نبأُ الهِجرةِ
الخطبة الأولى :
إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
فيا أيها المؤمنون.
إن اللهَ بعثَ محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودِينِ الحقِّ ليظهرَه على الدِّينِ كلِّه، وكفى بالله شهيداً، وقد خصَّه اللهُ تعالى بفضائلَ كثيرةٍ، ومناقبَ عديدةٍ، بزَّ بها الأولين والآخرين, ومن أعظمِ ما يظهرُ هذه الفضائلَ، ويبدي تلك المناقبَ والخصائصَ سيرتُه الطيبةُ صلى الله عليه وسلم , فسيرتُه من أكبرِ دلائل فضلِه وعلاماتِ صِدقِه، فهي آيةٌ من آياتِ صدقِ رسالتِه ونبوَّتِه، قال ابن حزم رحمه الله: "فهذه السيرةُ العظيمةُ لمحمدٍ لمن تدبَّرَها، تقتضي تصديقَه ضرورةً، وتشهدُ له بأنه رسولُ اللهِ حقًّا، فلو لم تكن له معجزةٌ غيرُ سيرتِه لكفى" جوامع السيرة (2)..
كيف لا؟ وسيرتُه وسنتُه وأيامُه هي التطبيقُ العمليُّ لدينِ الإسلامِ، فهي من أعظمِ ما يُعينُ على فهمِ الشريعةِ، وسيرتُه من أسبابِ زيادةِ محبتِه والإيمانِ به صلى الله عليه وسلم ، فذِكْرُه وذِكرُ سيرتِه صلى الله عليه وسلم يحيي القلوبَ، ويداوِيها من أسقامِها وعِلَلِها، وقد أجادَ من قال:
إذا مَرِضْنا تَدَاوَيْنا بذكرِكُمُ ونترك الذكرَ أحياناً فننتكسُ
وسيرتُه صلى الله عليه وسلم عندَ العلماءِ والأولياءِ ليست قصةً تُتلى، ولا قصائدَ تُنشدُ، ولا مدائحَ تنسجُ، بل هي سنةٌ يستنُّ بها أولو الألبابِ والنُّهى، وبها تُوزنُ الأقوالُ والأعمالُ والرِّجالُ، وهذا بعضُ ما جعلَ السلفَ -رحمهم الله- يحتفون بسيرةِ النبيِّ المختارِ، ويخصُّونها بالكتبِ والمؤلفاتِ.
أيها المؤمنون.
إن السيرةَ النبويةَ المطهرةَ حافلةٌ بالعِبرِ والدروسِ، مليئةٌ بالأحداثِ الكبارِ والأخبارِ العظامِ، ومن تلك المناراتِ البيضاء، والأحداثِ الكبار، التي غيرت مجرى التاريخِ البشري، وحولت وجهَه، وأشرقت الأرض بنورِها، ضياءً وابتهاجاً، حدثُ هجرتِهِ صلى الله عليه وسلم ، من مكةَ البلدِ الحرامِ إلى طيبةَ، مدينةِ الأنصارِ، وإليكم طرفاً من نبأ تلك الحادثةِ المعظمِ، وذلك التاريخِ المجيدِ:
قال أصحابُ السِّيَرِ: لما بلغ ضيقُ قريشٍ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ودعوتِه منتهاه استقرَّ رأيُ قريشٍ، بعد المشاورةِ والمداولةِ على قتلِه صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) الأنفال: 30، أتاه جبريلُ وأخبره الخبرَ، وقال: لا تَبِتْ هذه الليلةَ على فراشِك، فإن اللهَ يأمُرُك بالهجرةِ, فخرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وقد اختارَ لصُحْبتِه صدِّيقَ هذه الأمةِ وأفضلَها بعد نبيِّها، أبا بكر الصديق رضي الله عنه , فلَحِقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغارٍ في جبلِ ثور، فكنا فيه ثلاثَ ليالٍ، يبيت عندهما عبدُ الله ابنُ أبي بكر وهو غلامٌ شاب ثقِفٌ, فيدلج من عندِهما بِسَحَرٍ، فيصبحُ مع قريشٍ بمكةَ، كَبَائِتٍ فيها، لا يسمعُ شيئاً مما يكيدُه الكفارُ لرسولِ اللهِ، إلا وعادَ ليخبرَه