قال المؤلف رحمه الله :"
الأصل الخامس: بيان الله سبحانه لأولياء الله وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله والمنافقين والفجار. ويكفي في هذا آية في سورة آل عمران وهي قوله: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } آل عمران : 31. ، وآية في سورة المائدة وهي قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } المائدة : 54. وآية في سورة يونس وهي قوله: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} يونس : 62.، ثم صار الأمر عند أكثر من يدعي العلم وأنه من هُداة الخلق وحفاظ الشرع إلى أن أولياء الله لا بد فيهم من ترك اتباع الرسل ومن تبعهم فليس منهم ولابد من ترك الجهاد فمن جاهد فليس منهم ولابد من ترك الإيمان والتقوى فمن تعهد بالإيمان والتقوى فليس منهم. . يا ربنا نسألك العفو والعافية إنك سميع الدعاء.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد. .
فهذا هو الأصل الخامس من هذه الأصول الستة المفيدة العظيمة، قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى في هذا الأصل: ( بيان الله سبحانه لأولياء الله، وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله والمنافقين والفجار ).
هذا كالعنوان لهذا الأصل، فإن الشيخ رحمه الله يريد أن يقرر في هذا الأصل أن القرآن الكريم قد بين بياناً واضحاً لا لبس فيه ولا اشتباه، ولا شك في الفرق بين أولياء الله وبين أولياء الشيطان، فإن أولياء الله أولياء الرحمن، لهم أوصاف ميَّزهم الله سبحانه وتعالى بها في كتابه، وذكر ذلك لئلا يشتبه حال أولياء الله بأولياء الشيطان، لأن من أولياء الشيطان من يلبِّس على الناس، فيظهر ولايته للرحمن، وأنه من عباد الله الصالحين، ومن الأتقياء الأنقياء، والأمر على خلاف ذلك، فلما كان مدّعو الولاية كُثُراً بين الله سبحانه وتعالى الفصل بين هؤلاء وبين غيرهم، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رسالةً لطيفةً سمّاها (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) ذكر فيها ما وصف الله سبحانه وتعالى به أولياءه، وما ميزهم به عن أولياء الشيطان، وذكر فيها أشياء كثيرةً مفيدة، لعل الله ييسر قراءتها.
قال رحمه الله تعالى: ( بيان الله سبحانه لأولياء الله ) أولياء: جمع ولي، والولي مأخوذ من الولاية، والولاية مصدر من ولي، وهي بمعنى القرب، تقول: ولي كذا وكذا أي: قرب منه، وعلى هذا فإن الولاية تدور على أمرين: على المحبة، والنصرة، وقد أثبت الله جل وعلا في كتابه ولايته لبعض خلقه، فقال سبحانه وتعالى: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} البقرة : 257 . فأثبت سبحانه ولايته للمؤمنين، كما أن الله سبحانه وتعالى نفى أن يكون له وليٌّ، لكن الولي المنفي غير الولي المثبت، فالولي المنفي مقيد، حيث قال سبحانه وتعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ } الإسراء : 111 . أي: لم يكن له وليٌّ يستنصر ويعتز ويتقوى به، فولاية الله عز وجل لمن يتولاهم ليست عن حاجة، ولا عن افتقار، بل هو الغني الحميد جل وعلا، وإنما ولايته سبحانه وتعالى لمن يتولاه هي ولاية رحمة، ومنة، وفضيلة، ومنحة منه جل وعلا، وإكرامٍ لمن يتولاه، نسأل الله أن نكون منهم. إذاً عرفنا أن الولاية المثبتة لله عز وجل غير الولاية المنفية، وأن الولاية تدور على معنيين على اختلاف مواردها، المحبة، والنصرة، ويقابل الولاية العداوة، وهي دائرة على البغضاء والكره، هذا معنى العداوة، فأعداء الله هم من أبْغَضَهم سبحانه وتعالى، وأبعدهم، وكرههم جل وعلا، فالعداوة مبنية على الإبعاد، والكره، والبغض، والولاية مبنية على المحبة، والنصرة، والله سبحانه وتعالى قد بين أوصاف أوليائه، وقد لخص الشيخ رحمه الله هذه الأوصاف المذكورة في كتابة، في هذا المقطع القصير من كلامه رحمه الله، لكن من المهم: أن نفرق بين أولياء الله وغيرهم، حتى لا يشتبه الأمر، فأولياء الله عز وجل لا يتميزون عن غيرهم بمظهر، هم كغيرهم من أهل الإسلام، لا يتميزون عنهم بلباس، ولا بهيئة، لكنهم يتميزون عن غيرهم بعملهم الصالح، فالمظاهر لا تمييز فيها، لكن المخابر والأعمال هي التي يدور عليها التمييز بين أولياء الله وأولياء الشيطان، وبين غيرهم من الناس، فما هو العمل الذي يميز أولياء الله عن غيرهم؟
