حقوقُ عُلماءِ الشريعةِ
الخطبة الأولى :
أما بعد.
أيها المؤمنون:
اتقوا اللهَ ربَّكم واستمسكوا بحبلِه المتينِ، وكتابِه المبينِ، فإن الله يرفعُ بهذا الكتابِ أقواماً ويضعُ به آخرين، ألا وإن ممن رفعَهم الله بهذا الكتابِ العظيمِ أهلَ العلمِ العاملين، الذين هم أركانُ الشريعةِ وأمناءُ اللهِ في خلقِه، وخلفاءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أُمَّتِه، فالعلماءُ ورثةُ الأنبياءِ، بهم تحفظُ الملةُ وتقوم الشريعةُ، ينفون عن دينِ اللهِ تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الضَّالين، فللهِ دَرُّهم وعليه أجرُهم، ما أحسن أثرَهم وأجلََّ ذكرَهم.
أيها المؤمنون.
إن اللهَ تعالى قد فرضَ لأهلِ العلمِ الراسخين والأئمةِ المرضيين حقوقاً، من أخذَ بها وعملَ نجا، ومن أعرضَ عنها أوقعَ نفسَه في الهلاكِ والرَّدَى.
أيها المؤمنون.
إن من حقوقِ أهلِ العلمِ محبتَهم وموالاتَهم، وذلك أنه يجبُ على المؤمنِ محبَّةُ المؤمنين وموالاتُهم، كما قال تعالى:﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) سورة التوبة: 71.، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فيجبُ على المسلمين بعد موالاةِ اللهِ تعالى ورسولِه صلى الله عليه وسلم موالاةُ المؤمنين، كما نطق به القرآنُ خصوصاً العلماءُ الذين هم ورثةُ الأنبياءِ" مجموع الفتاوى 20/231.
فحبُّ أهلِ العلمِ والدينِ قربةٌ وطاعةٌ، فإذا رأيتم الرجلَ يذكرُ أهلَ العلمِ بالجميلِ ويحبُّهم ويقتدِي بهم فأمِّلوا فيه الخيرَ، فهم القوم لا يشقى بهم جليسُهم.
عبادَ الله، إن من حقوقِ العلماءِ احترامَهم وتوقيرَهم وإجلالَهم، فإن إجلالَهم وتوقيرَهم من إجلالِ اللهِ تعالى وتوقيرِه، ولذلك قال بعض السلف: من السُّنةِ أن يُوقَّرَ العالمُ، ولقد كان السلفُ الصالحُ رحمهم الله يوقِّرون علماءَهم توقيراً كبيراً، ويتأدَّبون معهم، فهذا عبدُ الله بنُ عباسٍ رضي الله عنه حبرُ الأمة وترجمانُ القرآن، كان يأخذُ بركابِ ناقةِ زيدِ بن ثابتٍ رضي الله عنه ويقول: "هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا" جامع بيان العلم وفضله 1/253.
أيها المؤمنون.
إن من حقوقِ علماءِ الشريعةِ وحَفَظةِ المِلَّةِ الذبَّ عن أعراضِهم وعدمِ الطعنِ فيهم، فإن الطعنَ في العلماءِ العاملين والأئمةِ المهديين طعنٌ في الشريعةِ والدِّينِ، وإيذاءٌ لأولياءِ اللهِ الصالحين، ومجلبةٌ لغضبِ اللهِ ربِّ العالمين، فقد قال المولى الجليلُ في الحديثِ الإلهيِّ: (مَنْ عادَي لي وليّاً فقد آذنتُه بالحرْبِ) البخاري (6021).
فاتقوا اللهَ عباد اللهِ، واحفظوا ألسنتَكم عن الوقيعةِ في أهلِ العلمِ، فإن لحومَ العلماءِ مسمومةٌ، وسنةُ اللهِ في هتكِ أستارِ منتقِصِيهم معلومةٌُ، فعلماءُ الأمةِ الذين لهم لسانُ صِدقٍ لا يُذكرون إلا بالجميلِ، ومن ذكرهم بسوءٍ فهو على غيرِ السبيل.
أيها المؤمنون.
إن من حقوقِ أهلِ العلمِ طاعتَهم فيما يأمرون به من الدِّينِ، فإن الله تعالى قد أمرَ بطاعتِهم في محكمِ التنزيلِ، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) سورة النساء: 59، وأولو الأمرِ هم العلماءُ بالشرعِ والأمراءِ في الخلقِ، فالأمراءُ يُطاعون لأنهم يسوسون الناسَ فيما يَرجِعُ إليهم من أمرِ الدنيا والدِّينِ الظاهرِ، والعلماءُ يطاعون فيما يرجعُ إليهم من العِلمِ والدِّينِ، فأطيعوا عبادَ الله ولاةَ أمورِكم من العلماءِ والأمراءِ ترشَدوا، وعليكم بالجماعةِ، وإياكم والفرقةَ، فإن الشيطان مع الواحدِ وهو من الاثنين أبعدُ.