بذلك، يفعلُ ذلك كلَّ ليلةٍ في تلك الليالي الثلاثِ، فطفق المشركون يرصدون الطرقَ، ويفتِّشُون كلَّ مهربٍ، ينقِّبون في جبالِ مكةَ وكهوفِها، حتى وصلوا إلى قريبٍ من الغارِ، فأخذ الروعُ من أبي بكر كلَّ مأخذٍ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أبا بكر ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثُهما» أخرجه البخاري (3653) ومسلم (2381) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وذلك ما قصُّه اللهُ تعالى في كتابِه: ﴿إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) سورة التوبة: 40، فأعمى اللهُ أعينَ الكفارِ عن نبيِّه وصاحبِه، فلما مَضَت الليالي الثلاثُ، وخمد حماسُ المشركين في الطَّلَبِ، جاء عبدُ الله بن أبي أريقط، فارتحلَ معه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وصاحبُه، قاصداً المدينةَ النبويةَ، غير أن قريشاً ساءَها أن تخفِقَ في استرجاعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وصاحبِه، فجعلت ديةَ كلِّ واحد منهما جائزةً لمن يجيءُ بهما حيَّيْن أو ميتين، وقد أغرى هذا العطاءُ السَّخِيُّ عدداً غيرَ قليلٍ من شبابِ العربِ، فجدُّوا في طلبِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصاحبِه، وركبوا المخاطرَ، وتحمَّلوا المشاقَ، وكان من أولئك الشبان سراقةُ بنُ مالك بن جعشم، فخرجَ في طلبِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم .
واسمعوا أيها المؤمنون إلى نبأِ ما جرى لسراقةَ نفسِه، قال رضي الله عنه : بينما أنا جالسٌ في مجالسِ قومي بني مدلجٍ, إذ أقبلَ رجلٌ منهم حتى قامَ علينا، ونحن جلوسٌ، فقال: يا سراقةُ، إني رأيتُ أسودة بالسَّاحلِ أراها محمداً وأصحابَه, قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت لهم: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيتَ فلاناً وفلاناً، ثم لبثتُ في المجلسِ ساعةً ثم قُمتُ، فدخلتُ فأمرت جاريتي أن تخرجَ بفرسي، وهي من وراء أكمةٍ فتحبسُها عليَّ، وأخذتُ رمحي فخرجت به من ظهرِ البيتِ، فركبتُ فرسي وانطلقتُ حتى قربتُ من رسولِ الله، فعثُرَت بي فرسي فخرَّرت عنها، ثم قمتُ فامتطيت فرسي ثانيةً وزجرتُها، فانطلقتُ فدنوتُ منهم حتى سمعتُ قراءةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفِتُ، وأبو بكر يكثِرُ الالتفاتَ، فلما قربتُ منهم ساخَت يدا فرسي في الأرضِ، حتى بلغتْ الركبتين، فخررتُ عنها ثم زجرتُها فنهضت، فلما زجرتها واستوتْ قائمةً، خرجَ لأثرِ يديها دخانٌ ساطعٌ في السماءِ، فناديتُهم بالأمانِ، فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتُهم، ووقعَ في قلبي حين لقيتُ ما لقيتُ من الحبْسِ عنهم أن سيظهرُ أمرُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ، فأخبرتُ رسولَ اللهِ خبرَ الناس، وعرضتُ عليه الزادَ والمتاعَ، فقال: لا حاجةَ لنا، ولكن أخفِ عنا الطلبَ، فجعلت لا ألقى أحداً في الطلبِ إلا ردَدْتُه، وقلت لهم: كفيتُكم هذا الوجهَ.
