الأصل الثاني: أمر الله بالاجتماع في الدين ونهى عن التفرق فيه. فبين الله هذا بياناً شافياً تفهمه العوام. ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا فهلكوا. وذكر أنه أمر المسلمين بالاجتماع في الدين ونهاهم عن التفرق فيه، ويزيده وضوحاً ما وردت به السنة من العجب العجاب في ذلك، ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه من العلم والفقه في الدين، وصار الأمر بالاجتماع في الدين لا يقوله إلا زنديق أو مجنون.
يقول الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: ( الأصل الثاني ) أي: من الأصول التي دل عليها القرآن، وجاءت بها السنة على وجه الاستفاضة، قال: ( أمر الله بالاجتماع في الدين ونهى عن التفرق فيه) أمر الله سبحانه وتعالى بالاجتماع في الدين والاجتماع في الدين لا يمكن أن يتحقق إلاّ بالاعتصام بالكتاب الحكيم، والأخذ بسنة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، والسير على صراط الصحابة والتابعين من خير القرون، هذه الأمور الثلاثة، بها يحصل الاجتماع في الدين، ومن غيرها لا يمكن أن يحصل الاجتماع، بل غيرها هو الفرقة التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها، وحذر منها رسوله صلى الله عليه وسلم، أمر الله عز وجل بالاجتماع في الدين في آياتٍ كثيرة. كما أنه نهى عن الفرقة في آياتٍ كثيرة، فمن الاجتماع في الدين قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } الشورى : 13 . هذا هو الذي شرعه الله عز وجل لهذه الأمة، كما أنه أمر به من تقدم من الرسل، وأمره للرسل أمر للأمم، فإن الله عز وجل أمر الرسل وأمر أممهم بإقامة الدين، { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وإقامة الدين لا تتحقق إلاّ بالأخذ بالكتاب الحكيم وسنة سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم، فالواجب على الأمة إذا أرادت الاجتماع أن تنبذ ماعدا هذين الوحيين، كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه السلف، لأن ما أجمع عليه سلف الأمة لابد أن يكون له دليل من الكتاب أو السنة، وقد قال الله جل وعلا في بيان ذلك: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } آل عمران : 103 . وحبله: هو شرعه الذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فالأمر بالاجتماع ليس مجرد الاتفاق على أي وجهٍ كان، كما يدعو إليه بعض الذين قل نصيبهم من العلم، فيقول: الواجب على الأمة أن تجتمع مذاهبها على اختلافها، وعلى تناحرها، هذا هو الواجب على الأمة في نظره، نحن نقول: هذا هو الواجب، لكن مع أمرك بالاجتماع لا بد أن تبين طريق الاجتماع، وهو ما بينه الله في كتابه، أما أن تطلق الدعوة إلى الاجتماع دون بيان الطريق الموصل للاجتماع، فهذا لا يحقق المقصود، لأن الله لما أمر بالاجتماع لم يأمر به مطلقاً، بل أمر به أمراً واضحاً، مقيداً له بالاعتصام بحبل الله تعالى على ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه وتعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } وقال جلّ وعلا: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الشورى : 13 . وإقامته لا تكون إلا بالأخذ من مصادره الأصيلة الكتاب والسنة، فأمر الله بالاجتماع والنهي عن التفرق، هذا مما دل عليه الكتاب والسنة دلالةً واضحة، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: ( فبين الله هذا بياناً شافياً تفهمه العوام ) يعني: لا يختلط، ولا يحتاج إلى عميق نظر وكبير تأمل، حتى يتوصل الإنسان لهذه النتيجة، بل هي واضحة بينة، لكل من أحسن قراءة الكتاب، أو سمع القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى أمر بذلك أمراً واحداً، وأما النهي عن الفرقة فإنه كثير، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } آل عمران : 105 .