عبادَ الله! إن من حقِّ علمائِكم عليكم الرجوعَ إليهم فيما يُشكِلُ عليكم من أمرِ الدِّينِ، قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) سورة النحل: 43، فإلى العلماءِ الرجوعُ عندَ التباسِ الأمرِ وخَفائِه، فما حكموا به فهو المقبولُ المسموعُ؛ إذ إن كتابَ اللهِ عُدَّتُهم والسُّنَّةُ حجتُهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتُهم، وأقوالُ السلفِ مستندُهم.
أيها المؤمنون.
إن من حقوقِ فقهاءِ الإسلامِ وعلمائِه أن يؤخذَ بالصحيحِ من أقوالِهم، فلا يتبع أحدٌ من العلماءِ إلا حيثُ كان متوجِّهاً نحوَ الشريعةِ، قائماً بها، حاكماً بأحكامِها جملةً وتفصيلاً، فإذا خالف ذلك في شيءٍ من أقوالِه أو آرائِه لم يُؤخذْ به، فإن من أخَذَ بشواذِّ الأقوالِ ونوادرِ العلماءِ اجتمع فيه الشرُّ كلُّه، بل قال الأوزاعيُّ رحمه الله: "من أخذَ بنوادرِ العلماءِ فَفِي فِيه الحجرُ""شعب الإيمان"(1778).
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واستقيموا على أمرِه وشرعِه، وقوموا بما فرضَ عليكم من الحقوقِ لعلمائِكم، فإن العلماءَ هم أفاضلُ الأمةِ وخِيارُها.
الخطبة الثانية :
أما بعد.
فيا أيها المؤمنون.
اعلموا أن حاجتَكم إلى العلماءِ فوقَ كلِّ حاجةٍ، فهم واللهِ مصابيحُ الدُّجَى وعلاماتُ الهدى
فلولاهمُ كانت ظلاماً بأهلِها ولكن همُ فيها بدورٌ وأنجمُ انظر " متن القصيدة الميمية" لابن القيم.
فالعلماءُ في الناسِ كالشمسِ للدنيا والعافيةِ في الناسِ، فما لهم من خَلَفٍ ولا عنهم من عِوَضٍ، فالناسُ لا يعرفون كيف يُعبدُ اللهُ إلا ببَقاءِ العلماءِ، فإذا ماتَ العلماءُ تحيَّرَ الناسُ ودَرَسَ العلمُ بموتِهم وظهر الجهلُ، ففي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن اللهَ لا يَقبِضُ العلمَ انتِزاعاً ينتزِعُهُ من العبادِ، ولكن يقبِضُ العِلمَ بقبْضِ العلماءِ، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذَ الناسُ رؤُوساً جهّالاً فسُئِلوا فأفتوا بغيرِ علمٍ، فضلُّوا وأَضلُّوا) أخرجه البخاري (98)، ومسلم (4828).
فاتقوا اللهَ أيها المؤمنون، وبادروا بأخذِ العلمِ عن أهلِه قبل ذهابِه، فإن ذهابَه بذِهابِ حَمَلَتِه، فأقبِلوا أيها المؤمنون، أيها الشباب، يا طلابَ العلمِ، أقبِلوا على العلومِ النافعةِ، خُذوا العلمَ عن الأكابرِ، واجتهدوا في ضبطِه وحفظِه، ووفِّروا أوقاتَكم عليه، واصبروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.
أيها المؤمنون.
إن طلبَ العلمِ وتحصيلَه وأخذَه من أهلِه من أفضلِ القُرُباتِ وأجلِّ الطاعاتِ، لا سيما في هذه الأوقاتِ المتأخرةِ، التي فشا فيها الجهلُ بين الناسِ، وعظمت فيه الحاجةُ إلى العلماءِ الربانيين، الذين يبلِّغون رسالاتِ اللهِ وشرائعَه، فإذا قصرت منزلةُ أحدِكم عن تحمُّلِ هذه الأمانةِ العظمى، فلا أقلَّ من مجالسةِ أهلِ العلمِ والإفادةِ منهم، فإن صلاحَ القلوبِ في مجالستِهم، وقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إن من فقه الرجلِ ممشاه ومدخلُه ومخرجُه مع أهلِ العلم" جامع بيان العلم وفضله 1/251.
اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل، ربنا زدنا علماً وفقهاً ورشداً وصلاحاً.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وعملاً صالحاً.
اللهم ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
اللهم وفق علماء المسلمين في كل مكان إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة.
اللهم أعنهم ووفقهم وسددهم وألهمهم رشدهم وقهم شر أنفسهم.