فسبحان مقلبِ القلوبِ!! خرجَ أول النهاِر جاهداً عليهما، وأمسى آخرَه حارساً لهما، وقد أعربَ سراقةُ في أبياتٍ قالها عن سرِّ هذا الانقلابِ، مخاطباً أبا جهل لما عاتبَه على ما فعلَ:
أبا حَكَمٍ واللهِ لو كنتَ شاهداً *** لأمرِ جوادي إذ تسُوخُ قوائمُه
علمتَ ولم تشككْ بأنَّ محمداً **** رسولٌ ببرهانٍ، فمن ذا يقاومُه
عليك بكـفِّ القومِ عنه فإنَّني *** أرى أمرَه يوماً ستبدُو معالمُه أخبار مكة 4/84
أيها المؤمنون! لقد شاع خبرُ خروجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من مكةَ في جوانبِ الصحراءِ، فعلم به البدوُ والحضرُ، وكان ممن ترامت إليهم الأخبارُ، وطرقتهم الأنباءُ، أهلُ المدينةِ النبويةِ، فكانوا يخرُجون يرتقبون وصولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، ويتشوَّقُون إلى مَقدِمِه الكريمِ، ومطلعِه البهيِّ، كلَّ صباحٍ، يمدون أبصارَهم وقلوبَهم إلى حيثُ تنقطعُ الأنظارُ، يرقبون مجيءَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فإذا اشتدَّ الحرُّ عادوا إلى بيوتِهم يتواعدون الغَدَ، وفي اليومِ الثاني عشر من شهرِ ربيعٍ الأول، عام ثلاثة عشر من البعثةِ النبويةِ خرج المهاجرون والأنصارُ على عادتِهم، ينتظرون الرسولَ صلى الله عليه وسلم ، فلما حمِيَت الشمسُ رجعوا إلى بيوتِهم، فما لبثوا أن سمعوا هاتفَ السعادةِ يصيحُ ويصرخُ بأعلى صوتِه: يا بني قِيلة، هذا صاحبُكم قد جاءَ، هذا جَدُّكم الذي تنتظرون، فارتجَّت المدينةُ تكبِيراً، ولبست طيبةُ حلةَ البهجةِ والسُّرورِ، وخرجَ أهلُها يستقبلون رسولَهم الكريمَ، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، فخرجوا للقائِه فتلقَّوْه، وحيَّوْه بتحيةِ النبوةِ، فأحدَقوا به مطيفين حولَه، والسكينةُ تغشاه، والوحيُ ينـزلُ عليه: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) سورة التحريم: 4، فبنى صلى الله عليه وسلم مسجدَ قُباءَ أولاً في بني عامر وبني عوف، وهذا أولُ مسجدٍ أسِّسَ بعد النبوةِ، ثم نزلَ بعد ذلك في بني النجارِ أخوالِه بتوفيقٍ من اللهِ، ثم بنى مسجدَه حيث بركت الناقةُ، وآخى بين المهاجرين والأنصارِ، وغَدَتْ طيبةُ بمقدِمِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عاصمةَ الإسلامِ، ودارَ الهجرة، الغُرةُ لأهلِ الإيمانِ.
فالحمدُ لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحبُّ ربنا ويرضى.
الخطبة الثانية:
أما بعد.
فيا أيها المؤمنون! هذا نبأُ هجرةِ نبيِّكم صلى الله عليه وسلم ، وقد سمعتم طرَفاً منه، وهو نبأٌ عظيمٌ، بدا فيه كثيرٌ من العِبَرِ والعِظاتِ، التي من أبرزِها وأظهرِها بديعُ صنعِ الله تعالى لدينِه وأوليائِه وحزبِه، رغم شدَّةِ كيد الأعداءِ ومكرِهم وخصومتِهم، فإن أعداءَ اللهِ ورسولِه مكروا مكراً كُبَّاراً، فكادوا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وهموا بقتلِه لإطفاءِ نورِ رسالتِه وإزهاقِ دعوتِه، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) سورة الأنفال: 30 ،فأفسدَ اللهُ كيدَهم، وخيَّب مكرَهم، وقلبَ عليهم أمرَهم، فكانت الهجرةُ المباركةُ التي جعلها الله فتحاً ونصراً للإسلامِ وأهلِه، كما قال تعالى: ﴿إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة: 40 ، فأخرج اللهُ رسولَه من دارِ الأذى والمحنةِ إلى دارِ العِزِّ والمنَعَةِ، فللهِ الحمدُ أولاً وآخِراً وظاهراً وباطناً، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
أيها المؤمنون! إن أعداءَ الله تعالى مهما بلغوا من القوةِ في المكرِ، والشدةِ في الكيدِ، والرصانةِ في التخطيط، لإطفاءِ نورِ الله تعالى وتعذيبِ وإبادةِ أوليائِه وأحبابِه، فإنهم لن يغيروا سننَ اللهِ الثابتةِ، ولا وعودَه الجازمةَ بنصرِ أوليائِه وأحبابِه، فاللهُ غالبٌ على أمرِه، ولكن أكثرَ الناسِ لا يعلمون، واللهُ تعالى من ورائِهم محيطٌ، ومكرِهم عندَ اللهِ جلَّ ذكرُه، كما قال سبحانه: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) سورة إبراهيم: 46-47..