قال رحمه الله تعال في بيان ذلك: ( ويكفي في هذا ) أي: في بيان الفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان، ( آية في سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } آل عمران : 31 . فقوله تعالى: { فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} هذا هو المعيار الفارق، والميزان الدقيق، لبيان حقيقة الولاية، فالولاية التي يثبت بها للمؤمن الانتساب إلى الله بالولاية هي: أن يكون متبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم:{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} فعلى قدر ما يكون مع الإنسان من اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكون عنده بقدر ذلك من ولاية الله له، وبقدر ما يحصل منه من التقصير فإنه ينقص عنه من ولاية الله له بقدر ما حصل منه من التقصير، والناس في هذا درجات متفاوتة، لا يحدها وصف، إذاً السمة الأولى لأولياء الله التي يتميزون بها عن غيرهم: هي اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم يكون في أمرين: فيما فرض، وهذا أول ما يكون، وفيما ندب إليه من الأعمال، وهذه بالدرجة الثانية، ولذلك كان في حديث الولاية قول النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )) أخرجه البخاري في الرقائق، برقم : 6021 ثم قال بعد أن ذكر جزاء الأولياء، وانتصار الله لهم قال: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل )) وهذا طريق تحصيل الولاية، (( وما تقرب إلي عبدي بأحبَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )) فذكر الطريقين اللذين يحصل بهما ولاية الله عز وجل، وهذا تفصيل لا إجمال، تفصيل لما أجملته هذه الآية في قوله تعالى: { فَاتَّبِعُونِي } فالاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم يكون في الفرائض أولاً، لأنها أحب ما يتقرب به إلى الله عز وجل، ثم بالنوافل ثانياً، وهذا في الدرجة الثانية { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه } وإذا أحب الله عبداً فقد تولاه.
ثم قال رحمه الله تعالى: ( وآية في سورة المائدة، وهي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } المائدة : 54 . وهذا فيه الإشارة إلى معنى الولاية، وأنها دائرة على المحبة في قوله تعالى: { يُحْبِبْكُمُ اللَّه } آل عمران : 31 . وهنا قال: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ثم ذكر أوصافهم فقال: { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } فذكر ثلاثة أوصاف، الوصف الأول: أذلةٍ على المؤمنين، فلا علو عندهم، ولا استكبار، ولا ارتفاع، الوصف الثاني: أعزةٍ على الكافرين، لا يذلون لهم، لأنَّ معهم سبب العزة، وهو الإيمان بالله ورسوله، الوصف الثالث: الجهاد في سبيل الله، وهو شامل لجهاد النفس، ولجميع أنواع الجهاد، وأعلاها جهاد الكفار المعاندين لله ورسله، هذا من أوصافهم، والجهاد لا يأخذ صورةً واحدة فقط، فلا يقتصر على الجهاد بالسيف والسنان، بل هناك جهاد آخر، قد يكون أعظم منه، وهو جهاد العلم والبيان، فالذي يبلغ شريعة الله عز وجل وينصح الناس، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر هو من المجاهدين الذين يدخلون في قوله في هذه الآية في آية المائدة: { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } فهذا يشمل جميع أنواع الجهاد. إذاً الآن زاد عندنا وصف، أو هذا تفصيل؟ بل هذا تفصيل لأن قوله: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} هذا فيه بيان مجمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل شأن، وهنا فيه ذكر صفات خاصة، وتخصيصها لعظيم أثرها في تحقيق وتحصيل الولاية.
ثم قال: وآية في سورة يونس وهي قوله: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } يونس : 62 . هذا فيه البشارة لهم بانتفاء المخاوف والأحزان عنهم، {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} هذا فيما يستقبلون { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} هذا فيما مضى، والإنسان إنما يلحقه الأذى من خوف المستقبل، أو فوات الخير في الماضي، فإذا حصل له الأمن من هذين الأمرين: لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، فهو في غاية الطمأنينة والسعادة، ثم بين سبحانه وتعالى من هم أولياء الله فقال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} يونس : 63 . الذين آمنوا بقلوبهم، فصلحت قلوبهم واستقامت أفئدتهم، وكانوا يتقون في أعمالهم وجوارحهم.
