًا دفع المضرة الحاصلة باجتماع الناس من غير تنظيمٍ قد يلحقهم به ضرر أو يفوق الطاقة الاستيعابية للمشاعر المقدسة؛ ولهذا أوصي الجميع بأن يلتزم بما تنظمه الدولة -وفقها الله- من ترتيبات وتنظيمات، هذه التنظيمات غرضُها هو التسهيل، غرضها هو التيسير، غرضها هو تحقيق مقاصد الحج على الوجه الذي يُؤْمَّل بأحسن ما يمكن، وبالتالي التزامها سيحقق المصلحة إن شاء الله تعالى.
المقدم: نعم، أحسن الله إليكم.
الشيخ: المطلوب - هو الحقيقة المطلوب - أن يعتني المؤمن بالأنظمة، والتعليمات، والتوجيهات، ومطلوب أيضًا أن يهتم بمعرفة أحكام الحج قبل المجيء؛ حتى يُجَنِّب نفسه الأضرار والخطأ والخلل في عبادته.
فمما أوصي به إخواني في استقبال هذا الموسم المبارك: أن يجتهدوا في معرفة أحكام الحج والعمرة التي يقدمون عليه؛ حتى تكون العبادة التي يُقْبِلون عليها على وجهٍ صالح، ويحقق اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وأيضًا أوصي الإخوان والأخوات أن يبادروا إلى أداء الفريضة ممن لم يحج، فإن الفرصة الآن سانحة، والتسجيل ما زال قائمًا، فمن كان مستطيعًا فإنه ينبغي له أن يُبادر، لكن أن يُحَمِّل الإنسان نفسه شيئًا لم يكلفه الله تعالى بأن يكون غير قاصد، ثم يبحث عن ديون أو قروض أو ما أشبه ذلك؛ لأجل أن يحج، يقال له: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾البقرة:286، ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾الطلاق:7
فاتقوا الله ما استطعتم، فلا تفعل هذا.
المقدم: هذه رسالة أيضًا إلى من يؤجلون الحج وهم قادرون على أداء هذه الفريضة، وهم في تمام الصحة والعافية والإمكانيات المادية وغيرها من الإمكانيات الواجبة توافرها لأداء هذه الفريضة بأن يعجلوا أداء هذه الفريضة، ولا يؤجلوا أداء هذه الفريضة بأسبابٍ واهية ووهمية، كأن يقول البعض: سوف أحج بعد أن أتزوج مثلًا، أو بعد أن أرزق بأبناء، وهكذا من الأسباب أو من المبررات التي تجعل الإنسان يؤخِّر حجه حتى ربما يبلغ به الحال إلى أنه ربما يعجز في المستقبل عن أداء هذه الفريضة، وقد تركها وهو في تمام الصحة والإمكان.
الشيخ خالد، أستأذنك في اتصال أيضًا من المستمع الكريم محمد الأحمري. تفضل يا محمد. محمد.
المتصل: السلام عليكم.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حياك الله.
المتصل: الله يحفظك ويبارك فيك، حبيبنا جزاك الله خيرًا، في هذه الأيام مع أننا نثق ثقة تامة بجهود الدولة، وهذا من فضل الله -جلَّ وعلا- بجهود الدولة، في أمن الحج بإذن الله تعالى، ولكن من المرارة أن تجد من هو أقرب الناس إليك يتنَكَّر مما تفعله هذه الدولة في هذه الأيام، وهو يتخذ موقف مَن إذا خاصم فجر، الفرقة الضالة معروف موقفهم وتسييسهم من الحج، لكن يكون ذوو القربى هم من يسيئون وهم يعلمون وهم أكثر الناس علمًا بما تقوم به هذه البلاد المباركة في الجهود في تغطية الحج، في أمن الحج، ثم ينعقون بهذه الأيام، فأنا أقول للشيخ -جزاه الله خيرًا-: ما هي وصيتك لهم؟
تقوى الله -جلَّ وعلا-، من تقوى الله -عزَّ وجلَّ- أن يقول للناس الحسنى، ولا يكون فاجرًا في الخصومة، ولا تؤدي خصومته إلى دينه وإلى معتقداته ويخرج من إطار الأخوة إلى ما نسمعه هذه الأيام مما يدمي القلب حقيقةً، أسأل الله أن يحفظ البلاد والعباد، وجزاك الله خيرًا.