ووعدُه الذي لا يخلفُه هو ما ذكرَه في قولِهِ:﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) سورة المجادلة: 21 ، فعلى أولياءِ الله تعالى في كلِّ عصرٍ ومصرٍ أن يصبروا، لا سيما في هذا الوقتِ العصيبِ، الذي اشتدَّ فيه أذى أعداءِ الملةِ، من اليهودِ والنصارى والمشركين والمبتدِعين، والمنافقين والعلمانيين وغيرِهم للإسلامِ وأهلِه، وعليهم أن ينتظروا الفرجَ من اللهِ تعالى، فإن المكرَ مهما أُحكِمت أساليبُه، وتوالت خُطُوبُه، واشتدَّت قُوَّتُه، فإنه لا يقومُ لمكرِ اللهِ تعالى وكيْدِه، كما قال جلَّ ذكرُه عن أعدائه: ﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) سورة الرعد:13 ،وكما قال: ﴿وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) سورة النمل:50.
أيها المؤمنون.
إن هذا الشهرَ -ربيعاً الأولَ- كان محَلاً لأحداثٍ كِبارٍ، غيَّرت وجهَ التاريخِ، ففيه وُلدَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم على قولِ كثيرٍ من أهلِ العلمِ، وفيه وصلَ المدينةَ مهاجراً، وفيه توفي صلى الله عليه وسلم وانقطعَ الوحيُ من السماءِ، وقد مضى السلفُ الصالحون، الذين هم بالكتابِ والسنةِ مستمسِكون على عدمِ تخصيصِ هذا الشهرِ بشيءٍ، من الأعيادِ أو المناسباتِ أو الأفراحِ بمولدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، أو هجرتِه، ولا بشيءٍ من المآتمِ أو الأحزانِ لموتِه، وانقطاعِ الوحيِ من السماءِ، بل مضوا -رحمهم اللهُ -على عدِّ هذا الشهرِ كغيرِه من الشهورِ، فلما ضَعُفَ إيمانُ الأمةِ باللهِ ورسولِه، ووهِنَ استمساكُها بهديِه وسنَّتِه أحدثَ فِئامٌ من الجُهَّالِ في المائةِ الرابعةِ من الهجرةِ أعياداً أو مناسباتٍ، فاتخذوا مولدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عِيداً يحتفلون به، ويصنعون فيه الولائمَ، ويتلقون التهانيَ، وينشدون القصائدَ والمدائحَ الطافحةَ بالشِّركِ والإطراءِ، الذي نهى اللهُ عنه ورسولُه، فخالفوا بهذه البدعةِ هديَ الصحابةِ رضي الله عنهم والتابعين، الذين هم أعمقُ إيماناً وأرسخُ علماً وأعظمُ حبًّا لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وتعظيماً مِنَّا، فاحذروا عبادَ اللهِ البدعَ والمحدَثَاتِ، فإنها لا تزيدُكم من اللهِ إلا بُعْداً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه يقول: «فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ» أخرجه أحمد (13924)، والنسائي (1578) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، وصححه الألباني .
فاهجروا -بارك الله فيكم- البدع واستمسكوا بالسنن:
فخيرُ الأمورِ السالفاتُ على الهدى وشرُّ الأمورِ المحدثاتُ البدائعُ