والتقوى هنا هي فعل ما أمر الله سبحانه وتعالى به، وترك ما نهى عنه، وهذا وصف شامل، يتميز به أولياء الله عن غيرهم، وبه نعلم مما تقدم أن الولاية ليست مكتسبةً بالنسب، ولا مكتسبةً بالجاه، ولا مكتسبةً بالوراثة، ولا مكتسبة بملبسٍ معينٍ، أو بانتسابٍ إلى جهة معينةٍ كمذهبٍ أو غيره، إنما تكتسب بالعمل الذي دائرته الكبرى: هي اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وتفصيله، لقوله سبحانه وتعالى: { الذين آمنوا وكانوا يتقون} .
قال رحمه الله: ( ثم صار الأمر عند أكثر من يدّعي العلم وأنه من هداة الخلق وحفاظ الشريعة، إلى أن الأولياء لابد فيهم من ترك اتباع الرسل ) وهذا في وقته رحمه الله، حيث هجرت السنة، وتعصب الناس لما كانوا عليه من مذاهبَ وأقوالٍ، وآراء، وأصبح المتَّبِعُ للنبي صلى الله عليه وسلم غريباً بينهم.
ثم قال: ( ومن تبعهم فليس منهم ) أي: ومن تبع هؤلاء الذين استقاموا على الكتاب والسنة، فليس منهم، يعني: فليس من أولياء الله، لأنه إذا كان الداعي إلى الكتاب والسنة عند هؤلاء الذين تحدث الشيخ عنهم ليس من أولياء الله، فما هي حال غيرهم ممن هو تابع لهم؟ الجواب: أنه لا يكون من أولياء الله من باب أولى.
ثم قال رحمه الله تعالى: ( ولا بد من ترك الجهاد ) هذا انتقال إلى تفصيل ما عليه أولئك الذين وصفهم رحمه الله، ممن يدعي منهم ولاية الرحمن وهم على خلاف ذلك قال: (لابد من ترك الجهاد) وذكر الجهاد رحمه الله تعالى لأن الله سبحانه وتعالى جعل المجاهدين أولياءه، في قوله جل وعلا: { يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله} المائدة : 54 . فخالفوا النص القرآني الدال على أن الجهاد في سبيل الله من أسباب تحصيل الولاية، وكونه من أوصاف أولياء الرحمن، ولا بد من ترك الجهاد، فمن جاهد فليس منهم، والقرآن ماذا يدل عليه؟ القرآن يدل على عكس هذا، وهو أن الجهاد من أوصاف أولياء الله سبحانه وتعالى.
ثم قال رحمه الله تعالى: ( ولا بد من ترك الإيمان أيضاً ) هذا لكون الإيمان قد جاء في القرآن: أنه من أوصاف أولياء الله كما في قوله جل وعلا: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون } .
ثم قال: ( فمن تعهد بالإيمان والتقوى فليس منهم ) أي: من اتصف وحافظ على هذين الوصفين فليس من أولياء الله هؤلاء الأولياء المزعومين، وهؤلاء هم في الحقيقة أولياء الشيطان، لا أولياء الرحمن، لأن أولياء الرحمن هم من وصفهم الله في كتابه، وأما هؤلاء فهم معاندون، معارضون، وكل من ادعى الولاية فلا بد من عرضه على الكتاب والسنة، فإن كان من ادعى الولاية أو أدُّعيت له الولاية، فقد لا يدعي الولاية لنفسه، بحيث لا يقول: إني ولي، لكن قد يزعم اتباعه أنه ولي، فلابد حينئذٍ أن نعرض حال هذا الرجل على هذه الموازين الدقيقة، والمعايير الناطقة المميزة لأولياء الرحمن عن غيرهم، هل هو من المتبعين للكتاب والسنة؟ هل هو من المجاهدين في سبيل الله جهاد السيف والسنان، أو جهاد العلم والبيان؟ وهل هو من الذين آمنوا وكانوا يتقون؟ إذا كان كذلك فهو من أولياء الله، وأما إذا تخلفت فيه هذه الأوصاف فإنه يتخلف فيه من وصف الولاية، بقدر ما تخلف فيه من صفات الولاية، ولذلك كان من كلام السلف: إذا رأيت الرجل يطير في السماء، أو يمشي على الماء، فلا تقل إنه ولي، حتى تعرضه على الكتاب والسنة.
ثم قال رحمه الله تعالى: ( يا ربنا نسألك العفو والعافية، إنك سميع الدعاء ) نعم نسأل الله العفو والعافية، لهذا القلب لما دل عليه الكتاب والسنة، والمعارضة والمعاندة، لما دل عليه كلام الله سبحانه وتعالى".