ثم قال رحمه الله: ( ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا فهلكوا) نهانا كما سمعتم في الآية: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } وقوله: جلّ وعلا: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } الأنعام : 159 . والآيات التي تحذر من التفرق في الدين كثيرة جداً، واعلم أن التفرق في الدين له أسبابٌ كثيرة، لكن الذي يجمع هذه الأسباب على اختلافها وتنوعها هو الإعراض عن الكتاب والسنة، وهدي السلف الصالح، فبقدر ما يحصل عند الناس من الإعراض عن هذه الأمور، يحصل بينهم بقدر إعراضهم من الفرقة والاختلاف، لأن الناس إذا أعرضوا عن الكتاب والسنة إلى ماذا يرجعون؟ إلى أهوائهم، إلى آرائهم، إلى أذواقهم، إلى ما يشتهون، إلى ما يحبون، وهل هذا مما يتفق فيه الناس؟ الجواب: أن هذا مما يختلف فيه الناس اختلافاً عظيماً، اختلاف الناس في آرائهم وأقوالهم وعقولهم وما يحبون أشد وأعظم من اختلافهم في ألوانهم، وأجناسهم، وألسنتهم، الآن لو أردنا أن نحصي ما يتكلم به الناس من لسانٍ، يعني: لو أردنا أن نحصي اللغات، هل نستطيع إحصاءها؟ الجواب: أننا لا نستطيع، لأنها كثيرة جداً متنوعة، حتى اللغة الواحدة يتفرع عنها لغات عديدة، فاختلاف الناس في آرائهم وعقولهم أشد من اختلافهم في لغاتهم، وأشد من اختلافهم في ألسنتهم، وأشد من اختلافهم في ألوانهم، ولذلك فالمرجع الذي يجتمع عليه الناس ولا يختلفون فيه ولا يختلفون عليه: هو الكتاب والسنة، وعلى ذلك فمن دعا إليهما فهو الداعي إلى الاجتماع، ومن دعا إلى غيرهما فهو الداعي إلى الفرقة، إذا عرفنا الجامع لأسباب الفرقة، والجامع لأسباب الاجتماع، فأعظم أسباب الفرقة البغي، والبغي: هو مجاوزة الحد، ويقابله العلم، فإن العلم من أعظم أسباب الاجتماع، لأنه كلما كثر علم الإنسان ورسخ كان داعياً إلى الاجتماع، ونبذ الفرقة، ومن البغي الذي يسبب الفرقة والاختلاف: الحسد والكبر، والحسد: هو كراهية ما أنعم الله به على الغير، ولو لم يتمنَّ زواله، كل من كره ما أنعم الله به على غيره في دينٍ أو دنيا فهو حاسد، سواء تمنى أن تزول النعمة أو لم يتمنَّ ذلك، انتبه إلى هذا ! لأن بعض الناس يظن أن الحسد: هو تمني زوال النعمة عن الغير، وهذا تعريف قاصر للحسد، بل الحسد: هو أن يكره الإنسان ما منَّ الله به على غيره من النعم الدينية، أو النعم الدنيوية، والكبر أيضاً هو سبب من أسباب الفرقة والاختلاف، لأن الكبر يحمل الإنسان على رد الحق، لأنه يأنف ويستعلي أن يأخذ الحق من غيره، يقول: أنا آخذ الحق من هذا، ما الذي تميز به علي؟ أنا أحسن منه في كذا، إما في مالٍ أو في جاه، أو في منصب، أو في نسب، أو في لون، ويرد الحق بسبب كبره، فتقع الفرقة.
قال: ( وذكر أنه أمر المسلمين بالاجتماع في دينهم، ونهاهم عن التفرّق فيه ويزيده وضوحاً) أي: هذا الأصل، (ما وردت به السنة من العجب العجاب في ذلك، ) والعجب العجاب: أن الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة )) أخرجه الترمذي في الإيمان برقم 2564 وأخرجه أحمد في باقي مسند المكثرين برقم 12022. ولذلك يجب على المؤمن أن يحرص على أن يكون من هذه الواحدة التي بشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنجاة، وما هي صفتها؟ صفتها جاءت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قال في رواية الترمذي لما سئل عن الفرقة الناجية قال: (( هم من كان على ما أنا عليه وأصحابي )) أخرجه الترمذي في الإيمان برقم 2565 وفي رواية أخرى قال: (( هي الجماعة )) أخرجه ابن ماجه في الفتن برقم 3981 والجماعة: هم المجتمعون على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله تعالى: (ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين، وفروعه من العلم والفقه في الدين)، أصول الدين: أي مسائل الاعتقاد، وفروعه: أي مسائل الفقه، وهذا لا إشكال فيه، فقد أصبح الأمر على خلاف ما أمر الله به، فأصبح الناس يدعون إلى فرقٍ وإلى مذاهب شتى، ويعدون أن الدعوة إلى هذه الفرق وإلى هذه المذاهب وإلى هذه الأحزاب هي الموصلة إلى ما دعت إليه الرسل، والرسل لم تدعُ إلى مذهب معين، إنما دعت لعبادة رب العالمين، ودعت إلى صراط الله المستقيم، إلى كلمة سواء، وهي أن يخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، وأن يطيعوا الله عز وجل فيما أمر، وأن يتركوا ما عنه نهى وزجر.
ثم قال رحمه الله تعالى: (وصار الأمر بالاجتماع في الدين لا يقوله إلا زنديق أو مجنون) أي: صار من يأمر الناس بالإقبال على الكتاب والسنة، ونبذ الأقوال المخالفة مهما كانت مصادرها، سواءٌ كانت في الاعتقاد، أو في الفقه، إذا دعاهم إلى الأخذ بالكتاب والسنة والإعراض عما خالف ذلك وصفوه بالزندقة، أو بالجنون، والزندقة والزنديق في كلام السلف: هو المنافق، فقوله: ( إلاَّ زنديق ) أي: إلاَّ منافق، (أو مجنون)، أي: فاقد العقل، والزنديق: هو فاسد الدين، والمجنون: هو فاقد العقل، فيصفونه بأحد هذين الوصفين، وهو نظير ما وصف به الجاهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر كما قال الله جل وعلا: { أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } الذاريات : 53 . أي: إن هذه المقولة سببها الطغيان والخروج عن الصراط المستقيم.
إذاً: الواجب على كل مؤمنٍ أن يسعى إلى الاجتماع، وأن يأمر به، وأن يحث عليه، لكن ما هو الاجتماع الذي دعت النصوص إلى الأخذ به؟ هو الوارد في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} آل عمران : 103 . والحبل: هو الشرع، والحبل في هذه الآية هو شرع الله المتين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستقى من الكتاب، والسنة، والإجماع.