المقدم: وإياك شكرًا يا محمد، شيخ خالد، هل من تعليق على مداخلة الأخ محمد؟
الشيخ: وما يبثونه من الدعاية الكاذبة، يُكَذِّبُها هذا الواقع المنقول بالصورة على مدار الساعة من المشاعر المباركة من المسجدين المسجد الحرام والمسجد النبوي، وما يشهده المسلمون بمئات الألوف، بل بالملايين الذي يأتون إلى هذه البقعة المباركة، ويرون ما يرونه من تسهيلات، ويرون ما يرونه من رغد العيش، توفر كل أسباب الراحة، الحرص الشديد على أمنهم، وعلى أن يُتِمُّوا نسكهم على أكمل وجه، يعني كل هذه الدعايات الكاذبة تؤذي السماع، لكن الله -عزَّ وجلَّ- قال في حق أعظم المؤذين من أهل الكفر والشرك:
﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾آل عمران:111.
هذا الكلام سيتبدد، وسيتبين كذب أصحابه وحقدهم بالواقع الذي تمارسه الدولة وفقها الله؛ تعاني كثيرًا من الأعداء المتربصين منذ سنوات، ولكنها تلزم منهج الفعل خير برهان على تكذيب هذه الدعاوى، فكانت تبذل كل جهدها، وتسدد كل ما يمكنها تسديدُه وتصوبيه وإصلاحه وتقوميه؛ للبلوغ بالحج إلى أفضل ما يمكن من الإمكانات التي تُيَسِّر هذا النُّسُك للناس؛ ولهذا أنا أقول: هذه الدعاية الكاذبة من القريب ومن البعيد نقول لهم: اتقوا الله، اتقوا الله، ونذكِّرهم بالله، وأيضًا نذكِّر أنفسنا نحن والمسلمين بأن يكونوا آذانًا فارزة، وآذانا متلقِّيَة قابلة لكل ما يقال، ولا تنقل كل ما يقال، «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ».[أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه:1/10]
اليوم الشمس لا يمكن أن تُغطَّى بغربال، فوسائل النقل والبث المتنوِّع التي على وجهٍ خاص أو على وجهٍ عام تبث على مدار الساعة وتوثِّق كل حدث.
ولله الحمد على مر السنوات والماضية لا نشهد إلا نجاحات متتابعة، ولا نشهد إلا بذل بكل ما أوتيَت الدولة من طاقة، رغم كل التحديات، رغم كل الانشغالات التي تشغل الدولة في حربها في الجنوب، وحربها ضد الإرهاب، وحربها ضد المتربصين، إلا أن هذا البلد يعيش -ولله الحمد- في أمن وأمان كأن شيئًا لا يحيط بها من المخاوف؛ فنحمد الله على ذلك، وأسأل الله أن يديم علينا هذه النعمة، وأن يوفق ولاة أمرنا إلى ما يحب ويرضى، وأن يدفع عنا كيد الكائدين وحقدهم، وأن يجعل حجاج بيت الله في أمنٍ وأمان، وأن يُتِمَّ لهم نُسُكَهُم على أحسن حال.
المقدم: شكر الله لكم فضيلة الشيخ، بارك الله فيكم.
الشيخ: جزاكم الله، وبارك فيكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
شكرًا لكم فضيلة الشيخ، وشكرًا للمستمعين والمستمعات.
إذًا مستمعينا الكرام كان معنا في هذه الحلقة ضيفنا الدائم فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور "خالد بن عبد المصلح" أستاذ الفقه بكلية الشريعة في جامعة القصيم، المشرف العام على فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء في منطقة القصيم.
فشكر الله له، وشكر الله لكم مستمعينا الكرام على حسن الاستماع والإنصات لنا في هذه الحلقة.
لقاؤنا يتجدد بكم -بإذنه تعالى- في تمام الثانية ظهرًا من يوم الأحد المقبل حتى ذلكم الحين تقبلوا تحياتي أنا "عبد الله الداني"، وزميلي من التنفيذ على الهواء "مصطفى الصحفي". والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.