الأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبداً حبشيّاً. فبين الله له هذا بياناً شائعاً كافياً بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم فكيف العمل به؟
هذا الأصل الثالث هو تابع للذي قبله.
ولذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: ( أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبداً حبشيّاً)، يعني: الذي أمر الله به، السمع والطاعة لمن تأمر علينا، أي: لمن ولي أمرنا، والسمع: هو القبول، والطاعة: هي الانقياد والامتثال، وهما مقرونان في كثيرٍ من المواضع، قال الله جل وعلا في كتابه في آخر سورة البقرة: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } البقرة : 285 . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( لا تقولوا سمعنا وعصينا، قولوا: سمعنا وأطعنا)) أخرجه مسلم في الإيمان، برقم : 179، وبرقم : 180، وأخرجه الترمذي، في تفسير القرآن، برقم : 2918، وأحمد، في مسند بني هاشم، برقم : 1966، ورقم : 2911 . فالسماع المراد به: القبول، والطاعة المراد بها: الامتثال والعمل، فالواجب على الأمة لتحقيق الاجتماع أن تسمع، وأن تطيع لمن ولي أمرها. ولذلك قال رحمه الله تعالى: ( لمن تأمر علينا، ولو كان عبداً حبشيّاً) وهذا هو الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ووعظهم به، وأمر به الأمة أن تسمع، وأن تطيع، ولو تأمر عليهم من يحتقرونه، ولذلك قال: ( ولو كان عبداً حبشياً ) لاسيما في ذلك الوقت الذي يكون مثل هذا في غاية الدنو عند أهل ذلك العصر، لأن العبد الحبشي في ذلك الوقت كان الغالب أنه يستعبد، وأن يؤمر، لا أن يترأس ويأمر، فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا دل على أنه يجب عليهم أن يمتثلوا أمر من ولاه الله أمرهم، وأن يكون حالهم مع أمرائهم وهم من ولاّهم الله عليهم أن يكونوا بين سمعٍ وطاعة، يسمعون ويطيعون،.
وقوله: ( ولو كان عبداً حبشياً ) هذا من حيث اللون والجنس، أي: الأصل أما من حيث الحال، يعني: من حيث حال من تولى، فهل يلزم أن يكون على طاعةٍ وبر؟ الجواب: لا يلزم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: سواء فيما يتعلق به، أو فيما يتعلق بغيره: (( من رأى من أميره ما يكره فليصبر عليه )) أخرجه البخاري في الفتن برقم 6531 وأخرجه مسلم في الإمارة برقم 3439. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر عليه سواء رأى من الأمير ما يكرهه وهو يتعلق به أو بغيره، ثم بعد هذا الأمر جاء بالوعيد فقال: (( من فارق الجماعة مات ميتة الجاهلية )) أخرجه بهذا اللّفظ الإمام أحمد في مسند المكيين، برقم : 15127، ورقم : 15137 . أي: مات على غير الطريقة السلفية، على غير الطريقة النبوية، هذا مما يتعلق بحال الأمير من حيث الاستقامة، ولذلك كان من عقيدة أهل السنة والجماعة السمع والطاعة، والجهاد، والصلاة، والحج خلف الأمراء، أبراراً كانوا أو فجاراً، وبهذا تستقيم أحوال الناس، ولا استقامة لأحوال الناس إلاَّ بهذا، فإنه إذا كره الإنسان من أميره فالواجب عليه أن يصبر، ولذلك لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ستكون بعده أثرة أخبر بذلك أصحابه، ثم سألوه: فما الواجب؟ قال: (( أدوا الحق الذي عليكم، واسألوا الله الذي لكم )) أخرجه في مسند المكثرين، برقم : 3485 . وهذا معناه أن يصبروا.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى في بيان هذا الأصل: (فبين الله له هذا بياناً شائعاً كافياً بوجوهٍ من أنواع البيان شرعاً وقدراً)، فمن الشرع قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } النساء : 59 . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( على المرء المسلم السمع والطاعة في ما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)). أخرجه مسلم في الإمارة برقم 3423. والأحاديث والأدلة في هذا كثيرة، وأما قوله: وقدراً، أي: بين الله هذا قدراً، فما من فئة خالفت هذا الأمر إلا ودب فيها الخلاف، ووقعت في الفرقة والنزاع، والقتال، وأكبر شاهد على هذا: ما وقع في خلافة عثمان رضي الله عنه، فإنه لما خرجوا عليه وقع السيف في الأمة، ووقع القتال والخلاف المعروف المشهور، وهذا هو حال كل من سعى في مخالفة ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتماع على من ولاه الله أمر الأمة.
ثم قال رحمه الله تعالى: ( ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم، فكيف العمل به ) وهذا واقع، ولذلك تجد أن كثيراً ممن يخالف أهل السنة والجماعة لا يذكرون هذا الأصل، فليس من أصولهم: السمع والطاعة لولاة الأمر، بل من أصولهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يعني الخروج على الأئمة ومنابذتهم، ومقاتلتهم، وهذا مشهور عند الخوارج، والمعتزلة، وغيرهم من الفرق الضالة.